عديدة هي الأسباب التي تقف وراء تصاعد ظاهرة الجماعات أو التنظيمات المسلحة في البلدان العربية خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما في مرحلة ما بعد الربيع العربي ومارافقها من اضطرابات أمنية وسياسية ناتجة عن الانهيارات في مؤسسات الدولة في تلك الدول التي شهدت انتفاضات شعبية.
ووفقا للباحثين والمختصين في دراسة الظاهرة، تتوزع هذه الأسباب التي تدفع البعض إلى حمل السلاح ومن ثم نشوء الجماعات المسلحة، ما بين عوامل سياسية تتصل بأزمة الحكم والدولة والعلاقة بين السلطة والمجتمع، وأخرى اقتصادية واجتماعية تتعلق بالمظالم الاقتصادية أو التهميش الاجتماعي، وثالثة ثقافية هوياتية تتعلق بالتمييز الديني أو الطائفي والعرقي، ورابعة دينية ذات علاقة بأصحاب المفاهيم والروىء العقائدية المتشددة التي تقود أصحابها للصدام العنيف المسلح مع الآخر، سواء كان هذا الآخر هو سلطة الدولة، أو شركاء الوطن المختلفين معها فكريا وسياسيا.
أسباب تصاعد الظاهرة
في ورقته البحثية بعنوان «الفاعلون المسلحون من غير الدول في العالم العربي.. تحديات راهنة وآفاق مستقبلية» والصادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يقدم الدكتور حسنين توفيق إبراهيم مجموعة من الأسباب، التي يرى أنها ساهمت في تصاعد الجماعات المسلحة، أو ما يسمى «الفاعلين المسلحين من غير الدول»، ومن ثم تصاعد أدوارهم في العالم العربي في مرحلة ما بعد الربيع العربي، والتي يجملها فيما يلي:
–أزمة بناء الدولة الوطنية، وهي أزمة بنيوية لها جذورها التاريخية في الحقبة الاستعمارية، وقد تفاقمت في مرحلة ما بعد الاستقلال، بسبب فشل النخب الحاكمة في العديد من الحالات، في بناء دولة وطنية تتمتع بالفاعلية والشرعية وقادرة على القيام بوظائفها الرئيسية بفاعلية وكفاءة من ناحية، واستيعاب التعددية المجتمعية، سواء كانت دينية أو مذهبية أو قبليية، في اطارهوية وطنية جامعة، من ناحية أخرى. وقد أدى هذا الفشل – كما يرى توفيق –إلى أن أصبحت الهويات الفرعية كالانتماءات الطائفية أو القبلية تشكل تحديا للدولة من أسفل، ومن أعلى (التيارات الاسلامية التي لا تؤمن بشرعية الدولة الوطنية وتطرح شعارات الأمة الإسلامية ودولة الخلافة). كل ذلك اضعف الدولة الوطنية وجعلها غير قادرة على القيام بمهامها، وسمح بتمددد الفاعلين المسلحين من خارج الدولة، وهو ما برز بعد الربيع العربي وما رافقه من انهيار في مؤسسات الدولة في عدد من الدول.
– الفراغ الأمني وتزايد اعتماد الانظمة الحاكمة على فاعلين مسلحين من غير الدول.. فإذا كان تصدع الدولة الوطنية في عدد من البلدان العربية قد شكّل بيئة ملائمة لظهور وتمدد الفاعلين المسلحين من غير الدول، فإن حالة الفراغ الامني دفعت الحكومات الضعيفة في هذه الدول للاعتماد على بعض هولاء الفاعلين، سواء في حفظ الامن في بعض مناطق الدولة، أو في محاربة معارضيها وخصومها، وهو ما عزز من هذه الظاهرة في مرحلة ما بعد الربيع العربي.
–الدعم الخارجي، حيث يعد الدعم الخارجي، في رأي الدكتور حسنين إبراهيم، أحد الاسباب الرئيسية لتصاعد ظاهرة الفاعلين المسلحين من غير الدول في البلدان العربية، سواء في مرحلة ما قبل الربيع العربي أو ما بعدها. فالدعم العسكري والمادي الذي قدمته كل من إيران وسوريا لحزب الله كان الرافد الأساسي لترسيخ قوة وحضور الحزب على الساحة اللبنانية، كما أنه لا يمكن فهم قوة الحوثيين وقدرتهم على هزيمة الجيش اليمني بمعزل عن الدعم العسكري الإيراني أيضا، كما دعمت إيران ولاتزال قوات الحشد الشعبي في العراق، مثلما دعمت الولايات المتحدة من قبل تسليح الصحوات السنية في العراق.
وفي سوريا شكّل الدعم الخارجي لفاعلين مسلحين من غير الدول، ملمحا أساسيا في الصراع على الساحة السورية التي تحولت لساحة حرب بالوكالة، حيث دعمت الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية الكردية، فيما دعمت تركيا الجيش السوري الحر.
–تمدد ظاهرة اقتصاد الحرب: إذ يمثل المتغير الاقتصادي بعدا مهما في تفسير أسباب ظهور وتزايد اعداد الفاعلين المسلحين من غير الدول وتمدد أدوارهم، في عديد من الدول العربية، فقد سعت الفصائل المسلحة المنخرطة في الصراع في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية بهدف تعزيز قدراتها العسكرية، وتمويل عملياتها وضمان استمراريتها على الساحة السياسية. وأسهم ذلك في خلق ما ُسمي باقتصاد الحرب، وهو ما يرتبط بإدارة العنف واطالة أمده.
–ثورة المعلومات والاتصالات، فقد أسهمت العولمة بتجلياتها المختلفة وخاصة ثورة المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي، في ظهور وتعزيز دور بعض الفاعلين المسلحين من غير الدول، لاسيما التنظيمات الجهادية، وخصوصا تنظيم داعش، الذي شكّلت شبكات التواصل الاجتماعي أحد مصادر قوته الرئيسية، لاسيما خلال فترة صعوده السريع بين عامي 2013 و 2017، حيث وظّفها بشكل جيد لنشر أفكاره التكفيرية، كما استخدمها لتجنيد الالاف من الأعضاء في صفوفه، فضلا عن إستخدامها في الحرب النفسية ضد سكان المناطق التي كانت تحت سيطرته في سوريا والعراق، بهدف إرهابهم واخضاعهم.
د. حسنين توفيق إبراهيم
اقرأ أيضا:
قراءة في أسباب ومستقبل الظاهرة.. صعود الجماعات المسلحة في العالم العربي (1)
أساليب المواجهة
وفيما يخص أساليب وآليات تعامل الدول العربية مع الجماعات والتنظيمات المسلحة يشير الدكتور حسنين توفيق إلى تنوع هذه الأساليب، من استخدام القوة العسكرية والمواجهة الامنية للقضاء عليهم كما حدث مع حدث مع داعش والقاعدة، أو تخلي بعض الفاعلين المسلحين عن نهج العنف طواعية والإنخراط في العملية السياسية، أو ادماج بعض الفاعلين المسلحين من غير الدول في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية النظامية، مثلما حدث في سوريا والعراق (دمج الميليشيات الموالية لنظام الرئيس لبشار الأسد في الجيش والأجهزة الامنية، ودمج قوات الحشد الشعبي في القوات المسلحة العراقية).
ورغم تعدد أساليب المواجهة والتعامل معها في الدول العربية، إلا أن ذلك لم يضع حدا للخطر الذي باتت تمثله ظاهرة «الفاعلون المسلحون من غير الدول»، خصوصا التنظيمات الجهادية الارهابية، سواء كانت محلية أو عابرة للحدود.
مستقبل الظاهرة
لا يحمل المستقبل المنظور مؤشرات أو بوادر على نهاية قريبة لتصاعد خطر الجماعات المسلحة على المجتمع والدولة في العالم العربي، طالما بقيت العوامل والأسباب التي أدت لذلك قائمة على حالها دونما معالجة جذرية وحقيقية. وفي هذا الإطار يرى الدكتور حسنين توفيق أن هناك مجموعة من العوامل والمحددات التي تبدو حاكمة في تحديد مستقبل هذه الظاهرة:
-أول تلك العوامل انهاء الحروب والصراعات الأهلية الدائرة في عدد من الدول العربية وفق مصالحات وطنية شاملة وتسويات تاريخية تحظى بقبول ومشاركة مختلف الأطراف الفاعلة والمؤثرة على الصعيد المحلي من ناحية، ودعم الأطراف الإقليمية والدولية المعنية من ناحية أخرى.
– أما ثاني هذه العوامل، فهو وضع وتنفيذ خطط وبرامج ناجزة لإعادة بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها، إستنادا إلى عقد اجتماعي جديد، يقوم على أسس ومبادىء المواطنة وسيادة القانون ودولة المؤسسات، واحترام حقوق الإنسان وتطبيق العدالة الانتقالية، وحل جميع التنظيمات المسلحة وادماج بعض عناصرها في الجيش والأجهزة الأمنية الوطنية، وإعادة بناء الجيش الوطني والأجهزة الأمنية على أسس وطنية واحترافية.
والعامل الثالث الذي يراه حسنين توفيق مهما في قراءة مستقبل الفاعلين المسلحين من غير الدول في العالم العربي، هو وضع وتنفيذ خط جادة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، سواء على مستوى البنى التحتية، أو مساكن المواطنين وقطاعات الصحة والتعليم، وهذا يتطلب انشاء مؤسسات وطنية فعالة تتولى مسؤولية إعادة الاعمار، وتوفير الدعم المالي اللازم لذلك، بينما يتمثل العامل الرابع في التحرك بفاعلية على طريق تعزيز الحكم الرشيد، خاصة فيما يتعلق بتعزيز المشاركة السياسية ومحاربة الفساد وتوفير ضمانات احترام حقوق الانسان وتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث تؤكد الخبرات المتراكمة أن ممارسات الاستبداد والفساد وغياب العدالة الاجتماعية، تشكل بيئات مؤاتية ومناسبة لظهور وتمدد الجماعات المسلحة من غير الدول.
أما خامس وآخر هذه العوامل المهمة في تحديد مستقبل ظاهرة الجماعات المسلحة فهو تعزيز الاستقلال الوطني ووضع حد للتدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، خاصة في مرحلة ما بعد الصراع، حيث أظهرت خبرات السنوات الماضية أن الحروب الأهلية التي عرفتها بعض الدول العربية ولاتزال، تحولت من الناحية العملية إلى حروب بالوكالة، بعد أن تدخلت فيها أطراف إقليمية ودولية وفق أجنداتها ومصالحها الخاصة.
ووفقا للعوامل السابقة، فإن السيناريو المرجح لمستقبل ظاهرة المسلحين الفاعلين من غير الدول في العالم العربي، هو استمرار هذه الظاهرة في العديد من البلدان العربية على المديين القصير والمتوسط، حسبما يتوقع الدكتور حسنين إبراهيم، حيث تعمل كل العوامل والمحددات السابقة في اتجاه هذا السيناريو.فجهود التوصل لتسويات سياسية في كل من ليبيا وسوريا واليمن لم تسفر عن نتائج ملموسة حتى الآن، بسبب عمق الخلافات بين الأطراف المحلية والاقليمية المعنية بالصراع في هذه الدول. وفي ظل الوضع الراهن قد تتحول الصراعات القائمة إلى صراعات ممتدة تضرب بجذورها في البنى والهياكل الاجتماعية والثقافية على غرار الحالة الصومالية، كما أن عملية تأسيس وترسيخ الحكم الرشيد، على الصعيد العربي تواجه الكثير من العقبات، خصوصا في ظل تداعيات ما بعد الربيع العربي. وحتى بافتراض التوصل لتسويات سياسية لهذه الازمات، فإن عملية إعادة الاعمار وإعادة بناء الدولة تبقى محفوفة بالمخاطروالتحديات، في ظل اتساع رقعة الدمار والخراب التي خلفتها الحروب واستشراء الفساد وعمق الانقسامات وهو ما اظهرته التجربة العراقية بوضوح. وحتى في حال هزيمة داعش في سوريا، والحوثيين اليمن، فإن ذلك لن ينهي الأزمات، طالما ظلت أسبابها قائمة، فقد تختفي بعض التنظيمات المسلحة ويتوارى فاعلون مسلحون لأسباب مختلفة، لكن سيظهر في المقابل فاعلون أخرون بمسميات جديدة لتبدأ دورة جديدة من العنف والصراع.
ويبقى في الختام التأكيد على حقيقة أن ظاهرة صعود وتمدد الجماعات المسلحة غير الحكومية في المنطقة العربية، هي مجرد عرض أو نتاج لسياسات وممارسات وأفكار مختلة، وبالتالي فإن مواجهة وهزيمة تلك الجماعات لن يتأتي إلا عبر عملية إصلاح سياسي وثقافي شامل، وخطوات حقيقية وجادة على طريق إعادة بناء الدولة الوطنية العربية على أسس وقواعد جديدة من الحرية والحكم الرشيد واحترام حقوق الانسان والحريات، والتعايش بين كل مكونات الوطن.