أينما حل يصحب قريته، فهي ملازمة له في رحلاته وترحاله، لا ينقطع أبدًا عن القرية وعالمها، هي دافعه للإبداع المتدفق، كانت المحرض الأول في طرح أسئلته عن الدنيا, والوجود.. الحياة والموت، يسردها عبر حكاياته بيننا، وكأنه يكتبها الآن، مستدعيا طفولته، ومراهقته، وشبابه، وأجواء ما عرف بـ«شلة المحلة» البديعة، وما نكتبه الآن عن القاص الكبير سعيد الكفراوي، شهادة قد تكون متأخرة في حق أحد رهبان القصة القصيرة في عالمنا العربي، الذي احتفي مركز «الجزويت» الثقافي بمولده الـ80.
الكتابة عن «الكفراوي» تبدو سهلة للوهلة الأولى، ولكن بمجرد أن تبدأ فى وضع يدك على زر حاسوبك، ستجد نفسك في متاهة من أين تبدأ؟ من القرية البداية والمنتهى، أم من صوت القروي الصادح في المدينة بالمعرفة المحبة لحواريها وجوامعها وكنائسها وشوارعها؟، من بدايات الطفل القروي و«كتاب سيدنا»، أم من قلب مدينة المحلة، وشلة الأصدقاء الذين ذاع صيتهم من بعد، وأصبحوا نجوم المشهد الثقافي العربي «جابر عصفور، نصر حامد أبوزيد، جار النبي الحلو، محمد المنسي قنديل، وفريد أبو سعدة»؟
لا غرابة في أن نقع فى متاهة الكفراوى، لأننا أمام دفتر حكايات طازج، مطبوخ على نار هادئة، هو من هؤلاء القلة الذين يشبهون كتاباتهم، في سحرهم وشغفهم بالماضي، والذي يستدعيه دوما، ليمر في الحاضر، في شخص القاص الراوي العليم بمجرى ما يحدث في عالمنا.
يمكن وصف «الكفراوي» بأنه الحبر الذي يسير على الأرض، ولا يمكن أن تجلس معه، إلا ويترك شيئا معك، لا يمكن نسيانه، ابتسامة القروي الحاضرة بالترحاب والمحبة، الحكاية الطازجة التى مهما تكررت، تسكنها روح جديدة، تلعب وتقفز وتطير، لتعانق روحك وترتسم البسمة على وجهك، من قصة القروي الحاضرة بيننا، الذي استطاع أن يمزج فيها الواقع بالأسطورة، كونه أحد النساجين الكبار.
«الكفراوي» الذي يسكن المدينة، في تبة المقطم، يستدعى شخوص قريته، لتنزل تجرى وتقفز وتلعب في شوارعها، يحملون همومهم على ظهورهم، ويصدرون البهجة للأماكن وللناس، هو لا شك كل شخوص قصصه، هو الطفل، وهو الشاب، وهو الشيخ والولي والقس.
هو القاص «سعيد الكفراوى»، من قال مرة، «غايتى أن أستحوذ على زمن يضيع»، من يومها والزمن ينفلت من بين يديه مثل الماء الجارى.
عالم الكفراوى
كتب «الكفراوى»، عن هؤلاء الذين لا تنفد أمانيهم، الباحثين دائما عن عدل مفتقد، أهل الهامش، الذين يجوسون في قصصه على الورق، يحملون حيرة السنين، والسؤال، ولا يعثرون أبدًا على إجابة.
هؤلاء من كتب عنهم «الكفراوى» 12 كتابًا من القصص، التي تزخر بالشخصيات والأجواء والمصائر، واللغة هنا هى سقف العالم، 12 مجموعة من الحكايات، من البدء: «مدينة الموت الجميل، سدرة المنتهى، مجرى العيون، بيت للعابرين، كشك الموسيقى».. وغيرها، جدليات تتقاطع بين الحياة والموت، والمكان والزمان، والطفولة والكهولة، والرحيل والإقامة، والقرية والمدينة.
قيم هذا العالم يوما ما، الناقد الدكتور «شكرى عياد»، في دراسة نقدية عن مجموعة «سدرة المنتهى» فكتب: «الخيال القصصي الذي يحوم حول تجليات الروح، يقبل بسهولة الخرافي والمعجز، لأنه ينتمي لنفس العالم الذي ينتمي إليه القصص الشعبى، حيث يتحاورالواقعي اليومي بتفاصيله المحددة، مع الأسطوري والخارق، فى تآلفٍ تام، لذلك نجد الزمن كأنه الزمن البئر، فيه تنفطر تجارب، حيث يمثل الزمن البئر مفهوم الإنسان للخلود والحضارة».
تُرجمت قصص «الكفراوى»، لأكثر من لغة، وفى الآخر منحته مصر جائزة الدولة التقديرية في الآداب، بسبب إنجازه الأدبي وإخلاصه لكتابة لونه القصصى الفريد.
بدايات
يقول الكفراوي عن البدايات، وزمن الوجود فى مكان يعيش فطرته، وبداية التفاعل مع النقائض.. هنا كانت الطفولة، الورقة الأولى فى كتاب العمر، والبداية لحياة زاخرة ومستمرة، بدايات دفتر التكوين، وأول لقاءات مع الدهشة، في قرية من قرى الأربعينيات من القرن الماضي
يستطرد الكفراوي عن طفولته «ذلك الطفل حمل إسمي، جاء إلى الدنيا بعد حشد من أطفال «صبيان وبنات»، موتى بفعل القدر والحاجة، لذلك عندما شرفت أنا للدنيا أطلقوا عليّ «ابن موت»، وغيرت أمى عتبة الدار، وأسكنوها في دار غريب، على اعتبار أن دارنا ملعونة، زيادة في الحرص على عمري، حتى لا يخطفه الموت، ألبسونى ثوب بنت اتقاءً للحسد وأطلقوا عليّ اسم «سعيدة».
هى القرية القديمة إذًا، مكان الميلاد والرحيل، المكان الذي أمضي عمره يفتش فيه، تلك المنطقة الغامضة، باحثًا عن معنى، وكلما كبر الغلام، تجسدت عوالمه عبر خيال قروي، مكتسبًا خبرة الحكى، ومعرفة المأثور.
كانت طفولته بداية البحث عن إجابات، ومعرفة الغامض عبر بشر يمارسون حياتهم بلغة سرية.
من المحلة إلى القاهرة
سعى الكفراوى فى وقت مبكر إلى التعرف على أقرانه من جيله.. هؤلاء المحمومين بالكتابة والقص هؤلاء المشغولين بطرح السؤال كان جابر عصفور ومحمد المنسي قنديل ونصر حامد ابوزيد وجار النبي الحلو هم شباب المحلة المفتونون بالأسئلة في الأدب والفكر وسرعان ما انتقلوا إلى القاهرة, لتكبر دائرة المعارف والأصدقاء. كانت جلساتهم بمقهى ريش فى ذلك الوقت، حول الأديب الكبير نجيب محفوظ، ومعهم جمال الغيطانى، إبراهيم أصلان، يحيي الطاهر عبدالله، والشعراء محمد عفيفي، عبدالرحمن الأبنودي، أمل دنقل وغيرهم.
يقول الكفراوى: التحقت بالحلقة، وانتسبت لهذا الجيل، الذي فتح عيني على وعود الحلم القومي، الذي صدمته الهزيمة المروعة، فأعلن هذا الجيل تمرده على من صنعوا الهزيمة.
الكتابة عند «الكفراوي»
الكتابة لدى الكفراوي، تنبع من ذاكرة محتشدة بما عاشه وتخيله وقرأه، ويأتي كتاب «ألف ليلة وليلة»، بمثابة نقطة الوصول والوصل، هي الخيال الجامح الذي خرج منه الكفراوي، بكتابة قصصه وعالمه الذي ارتبط بها بشكل مباشر، لتكشف مدى قدرته على استلهام الواقع، والقبض على تجربته وتحويل، كل هذا إلى فن هو ابن الواقع بكل تجلياته.
انشغل الكفراوي فيما كتبه من قصص، بتلك المنطقة الغامضة من الواقع المصري، وتعامل معها بالطريقة التى تربي بها، ونشأ عليها، فالحكي هو ميراث الطفولة القديم، الذي ظل معه طوال الوقت، ليتحول لفن طازج ومطبوخ على نار هادئة.
لا شك أن هناك تحول جمالي شديد الأهمية، مرت به تجربة كتابة القصة عند «الكفراوي» زادت كثافة التخيل، وتحولت شعرية اللغة الى شعرية المواقف، وسطع الحلم فى تجلى عوالم الطفولة ودراما الجدود والجدات وصراعات الأقدار، هل الاستعانة بكل تلك المعاني ساعد القصة لتمثل رؤي العالم؟
يقول الروائي الراحل إدوار الخراط، فى دراسة عن مجموعة الكفراوى القصصة «مجرى العيون»، راصدًا بعض تجليات القص عند الكاتب، «إنه عالم يتراوح بين قطبين، بين القرية والمدينة، أو بين الموت وتجريده، وطقوسه، وخصوبة الحياة من ناحية أخرى»، هل تذكر قصة غياب؟ عن طفلة.. كتاب سيدنا، «التى غيبها الموت، كان النشيد المصاحب لها، نشيد الحياة الحاضرة فى لحظة الغياب, وكانت القرية كلها تعتقد أن البنت ذاهبة لعرسها الأخير، ثمة عالم يقترب من عتبة كبير المقام موضوعيا وجماليا، «وليم فوكنر»، الذي صنع عالما مكتفيا بذاته، عالما أسطوريا يموج بالمشاعر والقوة والحكمة والجنون.
الأديب سعيد الكفراوي، هو أحد رهبان القصة في عالمنا العربي، فهو يكاد يكون الكاتب الوحيد في مصر، الذي مازال مخلصا لفن القصة القصيرة، وكانه من سلالة تكتب عكس الريح، في زمن خطفت فيه الرواية الشعراء وكتاب القصة على حد سواء، ليبقى حارسًا لها ولفنونها.