يخطئ التيار السلفي في مصر في موقفه من المدنية، نتيجة مصادر عديدة لسوء الفهم والخلط بين هذا المفهوم التراثي الموجود مقبولا في تراث السلف، وبين «العلمانية الشاملة» حسب تعبيرات مفكرنا الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله. فالمدنية صفة للتعايش وتنظيم علاقات الناس الطبيعية والمستمرة، ومنها كان تعبير القانون المدني، وهي في جذرها العربي الأول ذات صفة روحية، حيث استخدمها علماء القرآن في البداية نسبة إلى «المدينة المنورة»، وهو الاسم الذي اختاره النبي محمد صلى الله عليه وسلم بديلا لـ «يثرب» في تقسيم سور القرآن الكريم.
هكذا تنسب المدنية وترتبط بفكرة «المدينة» بالأساس، بما تعنيه من اجتماع وتعايش إنساني منظم بشرائعه وقوانينه. وأرجو أن يتذكر المعترضون على الإسم، صحيفة المدينة أو وثيقة الحقوق. ولذا لم يجد جل فقهاء السلف الأوائل حرجا من استخدام ما قاله فلاسفة اليونان من أن «الإنسان مدني بطبعه». فقد استخدمها القاضي أبو بكر بن العربي «ت 543 هجرية»، كما استخدمها واستقبلها بالقبول كل من الفخر الرازي «ت 606 هجرية» ابن تيمية «ت 728 هجرية» وابن القيم «ت 758 هجرية» وابن خلدون «ت 808 هجرية» وغيرهم، بل لعل هذا الأخير (ابن خلدون) استلهم منها مفهوم العمران ودعوته لهذا العلم، الذي كان سندا ودعما لكل دعوات التمدن الإسلامي في القرن التاسع عشر، عند أمثال رفيق العظم الذي حاول احياء محاولة ابن خلدون، أو الامام محمد عبده، الذي أعاد إحياء ونشر مقدمته بعد أن راكم دعاة الإنغلاق التراب فوقها.
والسؤال هنا.. إذا كان علماء التراث ووجوهه القدامى، قد استقبلوا هذه المقولة «الإنسان مدني بالطبع» قبولا حسنا وتعاملوا معها باعتبارها من المسلمات، فلماذا أصبحت كلمة «مدني» أو «مدنية» تعني الآن شيئا مشبوها عند السلفيين المعاصرين، وتستنفر قواعدهم وشيوخهم، ويجعلونها ضد الدين؟
الفهم السلفي المعاصر للمدنية
يكره السلفيون المعاصرون في مصر وبعض البلدان العربية كلمة «المدنية» التي تشعل جام غضبهم وثورتهم، وتكون محل تحفظهم، رغم أن السلف الأقدمين قد عرفوها بصيغ متعددة، كما أشرنا آنفا، سواء لنسبتها للمدينة المنورة (في تقسيم النص القرآني)، أو النسبة للمدينة في الأسماء، أو في بعض الكتب مثل «الرسالة المدنية» لابن تيمية، أو بمعنى التعايش الاجتماعي والإنساني المدني الرابط بين بني الإنسان بشكل عام.
ونكتفي هنا للتدليل على الموقف السلفي المعاصر من مفهوم تعبير أو كلمة «المدنية» الإشارة إلى مواقف الشيخ ياسر برهامي رئيس الدعوة السلفية، وحزب النور السلفي، من هذا المفهوم، حيث لا تأتي كلمة المدنية في نص قانوني أو تشريعي أو دستوري، إلا وسارع التيار السلفي في مصر لإعلان موقفه الرافض لها، فهي تنحصر عندهم في العلمانية بمعناها الشامل اللاديني وليس غيره.
ويجاهد هؤلاء ويقاومون هذه الكلمة، التي تكاد تنحصر حولها نضالاتهم ورسالة دعوتهم، وحزبهم «النور السلفي» الذي ينشط من أجل مجابهتها. وقد وجدنا هذا في مواقف كثيرة، بدءا من موقفهم من وثيقة الدكتور على السلمي سنة 2012، مرورا بتعديلات لجنة الخمسين، وصولا للتعديلات الدستورية الأخيرة سنة 2019، والتي انحصر انتقاد السلفيين لها – رغم موافقتهم عليها- في التحفظ على كلمة مدنية فقط.
إنها إذن الكلمة المدنسة التي يقاتلها هؤلاء وتشعل حماسهم وغيرتهم على المقدسات وعلى الشريعة وعلى الإسلام، فيقول الداعية ياسر برهامي: «إن إضافة كلمة مدنية للدولة من المقترحات المستفزة التي أصابت البعض بالقيء والغثيان، وارتفاع الضغط وجلطة القلب والمخ».
كما يقول في موضع آخر ،رافضا ما يسمى الدولة المدنية: «المقصود بالدولة المدنية هى دولة لا مرجعية للشريعة فيها»، محذرا من محاولات تجرى لصياغة دولة قانونية تقيد العمل من أجل الإسلام، وتفرض على الناس أنواعا من القهر الجديد.
هذا موقف الشيخ ياسر برهامي والدعوة السلفية المعاصرة من مفهوم المدنية الذي يحمّله ما لا يطيق.
أما موقف المرجع السلفي الكبير الشيخ أحمد ابن تيمية رحمه الله فمختلف تماما.. ففي رسالته «الرد على البكري» يقول ابن تيمية: «الناس في مصالح دنياهم متعاونون عليها، إذ كان الإنسان مدنيا بالطبع لا تتم مصلحته إلا ببني جنسه يعاونونه على جلب المنفعة ودفع المضرة والمعاوضة بينهم هي التي تبعث على المعاونة أو كل منهم لا يفعل إلا ما يجلب إلى نفسه به منفعة أو يدفع به مضرة، لهذا يقال الإنسان مدني بالطبع».
ويقول أيضا في «بيان تلبيس الجهمية»: «والانسان مدني بالطبع لا يعيش الا مع بني جنسه، ومن لم يقر الا بما أحسه لم يمكنه الاستعانة ببني جنسه في عامة مصالحه». ويضيف، في موضع آخر: «الإنسانُ مَدَنِيٌّ بالطَبعِ لا يَستَقِلُ بتَحصِيلِ مصالحه، فلا بُدَّ لهم مِن الاجتماع للتعاون على المصالح». والرأي نفسه قاله ابن القيم «توفي 758 هجرية»: «إن الإنسانَ مَدَنِيٌّ بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس».
وقبلهما أكد الفخر الرازي «المتوفى سنة 606 هجرية» في تفسير قوله تعالى «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض» البقرة – آية 251، على حقيقة الاجتماع الإنساني وضرورة تنظيمه وتقنينه ووقع السلطة والتشريع فيه، بقوله: «إن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا، ولا يبني هذا لذاك، ولا ينسج ذاك لهذا، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولاً، والمقاتلة ثانياً، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات».
أما أبو بكر بن العربي (توفي 543 هجرية) فيقول: «لما كان الإنسان مدنيا بالجِبِلَّةِ، مفتقراً إلى الصحبة بالضَرُورَةِ، لأنه خُلِقَ خَلقاً لا يَستَقِلُ بمعاشه ولا يستبد بمنافعه بل هو مُفتَقِرٌ في ذلك إلى غيره، وكان ذلك الغير إما مجتمعا معه وإما مبايناً عنه، والمنفعة التي يفتقر إليها إما حاضرة وإما غائبة… إلخ».
المدنية والفكر العربي الحديث
في هذا المقال القصير نحاول تفكيك مصادر سوء الفهم هذه لمفهوم المدنية، عبر تتبع المفهوم نفسه في الفكر العربي الحديث والقديم، وكذلك مفهوم العلمانية الذي تأخر أكثر من قرن في استخدامه بوضوح، كما قل مستخدموه المصرون عليه أحيانا كثيرة، ربما لما يحمله من مفاهيم غربية أو غير اسلامية أولا، وثانيا لأنه غير عملي وغير اجتماعي، شأن المدنية ذات الجذر العربي لغويا وثقافيا في أحيان أخرى.
أولا كانت المدنية أسبق من العلمانية في الفكر العربي المعاصر، فقد ظهر مفهوم المدنية ومشتقاته عربيا – مدني ومدنية وتمدن- بدلالاتها نفسها التي تعني التعايش والعمران الإنساني القائم على الروح المدنية والتسامح والتشارك والتعايش الاجتماعي والحضاري، قبل أن يظهر مفهوم العلمانية بعقود كثيرة، لكن تم استدعاؤه لدى بعض المفكرين المعاصرين بهدف تحرير الجدل النهضوي والفكري من حمولات مفهوم العلمانية في التاريخ الغربي، كفصل بين الكنيسة والدولة في القرن السادس والسابع عشر في أوربا.
كما برز هذا المفهوم في أواخر القرن التاسع عشر في كتابات متعددة حول سؤال التقدم والتخلف والتمدن العربي والإسلامي، لأمثال رفيق العظم وأحمد حافظ عوض ومحمد توفيق رفعت وغيرهم، كما ظهر بقوة في العقد الثاني من القرن الماضي خلال معركة «مدنية القوانين» و الجدل الثقافي والسياسي الذي سبق وزامن صدور دستور 1923.
ما نريد قوله هنا هو أن مفهوم «المدنية» سابق بعقود في الخطاب العربي المعاصر عن مفهوم العلمانية الذي لم يظهر إلا منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، ولم يكن يستخدمه من يوصفون بآباء العلمانية العربية، أمثال أديب اسحاق وفرانسيس مراش وشبلي شميل وفرح أنطون، أو رواد النهضة من اتجاه الأصالة شأن عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وربما لم يعرفوه بهذه الصيغة إلا كتعبير كنسي، في الإشارة لغير رجال الدين، كما لم يطرح تعبير العلمانية فيما عرف بالخلاف بين الأفندية أصحاب الطرابيش والمشايخ أصحاب العمائم الذي شهدته صفحات المجلات المصرية في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين.
قد يكون الأدق القول بأن المدنية ليست مفهوما تتعدد أفهامه، كما أنه ليس مصطلحا، بل هو إطار مفاهيمي واسع، يرتبط بمضامين التمدن و التقدم الإنساني والعقلي والحرية الفردية والتعايش الاجتماعي العمراني، دون تمييز على أسس الانتماءات الأولية.
ومن هنا نرى أن عدم معرفة أوتجاهل التيار السلفي المصري لهذه الخلفيات، هو أحد مصادر فهمه الخاطئ الذي يرادف بين المدنية أو الإلحاد ومعاداة الدين والعلمانية الشاملة التي تشملهما. فمهفوم المدنية أوسع من الديني الذي يتصالح معه ويحتويه دون أن يعاديه.
المدنية كمفهوم اجتماعي وعقلي
بدأ الاستدعاء الثاني لمفهوم «المدنية» خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، مع ظهور ما يسمى المشاريع الفكرية العربية، وخاصة تلك التي حاولت الجمع بين مفهومي الهوية والتجديد، شأن المفكر الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، ولهذا السبب السابق كان استدعاء مفهوم المدنية بديلا لمفهوم العلمانية بحمولاتها ومعانيها الغربية والكنسية والثقافية العديدة، إذ أن مفهوم المدنية أكثر مناسبة لنا قبولا.
لكن مفهوم المدنية بدأ يتسع ليشمل أصله الثقافي والاجتماعي والثقافي في تعبيرات المجتمع المدني ومنظماته، والدعوة للحياة المدنية والتعليم المدني، والحديث عن «التربية المدنية والمواطنة» القائمة على التسامح الديني والثقافي والسياسي بين أبناء المجتمع.
اقرأ أيضا:
التيار السلفى.. براجماتية الواقع ومنهجية التحايل
أما مفهوم العلمانية المعاصر، وخاصة الشاملة، فلا نعرف داعية من دعاة النهضة بدءا من الأفغاني أو محمد عبده أو الكواكبي، بل ولا حتى فارس الشدياق وفرح أنطون، وصولا للجيل التالي، مثل لطفي السيد وطه حسين والعقاد وسعد زغلول، استخدم هذه الكلمة مطلقا، ولم تظهر كتابات بعنوانها إلا متأخرا، ربما في سبعينيات أو ثمانينيات القرن العشرين فقط، عند أمثال عادل ضاهر ومراد وهبة وآخرين.
وأرجو ألا يفهم أحد هنا، أننا نتبنى هذه الدعوة النظرية غير العملية لاستبدال مفهوم بديلا عن مفهوم، فما نحاول تقديمه في هذا المقال هو التأريخ والتحقيق المفهومي، بهدف مناقشة وتصحيح وتعرية هذا الموقف المتشنج للتيار السلفي المعاصر من مفهوم المدنية، والذي أراد به استخدام كل أسلحة التكفير والاتهام لكل ما هو مدني، ولكل صفة مدنية رغم أن هذاغير صحيح، ورغم أن كثيرين من المحسوبين على الفكر الإسلامي في القرن العشرين، استخدموا هذا المفهوم ولم يروا فيه حرجا، وأبرزهم الفقيه الدستوري الراحل عبد الرزاق السنهوري في موسوعته في القانون المدني، الذي يضع المدنية كإطار لتنظيم علاقات الناس.
هذه إشارات تكشف الخلط والإصرار على احتكار الحق والحقيقة والمرجعية، يكرر فيها البعض دعوات الشيخ عليش ضد تعليم الفلسفة وعلم الكلام في الأزهر قديما، كما يكرر بها الخوف المبالغ فيه من كل جديد وكل آخر وكل صفة لخصومه حتى وإن قبلها أسلافه.. وهكذا لا يفهم السلفيون المعاصرون كلمة «المدنية» بينما فهمها ابن تيمية قديما، والسنهوري وغيره حديثا.