كانت المواجهة الأمنية والعسكرية لتنظيم «داعش» – الدولة الإسلامية فى العراق والشام – ضرورة ملحة بعد أن استغل هذا التنظيم ضعف الدولة المركزية فى كل من العراق وسوريا واحتل مساحات واسعة من أراضى الدولتين وأقام فوقها دولته أو «شبه الدولة» كما وصفها د. عمار على حسن فى كتابه الذى يحمل العنوان نفسه.
المواجهة العسكرية إذن حتمية، لكن الأكثر فاعلية وأهمية على المدى البعيد هو المواجهة الفكرية وتعرية زيف الأفكار المؤسسة لهذا التنظيم وتوضيح مدى خطورتها فى تفكيك الدول الوطنية.
البعد التاريخى لفقه الدم
من البداهة أن نقول إن تنظيم داعش لم يولد من فراغ، بل إن تنظيمات الإرهاب والعنف المعاصرة كلها تعد امتدادا لما شهده التاريخ الإسلامى من فرق كثيرة سعت إلى فرض آرائها وتصوراتها المغلوطة بحد السيف ومن أشهر هذه الفرق فرقة «الخوارج»، الذين انشقوا على الإمام على بن أبى طالب ورفعوا – فى وجه الجميع – شعار «لاحكم إلا لله» الذى وصفه الإمام علي بأنه «كلمة حق يراد بها باطل».
ثم ابتلى العالم الإسلامى بفرقة «الحشاشين» التى تزعمها حسن الصباح وكانت أكثر إرهابا ودموية واعتمدت على الاغتيال وإشاعة الرعب فى قلوب أعدائها، ومن ثم ليس غريبا أن يعتمد «داعش» على هذه الوسيلة نفسها وتطويرها وتقسيمها إلى مراحل ثلاثة هى:
1-مرحلة شوكة النكاية: وهى مرحلة تقوم على إنهاك الدولة الوطنية واستنزاف قواها من خلال عمليات الهجوم المتتابعة لما يسمونه «الذئاب المنفردة» التى يصعب السيطرة عليها لأنها لا تقوم على المواجهة الصريحة بل تقوم على التخطيط المحكم والهجوم المباغت وعمليات الكر والفر.
2-مرحلة إدارة التوحش: بعد إشاعة الفوضى وإرباك الدولة تأتى المرحلة الثانية وهى «إدارة التوحش» التى يبيحون فيها كل شىء: سبى النساء واغتصابهن كما حدث مع فتيات الأكراد ونسائهم، وجز الرءوس وإحراق «الأحياء» كما حدث للطيار الأردنى «معاذ الكساسبة» أمام العالم كله. و«إدارة التوحش» هو عنوان الكتاب الذى وضعه أبو بكر الناجى ويشرحه بأنه «أخطر مرحلة ستمر بها الأمة» داعيا فيه – بالإضافة إلى العنف والإرهاب وسفك الدماء- إلى ضرورة الاهتمام «بالجانب الأمنى وبث العيون واختراق الخصوم والمخالفين، سواء فى المجتمعات التى يتواجد فيها التنظيم أو تلك التى يستهدفها. لذا ربما يبدو مبررا لديه الحرص على تجنيد النساء والأطفال، ليس لأجل أنشطة قتالية مباشرة تستدعى حمل السلاح، بل فى جمع المعلومات وبث الدعاية عن التنظيم» («إخوان وسلفيون ودواعش» أحمد بان ص 148مركز المحروسة 2017).
3-مرحلة إقامة الدولة: كل ما سبق بهدف الوصول إلى المرحلة الثالثة، وهى مرحلة الغلبة والتمكين وإقامة الدولة، وصاحب «إدارة التوحش» – وهو مايطبقه تنظيم داعش بصورة حرفية – لايستبعد الفشل لكن هذا لاينبغى – كما يرى – أن يقعد داعش عن تحقيق هدفه بالمزيد من التوحش كما يبدو فى قوله: «الإخفاق فى إدارة التوحش سيؤدى إلى مزيد من التوحش لكن أفحش درجات التوحش هى أخف من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات» (السابق ص168)
آباء «داعش» المعاصرون
يمكن القول إن فرقتى «الخوارج» و«الحشاشين» كانتا بمثابة الأجداد الأوائل لتنظيم داعش، ويبقى أن نشير إلى آبائه المعاصرين الداعين إلى استعادة «الخلافة» اعتمادا على نظرية الحاكمية، حيث ترجع جذور الإسلام السياسى فى العصر الحديث إلى الحركة الوهابية التى جعلت من تكفير الآخرين أو اتهامهم – على أقل تقدير – بالانحراف عن الإسلام كما تتصوره الحركة، عقيدة أساسية ينطلق منها أتباعها. فرغم أن علماء السعودية يرفضون أن يكون داعش امتدادا للوهابية، فإن التنظيم يسوق لأفكاره بأنها «مستمدة بالأساس من الدعوة الوهابية، وقام بالفعل بطبع بعض الرسائل والمطبوعات.. التى حاولت البرهنة على هذا الأمر» «د. عمار على حسن، شبه الدولة.. القصة الكاملة لداعش»، ص37، دلتا للنشر والتوزيع، 2017).
ومن المعروف أن «عناصر الصف الأول فى داعش انحدروا من تنظيم القاعدة، والأخير هو خلاصة ما توصلت إليه التنظيمات الجهادية التى شهدها العالم الإسلامى منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين»، وعليه فإن جذور العنف في الإسلام السياسي الحديث والمعاصر بدأت مع أفكار الإخوان المسلمين التى تبلورت صيغتها العنفية على يد سيد قطب فى «معالم فى الطريق». ويعترف أيمن الظواهرى – الذي تدرج بين جماعة الإخوان ثم تنظيم الجهاد فالقاعدة – بالتأثير الكبير لهذا الفكر عليه حين يقول «إن سيد قطب هو الذى وضع دستورنا فى كتابه معالم فى الطريق».
كما تعد أفكار تنظيم الجهاد من المرجعيات الفكرية التى بلغت بها داعش أعلى درجات إرهابها ووحشيتها، وهو مايعنى أن الانشقاقات التى تحدث بين هذه التنظيمات والصراع المسلح بينها يرجع إلى الخلافات السياسية لا الفكرية، فعلى سبيل المثال فإن داعش والقاعدة يتفقان فى قضايا عدة حيث يكفران «الشيعة ويعتبران العلمانية كفرا وخروجا عن الملة ويتهمان الأنظمة الحاكمة فى الدول العربية والإسلامية بالكفر ويرى التنظيمان ضرورة استمرار الجهاد» (ياسر جاسم، «عالم داعش.. خفايا وأسرار – تحليلات فكرية لإدارة التوحش بعالم داعش والقاعدة»).
عالمية الصراع
ليس غريبا أن يلتقى خطاب التنظيمات الإرهابية عامة والخطاب العنصرى الغربى الذى يقوم على ما أسماه صامويل هنتنجتون بصراع الحضارات وضرورة تسييد قيم الحضارة الغربية ،وهو ما يرادف مقولة سيد قطب حول «أستاذية العالم» وقول أسامة بن لادن الصريح «بإن فرضية صراع الثقافات صحيحة بلا شك، فالقرآن يرى بوجود هذا الصراع، وفكرة السلام العالمى ليست أكثر من أسطورة غربية» (هاينر فيلهلم شيفر، «صراع الأصوليات – التطرف المسيحى – التطرف الإسلامى والحداثة الأوربية» ترجمة صلاح هلال، هيئة الكتاب، 2015).
وامتدادا لهذه المقولات يؤكد داعش عالمية التنظيم من خلال سعيه لإقامة خلافة إسلامية يبايع المسلمون خليفتها أينما كانوا. ففى كلمة مفرغة لأبى محمد العدنانى – وهو المتحدث باسم التنظيم وخطيبه الأول – بعنوان «يقتلون ويقتلون» نراه يبشر بصمود دولة الخلافة وانتصارها وامتدادها إلى غرب أفريقيا ،وهذا – كما يقول – باب جديد فتحه الله ليهاجر إليه المسلمون «فمن حبسه الطواغيت فأعجزته الهجرة إلى العراق أو الشام أو اليمن أو الجزيرة أو خراسان، فلن تعجزه بإذن الله أفريقيا» (علوى أحمد الملجمى، «تفكيك خطاب داعش – قراءة فى أنساق المعنى وبناه العميقة»، ص 148، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر).
تستتبع عالمية التنظيم بالضرورة عالمية الحرب، حيث يصبح التنظيم وأتباعه فى كل مكان فى مواجهة الجميع: اليهود والصليبيين والشيعة والحكام الطواغيت. يقول العدنانى فى الكلمة نفسها «ها هي ذى إيران مع شيطانها الأكبر أمريكا تتقاسم المناطق والأدوار فى حرب الإسلام وأهل السنة، فلم يكتف الصليبيون واليهود بتسليم الروافض بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، إنما يريدون لهم مكة والمدينة، يريدون باكستان وأفغانستان ويريدون أندونسيا نعم أندونسيا لو كنتم تعلمون».
وإذا كان التنظيم يوظف انتشاره في مناطق جغرافية عديدة في آسيا وإفريقيا للإيحاء بعالميته، فإنه يوظف المكان التاريخى بغرض الاستنفار وبالتالى يربط المكان التاريخى بفكره وأعماله القتالية، حيث يقول العدنانى أيضا: «فوالله لنعيدن بدرا وأحدا، لنعيدن مؤتة وحنين، لنعيدن القادسية واليرموك، لنعيدن اليمامة ونعيد حطين وعين جالوت، ونعيد جلولاء والزلاقة والزلاقة الثانية وبلاط الشهداء، سنعيد الفالوجة الأولى والثانية وقسما قسما لتعودن نهاوند». ولأننا أمام خطاب شفاهى حماسى نراه يعتمد على التكرار وأسلوب القسم بصورة لافتة بغرض استثارة الحماس فى نفوس المتلقين.
الإسلام دين القتال
مكمن الخطر الحقيقى فى خطاب داعش أنه خطاب حرب مع الجميع، حيث يتحول الكره إلى عنف انتقامى، وقد ولد هذا الكره والعنف ذاتا لايمكن أن تعيش بدون قتال. هل يذكرنا هذا بقول مناحم بيجين «أنا أقاتل إذن أنا موجود»؟ وهكذا يتحول الإسلام من دين سلام إلى دين قتال. فتحت عنوان «السلمية دين من؟» يقول العدنانى «الصدام قدر محتوم والدعوات السلمية إلى المزبلة، وقد آن لنا أن ندرك ونقر ونعترف أن السلم لايحق حقا ولايبطل باطلا، لقد آن لدعاة السلمية أن يكفوا عن دعواهم الباطلة».
ويزيد خليفتهم السابق أبو بكر البغدادى الأمر وضوحا فى كلمته – «انفروا خفافا وثقالا» – بقوله «ماكان الإسلام يوما دين السلام، إن الإسلام دين القتال، وقد بعث نبيكم بالسيف رحمة للعالمين وأمر بالقتال حتى يعبد الله وحده». والأرض كلها – عندهم – مستباحة بما فيها أرض المسلمين، لأنها لاتحكم بشرع الله كما يرون، وفى سبيل إقامة شرع الله لايرون حرمة لدماء أو أشلاء، فالجميع مستباحون على اختلاف نياتهم ومقاصدهم كما يقول العدنانى: «نعلم أن نياتكم متعددة وأحوالكم ومقاصدكم شتى، فاعلموا أننا لانميز بين هذه الأصناف والمقاصد وحكمهم عندنا بعد القدرة واحد: طلقة فى الرأس فائقة أو سكينة فى العنق حاذقة».
ومن المهم أن نلاحظ هنا أن عناوين أغلب كلماتهم وكتبهم آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، لإضفاء صفة اليقين على تصوراتهم ولشرعنة أعمالهم الإرهابية، وهو ما أدى إلى الخلط الفادح بينها وبين الجهاد الذى كان قاصرا على جهاد الدفع، ولم يكن يشمل مايسمونه بالجهاد الهجومى الذى يتمسكون به الآن. ولاشك أن هذا التأويل الدينى المغلوط يعطى – كما يقول سكوت هيبارد – «رخصة أخلاقية للسياسى ليفعل ما يشاء» لأننا فى هذه الحالة لانكون أمام أفعال بشرية بل أوامر إلهية واجبة التنفيذ.
هذه اليقينة فى تصوراتهم المنسوبة – زورا – إلى الإسلام انعكست أيضا على العملية التعليمية فى المناطق التى سيطروا عليها، حيث تزرع داعش فى وعى الطلاب أنهم يعيشون فى ظل دولة كبرى هى دولة الخلافة، وأن عليهم الاعتزاز بها والدفاع عنها. ولتحقيق هذا الغرض قصروا المادة العلمية على تدريس العقيدة واللغة العربية واللغات والعلوم، وهذا يعنى أنهم ألغوا العلوم الإنسانية كالفلسفة بفروعها المعروفة، وعلى مستوى الجامعات ألغوا «كليات الفنون الجميلة والآثار والحقوق والعلوم السياسية والتربية الرياضية وأقسام الفلسفة وإدارة الهيئات السياحية والفندقية» («شبه الدولة …» ص81).
خطاب داعش
ينطلق خطاب تنظيم داعش من منظومة أيديولوجية يتصور يقينيتها، ومن الطبيعى أن تنعكس هذه المنظومة على الخطاب الأسلوبى، وهو ما طرحه علوى الملجمي، ويمكن إيجازه فيما يلى:
أنه خطاب تعبوى تكثر فيه مفردات الحرب والتعبئة والإثارة، كما أنه خطاب إغرائى، سواء عن طريق وعد دولة الخلافة المثالية العادلة أو الوعد بالجنة لمن يستشهدون فى سبيل إعلاء راية الإسلام ،وأنه خطاب الثنائية الضدية بين الأنا والآخر والإسلام والكفر، كذلك فهو خطاب يقوم على العنف وانعدام الرحمة والغرور الدينى والاعتماد على الهالة الإعلامية الزائفة.