من الصعب أن تستوعب سطور مقال واحد كل ما يمكن أن يُقال عن «محمود أمين العالم»، فالرجل بالنسبة لي ولغالبية جيلي، هو ذلك المفكر الرائد والطليعي، الذى كانت كتاباته الأولي مثل «في الثقافة المصرية»، بالاشتراك مع الدكتور عبدالعظيم أنيس والصادر عام ١٩٥٥، أو «معارك فكرية» الصادر عن دارالهلال عام ١٩٧٠، أو كتابه الرائد «تأملات في عالم نجيب محفوظ» الصادر في نفس العام، سلاحنا للتثقيف والفهم والوعي الجاد بقضايا الوطن والإبداع في ذات الوقت.
غير أن الأستاذ «العالم» كان بالنسبة لي، بجانب قيمته كمفكر كبير، صديقا عظيما، وانسانا نادر المثال في تواضعه وزُهده برغم علمه الوافر، فلم أر في حياتي من وصل إلى ما وصل إليه في عالم الثقافة، ويحمل هذا القدر من البساطة والنُبل الانساني إلاّ فيما ندر.
كانت معرفتي الانسانية بالأستاذ «العالم» في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وفي بلد عربي عزيز على القلب، كان في تلك السنوات يعمل أستاذاً بإحدى أهم الجامعات الفرنسية، فقد غادر مصر بعد سنوات قليلة من حكم الرئيس السادات، وبعد اتهامات له في قضية مايو ١٩٧١ الشهيرة، بعضوية التنظيم الطليعي، أو الجهاز السياسي الذي تحدث عنه «ميثاق العمل الوطني» الصادر عام ٩٦٢ والمنوط به قيادة العمل السياسي في البلاد، من خلال قيادته للاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي الوحيد في عصر الرئيس عبدالناصر. لم ينف الأستاذ «العالم» ذلك الاتهام، بل إنه أبلغ من حقق معه أنه كان في قيادة هذا التنظيم، ومن الأعضاء الكبار لأمانته العامة وكان عددهم لا يتجاوز أصابع اليدين.
مشروع فكري
استمعت من الأستاذ «العالم» إلى الكثير من التفاصيل الخطيرة والمثيرة عن دوره السياسي في مصر، سواء في تلك المواقع القيادية في الحركة الشيوعية المصرية، أوالمساهمة في بناء دولة يوليو، وخاصة في تلك الأجهزة والمؤسسات الثقافية والصحفية والفكرية. استمعت اليه بعد عودته من تغريبته القسرية بعيداً عن أرض الوطن، و قيامه بتأسيس دار نشر أسماها «قضايا فكرية» وصدرت عنها مجلة غير دورية رفيعة المستوى عالية القيمة، تحمل نفس العنوان.
غير أنني سأتحدث هنا عن المشروع الفكري للأستاذ «العالم»، والذي أراه أحد أهم المشاريع الثقافية والفلسفية والسياسية للمفكرين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.
لقد غادر الأستاذ «العالم» الدنيا عام ٢٠٠٩ عن عمر يقترب من ٨٧ عاماً، تاركاً وراءه تراثاً فكرياً وفلسفياً عميقاً ومتنوعاً، ضمه في أكثر من عشرين كتاباً من بينها «الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، الماركسيون المصريون والقضية العربية، أربعون عاماً من النقد التطبيقي: البنية والدلالة في القصة والرواية العربية المعاصرة، الفكر العربي بين الخصوصية والكونية، توفيق الحكيم: مفكراً فناناً، ومواقف نقدية من التراث» وغيرها وغيرها من الأعمال الفكرية والنقدية الهامة، غير أنني أتوقف عند كتابين هامين هما: «فلسفة المُصادفة» وهو رسالته للماجستير التي أشرف عليها الدكتور «يوسف مراد» أكبر علماء الفلسفة العرب، وقدمها الأستاذ «العالم» إلى قسم الفلسفة بجامعة القاهرة في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي وانتهى منها في عام ١٩٥٣، والكتاب الثاني هو «الإنسان موقف» والذي صدر في بيروت في عام ١٩٧٢، ثم صدر في القاهرة في طبعة مُزيدة وجديدة في عام ١٩٩٤ عن دار «قضايا فكرية».
عن «فلسفة المصادفة» نقول إنه من الصعب الإتيان عَلى تفاصيل، هذا العمل الفلسفي الرائد في هذا الحيّز المحدود، ولكن يكفي التوقف عند عناوين فصول هذه الرسالة العلمية الجادة والتي رجع فيها الأستاذ «العالم» الى عشرات المصادر العلمية باللغتين الانجليزية والفرنسية، باستثناء ثلاثة كتب باللغة العربية، أحدها للدكتور «زكي نجيب محمود» بعنوان «المنطق الوضعي».
من المثالية إلى المادية
واذا توقفنا عند فصول تلك الدراسة الطليعية والتي تحمل عنواناً لافتاً هو «فلسفة المصادفة: بحث في الفلسفة العلمية يؤكد الأساس الموضوعي للمصادفة ويحدد دلالتها في الفيزياء الحديثة» سنجدها موزعة عَلى خمسة فصول هي «الدلالة الشائعة للمصادفة، نظرية المصادفة في العهد القديم، المصادفة في الفكر الحديث، حساب الاحتمالات، ثم المصادفة بين الرياضة والفيزياء». غير أن الأستاذ «العالم» عندما شرع في نشر هذا البحث الرائد على هيئة كتاب عن دار المعارف المصرية عام ١٩٧١، كشف في مقدمته ما يعتبر تحولاً جذرياً في فكره الفلسفي وتوجهه السياسي، اذ يقول:
«لقد بدأت هذا البحث غارقاً حتي أُذني في الفكر المثالي، هادفاً الى اتخاذ المصادفة معولاً لتقويض الموضوعية العلمية، وهذا ما اعترفت به في بداية البحث، أما ما لم أعترف به فهو أني خلال البحث، بل في مرحلة متقدمة منه، كنت أُطل فيها عَلى أواخر القرن التاسع عشر، التقيت بكتاب «المادية والنقد التجريبي» لمؤلفه «ڤلاديمير إيليتش لينين» الذي قادني بدوره إلى كتاب «جدل الطبيعة» لمؤلفه «فردريك إنجلز»، وكان هذا حدثاً فكريا في حياتي، قلب تصوراتي الفلسفية رأساً عَلى عقب، فأمسكت بالمعول نفسه ورحت أقوض به الفكر المثالي الذي كان يستغرقني تماماً، واقتضاني هذا سنوات أخرى أخذت فيها أنسج البحث منذ البداية عَلى نول موضوعي جديد، بل رحت أُجدد كذلك حياتي الفكرية عامة، وأبدأ مرحلة جديدة من الحياة».
بعدها دخل الأستاذ «العالم» بالفعل، مرحلة جديدة من الحياة، فقد انضم لفصيل شيوعي صغير أسمه «النواة» وأصبح قائداً له، ولكن طبيعته الجبهوية دفعته الى معركة وحدوية أكبر هي بناء الحزب الشيوعي الموحد، والذي أصبح أحد قادته، وخاض كقيادى بارز مفاوضات حل «الحزب» في بداية عام ١٩٦٤، مع «أنور السادات» مُمثلاً لثورة يوليو، والذي كان وقتها رئيساً لمجلس الأمة، أي البرلمان، مُحدداً شروط حزبه في العمل الموحد تحت قيادة الرئيس عبد الناصر، باعتباره الوحيد الذي كان قادراً عَلى إحداث التحول الى الاشتراكية في ظل تناقضات طبقية وصراعات دولية عاصفة..
عن مشروع عبد الناصر
أما في كتابه «الانسان موقف» فيختتم محمود أمين العالم صفحاته التي تصل الى نحو أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، بدراسة شاملة وبالغة الأهمية، عنوانها «مشروع جمال عبدالناصر بين الحلم والواقع» يقول فيها: «أذكر أنني التقيت بالرئيس عبدالناصر في بداية عام ١٩٦٨، وأذكر أنه قال لي في معرض حديث عن الوضع الداخلي، إن الخطر الرئيسي في الداخل يأتي من جانب بعض الشرائح في الطبقة الوسطى، وقد نحتاج في هذه المرحلة إلى مهادنتها للحد من خطورتها، وقلت للرئيس: في اعتقادي أن الحل لا يكون بمهادنتها، وإنما يكون بالمزيد من الاتجاه نحو القوى الشعبية، نحو العمال والفلاحين وتنمية مشاركتهم الديمقراطية، وأحالني الرئيس إلى علي صبري لمناقشة هذه القضية بالتفصيل معه، مع قضايا أخرى تتعلق بالتنمية الاقتصادية، كان الموقف من التنمية الاقتصادية والموقف من الطبقات الاجتماعية، فضلاً عن الإشراف المباشر لبناء الجيش هو الشغل الشاغل لعبدالناصر، كان يملأ نفسه وفكره، كنت أحس مع عبدالناصر وما يجري من حوار مُحتدم، داخل اللجنة المركزية وتنظيم طليعة الاشتراكيين، وفي الصحافة ومن معارك حرب الاستنزاف عَلى الجبهة المصرية أن ثورة مصر مُقبلة على مرحلة جديدة حاسمة، وفجأة مات عبدالناصر وهو في غمرة نضاله على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن سرعان ما بدأت الحملة المسعورة عَلى عبدالناصر، وعلى طريق عبدالناصر، وعلى مصر عبدالناصر».
بتلك الرؤية الجادة والواعية لمقتضيات التحول الاشتراكي ومقتضيات الثورة الوطنية والديمقراطية، ودور الفرد في التاريخ عَلى نحو ما رأىّ في «عبدالناصر» كقيادة وزعامة، يُحدد الأستاذ «محمود أمين العالم» رؤيته لمصر ومستقبلها. غير أنه يُقر بحقيقة حاسمة وصريحة وجريئة لا يقدر عليها من الرجال إلاّ من هم في وعي وشجاعة هذا المناضل الكبير، فيقول من واقع خبرته العملية وإدراكه لتاريخ وطنه هذه الدرس الخطير: «ولو أدرك الشيوعيون المصريون جميعاً حقيقة ثورة ٥٢ منذ بدايتها، ولو تدعم التحالف بينهم وبين كتلة عبدالناصر، لتجنبت الثورة، ولتجنب تاريخ مصر كثيراً من السلبيات والعثرات خلال السنوات التالية».
رحم الله الأستاذ «محمود أمين العالم» والذي جمع على نحو نادر بين المفكر الرائد والطليعي والمُجدد في الفكر الاشتراكي، والمناضل في الوقت نفسه، في ميادين السياسة، وشارك بقوة في كل معارك الوطن، من أجل التنمية والديمقراطية والمشاركة الشعبية الأوسع للعمال والفلاحين وبناء تنظيماتهم المستقلة، مُساهماً من جديد في إحياء وبناء حلمه القديم.