رؤى

تأسيس الجيش المصري.. بين محمد علي وجمال عبد الناصر (4)

تسابقت الدول الاستعمارية على اقتطاع أطراف السودان والتوغل في أرضه على حساب حكومة عبد الله التعايشي خليفة المهدي، ورغبة فرنسا في التوسع في أفريقيا الوسطى، وهزيمة إيطاليا من الأحباش في موقعة العدوة في أول مارس 1896، ثم تهديد الدراويش لكسلا، التي احتلها الطليان بصفة مؤقتة، وطالبوا بريطانيا بأن يقوم الجيش المصري بعمليات ضد الدراويش، فكان قرار الحكومة البريطانية المفاجئ في 12 مارس1896 باسترجاع دنقلة.

من جيش صغير إلى قوة مقاتلة

وفي أول مايو 1896 بدأ زحف الجيش المصري بقيادة الجنرال كيتشنر سردار «قائد» الجيش، والذي استمر لمدة ثلاث سنوات ونصف، بتعزيزات عسكرية بريطانية، لمحاربة المهديين، واستعادتها للسيطرة البريطانية بسيادة اسمية لمصر، انتهت في 24 نوفمبر 1899 باسترداد السودان. وفي نفس العام وقعت مصر وبريطانيا اتفاقية الحكم الثنائي للسودان، بحيث يكون الحاكم العام انجليزيا ومعاونه مصريا، على أن تتحمل الحكومة المصرية كافة النفقات في السودان.

بسبب خطر الثورة المهدية وتهديدها بغزو مصر ذاتها، كان التحول في سياسة بريطانيا عن سياسة جيش مصري صغير للأعمال البوليسية، ليكون الجيش المصري قوة مقاتلة، يرفع العبء عن القوات البريطانية. فمنذ أبريل 1887 بدأ الدراويش يشنون غارات على نقط الاستحكامات المصرية حول وادي حلفا وفي صيف 1889 بدأ الغزو على يد عبد الرحمن النجومي، ولكنه مني بهزائم ساحقة على يد الجيش المصري آخرها موقعة توشكي في أغسطس.

ولكن باسترداد السودان انتهت تقريبا الظروف التي أوجبت تقوية الجيش، حيث صار عدد الجيش المصري يتراوح بين 20 و25 ألف فرد. وكانت ترقية الضابط المصري المتخرج من المدرسة الحربية تتوقف عند رتبة ميرالاى «عقيد» والضابط السوداني تتوقف ترقيته عند رتبة صاغ «رائد» بينما كان الضباط الانجليز يلتحقون بالجيش عن رتبة بمباشي وهي رتبة بين «رائد» و «مقدم» ولا تتوقف ترقيتهم عند حد. وكان الضباط المصريون يُختارون من بين الأسر المصرية المتوسطة ذات الأصول التركية والكردية والشركسية. أما الجنود فمن الفلاحين، وكانت مدة تجنيدهم ست سنوات فضلا عن ست سنوات أخرى في الاحتياط أو البوليس. ودانت للإنجليز السيطرة الكاملة على وزارة الحربية. وكان الخديوي هو القائد الأعلى من الناحية الإسمية، لكن القائد الأعلى الفعلي هو السردار ورئيس الأركان. وهما وكبار القادة جميعا من الإنجليز. وقد قامت السياسة البريطانية في ذلك الوقت على الاحتفاظ بالجزء الأكبر من الجيش المصري في السودان، لإبعاده عن الحركة الوطنية.

تسليح وزيادة عدد الجيش.. عقدة المفاوضات

منذ قيام ثورة 1919 للمطالبة بالاستقلال الوطني، ارتبط موضوع الجيش في المفاوضات المصرية البريطانية بنقطتين يقوم عليهما الاستقلال، وهما: إنهاء الاحتلال العسكري البريطاني، والسودان.لكن كل المفاوضات المصرية البريطانية تحطمت على صخرة بناء جيش وتسليحه ووحدة مصر والسودان. 

بالنسبة للسودان كانت بريطانيا تتحين الفرصة مرة أخرى للتخلص من الجيش المصري في السودان بعد أحداث ثورة 19 وانتقال الروح الثورية إليها، فاستغلت اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم عام السودان في نوفمبر 1924 ذريعة لتنفيذ مخططها لطرد الجيش المصري من السودان. وحين رفض سعد زغلول الإنذار الذي قدمه اللورد اللنبي يوم 22 نوفمبر، قام المندوب السامي البريطاني لحكومة السودانبإصدارالتعليمات لإجلاء الجيش المصري من السودان فاستقال سعد زغلول. وسلّمت وزارة زيور باشا بجلاء الجيش المصري عن السودان. وكان من أثر ذلك انخفاض عدد الجيش إلى أقل من النصف كما بلغ التسليح درجة كبيرة من الضعف.

اغتيال السير لي ستاك

اقرأ أيضا:

هوامش على دفتر الحرية: اغتيال السير لي ستاك.. وبرلمان التسع ساعات

وقد ظل موقف الإنجليز ثابتاً منذ مفاوضات سعد، ملنرفي يونية 1920 فمفاوضات عدلي، كرزون في نوفمبر 1921، وتصريح 28 فبراير1922 ثم مفاوضات سعد، ماكدونالد في سبتمبر 1924، ومفاوضات ثروت، تشمبرلين في يوليو 1927 في أعقاب ما أطلق عليه أزمة الجيش في عهد الحكومة الائتلافية برئاسة عدلي يكن في يونية 1926 «التي تشكلت بعد تعطل الحياة النيابية إثر سقوط حكومة وزارة سعد زغلول في نوفمبر 1924» ثم مفاوضات محمد محمود، هندرسون عام 1928، والنحاس، هندرسون 1930، وإسماعيل صدقي ،سيمون 1932، وحتى معاهدة 1936.   

معاهدة 36 تدفع بجيل جديد للجيش

عقدت معاهدة 1936، بسبب ضغط انتفاضة 1935، واحتلال إيطاليا للحبشة ووجودها في ليبيا على الحدود الغربية بحيث صارت خطرا يهدد الوجود البريطاني في مصر. وتضمنت المعاهدة انتقال القوات العسكرية البريطانية من المدن المصرية إلى منطقة قناة السويس وبقاء الجنود البريطانيين في السودان بلا قيد أو شرط. على ألا تنتقل القوات البريطانية للمناطق الجديدة إلا بعد أن تقوم مصر ببناء الثكنات وفقا لأحدث النظم. وتبقى القوات البريطانية في الإسكندرية 8 سنوات من تاريخ بدء المعاهدة. وفي حالة الحرب تلتزم الحكومة المصرية بتقديم كل التسهيلات والمساعدات للقوات البريطانية ، وللبريطانيين حق استخدام مواني مصر ومطاراتها وطرق المواصلات بها. وبعد مرور عشرين عاماً من تنفيذ المعاهدة يبحث الطرفان فيما إذا كان وجود القوات البريطانية ضروريا لحماية حرية الملاحة في قناة السويس. وإرجاع الجيش المصري للسودان والاعتراف بالإدارة المشتركة مع بريطانيا.

معاهدة 1936

لم تحترم بريطانيا كثيرا من بنود المعاهدة، ولكن أهم نتائج معاهدة 36 بجانب إلغاء الامتيازات الأجنبية هي التحاق الشباب الذين شارك بعضهم في مظاهرات انتفاضة 35 بالمدرسة الحربية، والتي تحولت إلى كلية وزاد عدد طلاب دفعاتها من 12إلى 15 طالباً في عام 1935 إلى 250 طالبا عام 1936.

حادث 4 فبراير 42.. نقطة تحول

بدأت المقدمات الفعلية لانخراط الضباط في الحركة السياسية بسبب حادث 4 فبراير 42، حيث قدم السفير البريطاني انذاراً للملك نصه «إذا لم أعلم قبل السادسة مساءً أن النحاس باشا دعي لتأليف الوزارة، فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعات ما يحدث» ولما لم تتم استجابة فورية لذلك حاصرت الدبابات قصر عابدين في الساعة التاسعة مساءً ودخل السفير وقائد القوات البريطانية وأمامهم ثمانية ضباط يحملون المسدسات فقبل الملك فاروق على الفور.

الدبابات تحاصر قصر عابدين

يقول خالد محيي الدين: «عدة أسابع مضت فقط علىَّ وأنا أمتلك هذا القدر الكافي من الزهو بعبارة «ملازم ثان» في الآلاي «اللواء» الأول دبابات. ولكن ذات صباح ذهبت إلى الآلاي، لأجد عددا من الضباط الانجليز يفحصون الدبابات، سألت عما يجري، فكانت الإجابة حادة كسكين قاتل الإنجليز سيأخذون دباباتنا،…. كان بالآلاي أربع كتائب فأخذوا ثلاث كتائب وتركوا لنا كتيبة واحدة. إحساس بالمرارة لا يمكن أن يوصف، وقدر من المهانة لا يمكن تحديد حجمه، فكيف نكون جيشاً بلا أسلحة؟ وكيف يأخذ المحتلون سلاحنا؟ ولأول مرة أشعر بأنني أكره الاحتلال وأنني ضد الاحتلال. وأخذت جلساتنا في «ميسات» الضباط تصطخب بمناقشاتنا ممتدة حول الأوضاع العالمية والمحلية، وبدأنا نتطرق لموضوعات جديدة تماما » ثم يضيف «وزاد من عمق هذه المشاعر أنني اصطدمت بوجود ضباط إنجليز من الجيش المصري كانوا مترفعين ويحصلون على مرتبات عالية جداً بالنسبة لنا، بما أشعرنا أننا في وطننا وفي جيشنا ضباط من الدرجة الثانية.»

خالد محيي الدين

وفي أعقاب الحادث مباشرة أبلغني أحد زملائي أن هناك اجتماعا في نادي الضباط، ورأيت هناك عثمان فوزي وعديداً ممن أعرفهم وآخرين من ضباط كبار وصغار لم أرهم من قبل.كان اللقاء عاصفاً وغاضباً وحزيناً، ضباط يبكون مرارة وغيظاً وقهراً، وآخرون يصرخون بأعلى صوت من فرط الإحساس بالمهانة. حوالي 300 أو 400 ضابط يتداولون بحدة فيما يجب أن نفعل، يحركهم حس وطني دافق ويقيدهم الانضباط العسكري. طرحت فكرة تنظيم مسيرة إلى قصر عابدين لنعلن للملك رفضنا لما حدث، لكن البعض ذكر أو تذكر أن الانضباط العسكري يمنع خروج الضباط في مظاهرة أو مسيرة … أذكر أن أحمد عبد العزيز – وكان ضابطاً محترماً تعلمنا على يديه في الكلية الحربية دروسا في الوطنية – وقف ليعلن أن ضابط الحرس الملكي قد أضاع فرصة تاريخية، لأنه كان يتحتم عليه أن يضرب الضابط الإنجليزي بالرصاص، فإن قتلوه كان شهيداً قادراً على أن يقدم لمصر رمزاً لرفض الاحتلال ومقاومته»… ويضيف خالد محيي الدين «عبد الناصر» أكدها أكثر، وقبل الثورة تحدث كثيرا في رسائله من السودان إلى أحد أصدقائه عن حادث 4 فبراير وتأثيره المباشر على تفكيره وتكوينه.»

جمال عبد الناصر

ويؤكد ذلك سامي شرف عن رسالة بعث بها جمال عبد الناصر من العلمين في الصحراء الغربية إلى صديقه حسن النشار قال فيها « أما الجيش فقد كان لهذا الحادث «يقصد 4 فبراير» تأثير جدي على الروح والإحساس فيه. فبعد أن كنت أرى الضباط لا يتكلمون إلا عن اللهو والملذات، أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس في سبيل الكرامة.. أصبحت أراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا – مع ضعفهم الظاهر- ليردوا للبلاد كرامتها، ليغسلوا عارها بالدماء ولكن إن غدا لناظره قريب. لقد حاول البعض يا حسن بعد الحادث أن يفعلوا شيئا بهدف الانتقام ولكن الوقت كان قد فات. أما القلوب فلا تزال كلها نار وغضب.. عموما، هذه الطعنة ردت الروح إلى بعض الأجساد وعرفتهم أن هناك شيئاً اسمه كرامة الوطن. وأن عليهم أن يستعدوا دائما للدفاع عنها…. لقد كان هذا درساً ولكنه درس قاس.»

سامي شرف

(يتبع)

حسني كحلة

باحث في الاقتصاد السياسي

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker