في 19 ديسمبر من عام 1914، وعقب يوم واحد من إعلان بريطانيا الحماية على مصر، وإنهاء علاقتها بالدولة العثمانية بعد احتلال دام قرابة 400 عام، ساقت جريدة «الأهرام» إلى أهل المحروسة خبر عزل الخديوي عباس حلمي الذي كان ينتظر عودته إلى مصر للإعلان عن دستور كامل للشعب، وحاول في بيان أصدره من محل إقامته في اسطنبول أن يبرر عدم وجود دستور كل هذه السنوات بتدخل الإنجليز في شئون البلاد.
وتحت عنوان «التغيير العظيم.. في مركز القطر المصري» كتبت «الأهرام» في صدر صفحتها الأولى يوم 19 ديسمبر من عام 1914م الموافق 2 صفر من عام 1332 هـ: «أصدرت الوقائع المصرية الملحق الأتي وهو بنصه» يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى، أنه بالنظر إلى إقدام سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق على الانضمام لأعداء جلالة الملك رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوى، وقد عُرض هذا المنصب مع لقب سلطان مصر على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد علي فقبله».
كان الخديوي عباس حلمي قد استشعر أن الإنجليز ينوون الغدر به فأراد أن يضمن تأييد الشعب له، وأعلن بعد سنوات من المماطلة منح الأمة دستورا يصون حقوقها، وبالفعل أصدر في 11 نوفمبر من عام 1914، بإيعاز من الزعيم الوطني محمد فريد، الذي كان يزوره في اسطنبول، بيانا يحمل إلى الشعب بشرى منحه الدستور.
محمد فريد ودستور 1914
كان هدف الخديوي غير المعلن هو ضمان ولاء المصريين، واستمالتهم إلى جانبه، ودفعهم لمساندة جيوش الدولة العثمانية التي بدأت تتجه إلى الحدود المصرية لطرد الإنجليز بعد قراراها مشاركة ألمانيا والنمسا في الحرب العالمية الأولى ضد إنجلترا.
ووفقا لما أورده المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية» فإن صاحب فكرة إعلان دستور 1914 هو الزعيم محمد فريد، الذي رهن صلحه مع الخديوي بعد سنوات من القطيعة على صدرو إعلان منح المصريين الدستور.
كان عباس قد تعرّض لعملية اغتيال فاشلة في 25 يوليو سنة 1914 على يد الطالب المصري محمود مظهر، الذي كان يدرس في المدرسة البحرية العثمانية، فانتقل الزعيم محمد فريد من منفاه الاختياري في جنيف إلى اسطنبول ليعود الخديوي، ونصحه في تلك الزيارة بمنح الدستور للشعب المصري.
أكد الخديوي لفريد أنه كان ينوي بالفعل إصدار دستور للبلاد. وفي خريف 1914 تطورت الأمور في مصر بشكل متسارع مع دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا ضد إنجلترا، وفي 2 نوفمبر أعلن الفريق مكسويل قائد الجيوش البريطانية بمصر الأحكام العرفية في البلاد ووضع الصحف تحت الرقابة.
في ذلك الوقت كانت الجيوش التركية تستعد للتوجه نحو حدود مصر الشرقية لمحاربة الإنجليز وطردهم من البلاد، فوجه الخديوي رسالته إلى الأمة، قال فيها محرضا الشعب ضد الاحتلال الإنجليزي: «أبناء مصر والسودان الأعزاء.. ها قد أتت الساعة لخلاصكم من احتلال أجنبي وطأ البلاد من 32 سنة مضت، بدعوى أنه مؤقت، وأنه لتـأييد الأريكة الخديوية، كما تدل عليه تصريحات الحكومة الإنجليزية، ووعود رجالها الرسميين العلنية، لكنه ما مضت عليه الأعوام حتى نسى الوعود بالجلاء، وتداخل في شئون البلاد الإدارية والسياسية، فتصرف في مالية الحكومة تصرف المالك المبذر، واعتدى على حقوقنا في السودان، وأحل أبناءه مكان الوطنيين في الوظائف العمومية، وسلب استقلال القضاء، وسن القوانين الماسة بالحرية الشخصية والمضيقة على حرية الفكر والخطابة والكتابة والاجتماع، وقاوم رغباتنا ورغبات رعايانا في انتشار التربية والتعليم الصحيح في أرجاء القطر وفي منح البلاد دستورًا كاملًا يتناسب مع أحوال التقدم العصري».
وأضاف عباس في رسالته: «ولمّا أعُلنت الحرب الحاضرة بين الدول العظمى، جاءت الحكومة الإنجليزية فمنعتنا عن الرجوع إلى مصر، ودعتنا لترك الأستانة والرحيل لإيطاليا، فرفضنا هذا الطلب رفضًا باتًا، واعتبرناه أقصى ما تتعدى به هذه الدولة على حقوق الخديوية المصرية».
ووعد عباس أنه في حال نجاح الجيوش العثمانية في طرد الإنجليز بمعاونة المصريين، فإنه سيعلن «منح الأمة الدستور، وإلغاء القوانين المنافية للحرية، وإعادة الضمانات لاستقلال القضاء، والعفو عن المجرمين السياسيين، ومن صدرت ضدهم أحكام ورفعت عليهم دعاوى بسبب الحوادث الأخيرة، والعمل على تعميم التعليم وترقيته، وكل ما فيه تقدم البلاد المادي والأدبي، والسهر على راحة سكانها، وتوفير أسباب سعادتهم».
وأنهى الخديوي رسالته مخاطبا المصريين قائلا «ها هي الفرصة فانتهزوها، وليكن شعاركم خلاص مصر، مع احترام أرواح وأموال سكانها الأجانب، فإنه ليس لنا مقاوم فيها غير جيش الاحتلال، ومن يحاربنا معهم؛ حقق الله الآمال».
عباس حلمي خلال إقامته في أوروبا بعد عزله
فشل المحاولة
فشلت محاولة عباس في استرضاء المصريين كما فشلت محاولته العودة إلى مصر، وتولى عمه حسين كامل سلطانا على البلاد، وأصدر تكليفا سلطانيا لحسين رشدي باشا بإعادة تشكيل الحكومة، وأعلنت الأحكام العرفية في البلاد خلال الحرب العالمية، ومنع على المصريين التعاون مع الألمان، وفتحت المعتقلات أبوابها لكوادر ورموز الحركة الوطنية المصرية، خاصة أعضاء الحزب الوطني الذين كان يناصبون الإنجليز العداء.
لم يحزن المصريون على عزل عباس حلمي وطرده من مصر، فالرجل في سنوات ما قبل عزله توافق مع الإنجليز بعدما كان يشجع على الثورة ضدهم ويدعم الحركة الوطنية وصحفها، لكن مبعث حزن أهالي المحروسة الذين كانوا يعانون الأمرّين هو فرض الإنجليز إرادتهم وتوغلهم في شئون الحكم وإعلانهم الأحكام العرفية وحبس كل من يعارض سطوتهم.
وقد عمل عباس حلمي خلال رحلاته بين اسطنبول وبعض العواصم الأوربية على تأليب حكومات أوروبا على عمه السلطان حسين كامل، في ذات الوقت كان يرسل الأموال إلى محاسيبه في مصر ليحرّضوا الشارع على السلطان الجديد. وبعد فترة بدا هتاف «الله حي.. عباس جاي» يتردد في الموالد، ثم في شوراع المدن والقرى.
وبعد وفاة السلطان حسين كامل في 1917، عُرض الحكم من بعده على شقيقه الأمير كمال الدين حسين لكنه اعتذر حتى «يتجنب المسؤلية وإزعاجها»، فحاول الخديوي المعزول عباس أن يستغل الفرصة، فدعا إلى عودته إلى عرش مصر، وطالب من عواصم أوروبا بمساندته في انتزاع حقه، وأجزل العطاء إلى أعوانه في الداخل ليهتفوا له في الشوراع.
عباس حلمي في منفاه في أوروبا
فؤاد سلطانا على مصر
لكن الأمر في النهاية استقر إلى ابن شقيقه فؤاد الذي أعُلن سلطانا على مصر، ورغم ذلك لم ييأس عباس حلمي، وظل يناكف السلطان الجديد، ويدعو، مرة من جينف، ومرة من روما إلى أحقيته في عرش مصر. وبعد إعلان إنهاء الحماية البريطانية بتصريح 28 فبراير عام 1922، تحولت مصر من سلطنة إلى مملكة، واعترفت بريطانيا بأحمد فؤاد الأول ملكًا على مصر، كما اعترفت بولاية العهد للأمير فاروق، ووضع الملك فؤاد نظامًا لتوارث عرش المملكة المصرية، وصدر به أمر ملكي، و«لم يكن الخديوي قد تنازل من جهته عن حقه، ولم يعترف بهذا النظام، فكان من المهم تسوية هذه المسألة تسوية نهائية حتى لا تبقى معلقة إلى ما شاء الله»، كما يقول إسماعيل باشا صدقي رئيس وزراء مصر الأسبق في مذكراته.
كانت علاقة إسماعيل صدقي بالخديوي المعزول وطيدة منذ أن كان وزيرا للزراعة في عهده، واستمرت العلاقة بينهما لما بعد عزله، فكانا يتبادلان الزيارات في العواصم الاوربية، وفي إحدى الزيارات تدخل صدقي وعرض تسوية الخلاف بين الخديوي المعزول وعمه الملك فؤاد.
وثيقة التنازل
وبعد مفاوضات مع سكرتير عباس حلمي في القاهرة، توصل صدقي إلى شبه اتفاق ينهي أزمة المطالبة بعرش مصر. وعن ذلك يقول: «في أول مارس سنة 1931 أبلغني البشري بك سكرتير الخديوي أن سموه قبل مبدئيًّا التنازل عن العرش، فأخذت أضع معه نصوص الاتفاق».
وفي نهاية شهر مارس من ذات العام انتدبت الحكومة المصرية وفدا للقاء الخديوي السابق في مدينة لوزان بسويسرا، ووقع عباس حلمي بعدها بأسابيع، وتحديدا في 6 مايو سنة 1931، وثيقة تنازله عن عرش مصر، مقابل أن تدفع له الحكومة المصرية 30 ألف جنيه سنويا لا تنسحب على الماضي.
وفي وثيقة التنازل قال عباس حلمي: «إني موقن بأني خدمت بلادي بأمانة وإخلاص، وأني كرست لها مدى ثلاث وعشرين سنة — بالرغم من دقة الظروف — كل قواي وخير أيام حياتي. وقد تتبعت عن كثب ما أحرزته البلاد، وما لا زالت تحرزه من أسباب التقدم في جميع النواحي. وإني مغتبط بما أراه من خطاها الثابتة في سبيل توثيق استقلالها، والتوفيق بين نظامها السياسي، وبين حاجاتها وأمانيها».
وأضاف: «رغبة مني في تحديد موقفي حيال نظام مصر السياسي، وتأكيد إخلاصي نحو ذات ملكها المعظم، فإني أعلن اتباعي للدستور المقرر بالأمر الملكي رقم ٧٠ لسنة ١٩٣٠، وأصرح بأني سأتوخى في جميع الظروف خطة مطابقة للنظام المقرر لقوانين البلاد، وعلى وجه الخصوص أعلن احترامي للأمر الملكي الصادر في ١٣ أبريل سنة ١٩٢٢، بوضع نظام لتوارث عرش المملكة المصرية، والقانون نمرة ٢٨ سنة ١٩٢٢ الخاص بإقرار تصفية أملاكي، وهما جزءان لا يتجزءان من الدستور المصري، وقانون التضمينات نمرة ٢٥ سنة ١٩٢٣، وأعلن اتباعي لها جميعًا».
واقر عباس بفؤاد ملكا شرعيا على مصر، «لما كنت أقر لحضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول بن إسماعيل بأنه ملك مصر الشرعي، فإني أعلن بهذا تنازلي عن كل دعوى على عرش مصر، كما أعلن تنازلي عن كل مطالبة ناشئة عن أني كنت خديويًّا لمصر أيًّا كان وجهها، سواء عن الماضي أم عن المستقبل».
تنازل إذن الخديوي المعزول عن عرش مصر وانتهى الأمر،لكن قصة بحثه عن عرش لم تنته. فبعد تنازله لابن أخيه في وثيقة رسمية أعلنت فرنسا أنها مستعدة لإقامة مملكة في سوريا، وكان عباس حلمي في ذلك الوقت على علاقة صداقة بالمفكر السوري شكيب أرسلان وكان يدعمه بمعونة مالية شهرية قدرها 30 جنيها لتعينه على نفقاته بأوروبا، وعندما أعلنت فرنسا أنها مستعدة لإقامة مملكة في سوريا، طلب عباس من صديقه أن يعرض تنصيبه ملكا عليها، فلم يتحمس أرسلان لعرض مموله بأن يعتلي عرش سوريا، فالوضع في الشام كان معقدا للغاية، فأوقف عباس معونته.
المفكر السوري «شكيب أرسلان»، الخديوي «عباس حلمي الثاني»
وهكذا ظل حلم اعتلاء أي عرش يراود الخديوي المعزول حتى وفاته في منفاه في 19 ديسمبر من عام 1944، أي بعد مرور 30 عاما بالتمام على عزله، وعاد جثمانه إلى مصر ليدفن بمقابر الأسرة العلوية بالقاهرة «قبة أفندنيا».