جاءت هزيمة يونيو ١٩٦٧، مصحوبة بحملة من النقد الذاتي للمجتمع العربي بأكمله، طالت الجميع، الأنظمة التقدمية الثورية، والأخرى التقليدية المُحافظة.. الفكر العربي التحديثي والفكر الرجعي، المؤسسات الجامعية و الجيوش العربية.
وفي مصر جاء الحديث صاخبا حول ضرورة تحديث التعليم بمثل ما دعا الدكتور «لويس عوض» أو «بناء المجتمع المفتوح»، كما كتب «محمد حسنين هيكل» في مقالاته الأسبوعية «بصراحة» أو بذلك الوضوح الذي دعا فيه «أحمد بهاء الدين» إلى فكرة «الصراع الحضاري» مع العدو الاسرائيلي بدلاً من الاكتفاء بالمواجهة المسلحة فقط.
غير أن الصورة في المشرق العربي بدت أكثر حدة وعنفاً وجرأة، فقد نشر «نزار قباني» قصيدته الصادمة «هوامش عَلى دفتر النكسة» فيما تحدث «قسطنطين زُريق» المفكر القومي الكبير عما أسماه «معنى النكبة مُجدداً». بيد أن «صادق جلال العظم» المفكر العلماني السوري، والأستاذ بجامعة دمشق والحاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة «ييل» الأمريكية تجاوز كل حد، فلم يكتف بإصدار كتابه «النقد الذاتي للهزيمة» في عام ١٩٦٩، بل أصدر في نفس العام كتابه الخطير «نقد الفكر الديني»، وهو مجموعة من المحاضرات ألقاها في بيروت خلال سنوات مُتفرقة سبقت عام ٦٧، استدعاها مُجدداً، ليضمها بين دفتي كتابه الذي صدر عن دار الطليعة البيروتية، وسيق بسببه إلى المحكمة هو والناشر الشهير «بشير الداعوق» والتي تقضي ببراءتهما.ليصبح هذا الكتاب بين عشية وضحاها، واحداً من أشهر الكتب في الفكر والثقافة العربيتين خلال القرن الماضي، يُنافس كتاب «في الشعر الجاهلي» لعميد الأدب العربي «طه حسين»، رغم الفارق بين الهدف المُتوخى أو المستهدف من كلا الكتابين.
https://youtu.be/FoU2qbofRtg
نقد ما بعد الهزيمة.. و «الأزمة الوجودية»
من هو «صادق جلال العظم» ذلك المفكر المُثير للجدل؟.. إنه واحد من أكثر المفكرين العرب تميُزا، ينتمي للجيل الثالث من قادة الفكر العربي وأعلامه الكبار، بعد الرواد الأوائل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده وقاسم أمين ثم جيل طه حسين والعقاد وعبدالحميد بن باديس ومحمد حسين هيكل ورفيق العظم وتوفيق الحكيم وغيرهم. والجيل الثالث الذى ينتمى إليه صادق جلال العظم وهو جيل الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وأبناؤه لويس عوض ومحمد عابد الجابري وأحمد بهاء الدين ومحمد جابر الأنصاري، وجمال حمدان، ومحمد أركون ومهدي عامل وحسين مروة وغيرهم.
إنه جيل النهضة العربية الثالثة، الراهنة والمستمرة، لكن هذا الجيل الثالث من مفكري العرب، واجه أزمة وجودية بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد عرقلت هزيمة ١٩٦٧ حلم الثورة والاشتراكية، والنهوض القومي، وحلم الوطن العربي الواحد والأمة العربية الواحدة. إذ شعر المثقفون العرب بعمق الفجوة واتساع الهوة بين خطابهم الثوري وحقيقة واقعهم ومجتمعهم المُتخلف على أكثر من صعيد.
فقد نشأ «أدب الهزيمة» الذي أنتجه «جيل الهزيمة»، إذ كانت الهزيمة سمة الزمن العربي بأكمله، من كُتّابه الى زعمائه، إلى مجتمعه، الكل مهزوم، لأن الجميع يتحمل الهزيمة وتبعاتها. غير أن تلك الحقيقة التي لا جدال في صحتها، خلقت البيئة الفكرية والثقافية بل والنفسية، التي جعلت كتابات غالبية مفكري هذه المرحلة يجنحون الى الغلو والتطرف فيما كتبوا. وفي ظل هذا المُناخ وُلد كتابا «جلال صادق العظم»، «النقد الذاتي بعد الهزيمة» و«نقد الفكر الديني». وقد حاول «العظم» في كتابيه أن يعتمد عَلى منهجه العلماني والماركسي، فلم يتوقف عند نقد ودراسة البنية الفوقية، أي المعرفية للمجتمع العربي، بل اتجه مباشرة الى نقد البنية التحتية المُنتجة للبنية الفوقية، فهما بنيتان، كما يقول، تتقاسمان مسئولية هزائمنا، ومسئولية تخلفنا الذي قذف بِنا، على حد تعبيره، إلى خارج التاريخ، فالعلة كامنة في بنيتنا المُهترئة، والهزيمة، لم تكن عسكرية فقط، بل كانت شاملة.
ولذلك فهو يحيل الهزيمة وأسبابها بالدرجة الأولى الى البنية التحتية، أي التنمية الاقتصادية المُتعثرة، والبنية الطبقية المتخلفة معرفياً وثقافياً وسياسياً، والمُفتقرة في جوهرها الى العلم الحديث وأدواته ومؤسساته وجامعاته ومراكز أبحاثه.
نقد الفكر الدينى
غير أن «صادق جلال العظم» بعد صدور كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» وحفاوة استقباله لدى القارئ العربي، وجد في نفسه الجُرأة لنقد الفكر الديني، وهو «قُدس الأقداس» في الثقافة العربية والتاريخ العربي الإسلامي فقد رأى أن التيار الديني، سواء الإسلامي أو المسيحي، هو التيار الأكثر إيماناً بالخُرافة، والمعجزات، مُستشهِدا في مقدمة كتابه بلجوء بعض الأنظمة التقدمية العربية الى الفكر الديني واتخاذه «عُكازاً» تتكئ عليه في تهدئة الجماهير العربية وتسكينها فيما يتعلق بنتائج الهزيمة وأبعادها والرد عليها، كما حدث فى قصة معجزة ظهور السيدة العذراء في كنيسة الزيتون، بأحد ضواحي القاهرة في عام ١٩٦٨، في الوقت الذي كان فيه «محمد حسنين هيكل» يكتب ويؤكد في مقاله الأسبوعي على أن «مسئولية مصر والعرب هي الإعتماد على العلم الحديث لمواجهة التحالف الأمريكي الاسرائيلي، لأن عصر المعجزات انتهى، ولم يعد موجوداً ولا قائماً» مما يعني عند الدكتور «العظم» تناقضاً واضحاً بين الدعوة للتنوير، والرغبة في الوقت نفسه بالتمسك بالخرافة والمعجزات التي تفتقر لأي دليل.
محمد حسنين هيكل
وربما تكون الدراسة الأولى في الكتاب والتي حملت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» بمثابة الفكرة المحورية في كتابه الشهير. فقد حاول «العظم» مناقشة كتابات بعض المفكرين الإسلاميين ورجال الدين المسيحي والإسلامي، مثل «نديم الجسر مفتي طرابلس اللبنانية، و الإمام موسى الصدر الزعيم الكبير في الطائفة الشيعية اللبنانية، والدكتور صبحي الصالح والأب لاتور، أحد أعمدة الكنيسة المارونية، وحتى سيد قطب وغيرهم، موجهاً لهم نقداً حاداً. فهم -كما يرى- يجهلون أي شئ من العلم الحديث أو مناهج البحث العلمي، فخطابهم تقريري وعاطفي وشديد العمومية، ويفتقر الى الأدلة العلمية الحاسمة أو الفكر المنهجي الواضح.
وجاء دفاع «العظم» في كتابه عن إبليس، والذي اتخذ له عنواناً لافتاً هو «مأساة ابليس»، ليكون بمثابة الصدمة للفكر الديني، لا سيما أن «العظم» لم يحمل في كتابه معالجة تلك القضية برؤية جدية أو علمية، بقدر ما كان ينطلق من موقف أيديولوجي مُسبق قائم عَلى اختيار «مقصود» لنماذج وآيات بعينها، وليس على تحليل منطوق الخطاب الديني بتياره الأوسع. فضلاً عن وقوع الدكتور «العظم» في الخلط المُتعمد بين «الفكر الديني» و «القرآن الكريم». فإذا كان فكر الفقهاء والمُفسرين والأئمة ومواقف الصحابة، قابلا للنقد والتدقيق والقبول أو الرفض، فإن نص «القرآن الكريم» لا يقبل سوى القبول بغير تجزئة، أو الرفض كنص شامل، فهو لا يقبل التعامل الإنتقائي، نأخذ ذلك أو نرفض ذاك، فكل آية من آيات «القرآن» الكريم لها أسبابها الموضوعية، وظروف نزولها، والسياق التاريخي لها، فضلاً عن تعدد مدارس وصور التأويل ومعاني التفسير، والتي بدا الدكتور «العظم» مِفتقدا لها، غير مُلّم بأبعادها.
وانطلاقاً من حدية الموقف الذي اتخذه «العظم» في تعامله مع الفكر الديني، فإنه بدا جذرياً مع هذا الفكر، واصفاً إياه بأنه غير قادر على التجديد أو الإجتهاد، حتى لو بُذلت محاولات تطعيمه ببعض مفاهيم الحداثة السياسية والاجتماعية. فهو يرى، مثلاً، استحالة القدرة عَلى التصالح بين التيار الإسلامي والفكرة الديمقراطية، ففي رأيه أن الديمقراطية لا تنمو إلاّ في مُناخ علماني ومجتمع ذى طبيعة مدنية غير ثيوقراطية أو مُغلقة، وهي شروط موضوعية لا تدركها التيارات الإسلامية.
صادق جلال العظم
مسيرة حياة
واللافت هنا أن «صادق جلال العظم» في سنوات شبابه، لم يختلف في انحيازاته الفكرية والسياسية، عما وصل اليه في سنوات كهولته، فهو شديد الانحياز لوطنه. فرغم انتماءاته العروبية لم يغادر دمشق إلاّ إلى بيروت حيث قصد الجامعة الأمريكية للدراسة بها، وبين أروقتها وقاعاتها، أحب وتزوج «فوز» ابنة «أحمد طوقان» رئيس وزراء الأردن الأسبق، وهو شقيق إبراهيم طوقان و فدوى طوقان.
وعلى مدى سنوات عمره الإثنتين والثمانين أنتج العظم نحو عشرين كتاباً ناقداً وصادماً، من بينها: دراسات يسارية في فكر المقاومة، الصادر عام ١٩٧٠، ثم أتبعه بكتاب سياسي خطير عنوانه «دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية» عشية حرب السادس من أكتوبر٧٣، وقبل سنوات قليلة من الحرب الاسرائيلية على لبنان، في عام ٨٢، نشر «العظم» في سنة ١٩٧٥ كتابه الرائد «الصهيونية والصراع الطبقي». ومن الطريف أن ينشر في نفس العام كتابه الفلسفي عن الحب، وعنوانه «الحب والحب العذري» والذي يقول عنه «نزار قباني»:
«إن العُشاق العذريين كانوا قبله، في تصورنا أنقياء كالملائكة، معصومين كالقديسين، الى أن كتب صادق جلال العظم كتابه، في الحب والحب العذري، ليمزق القناع عن وجوه العُشاق العذريين، وليكشف بالمنطق والفكر الفلسفي العميق، أنهم في حقيقتهم نرجسيون وشهوانيون».
ومن المُدهش أن تمضي المسيرة العلمية والبحثية للدكتور «صادق جلال العظم» مُتطابقة مع مسيرته المهنية والحياتية، فكلاهما اتّسم بالجرأة التي تصل في أحيان كثيرة الى الحدة بل والتناقض. فهو أرستقراطي، ماركسي، تركي، عربي، فلسفي، أدبي، انتقادي وتصادمي، عاشق لفلسطين، مُدافِعٌ عن المقاومة الفلسطينية وخصوصاً، الفصيل اليساري منها. وقد عاش بين أربعة عواصم دمشق وبيروت وعمّان، ثم مات ودفن في برلين، منفاه الذي ودع منه الحياة في ١١ ديسمبر ٢٠١٦ بعد أن استقبلها في دمشق سنة ١٩٣٤.