سواءً اتفقنا أم اختلفنا مع إنتاجه العلمي، واجتهاداته، وأفكاره، وآرائه في حقل الإسلاميات، ولا سيما تفسير وتأويل آيات القرآن الكريم، فإننا لا يمكن أن نغمِط المفكر السورى الراحل الدكتور محمد شحرور، رحمه الله، حقّه كأحد المفكرين البارزين في مجال الفكر الإسلامي، منذ أن نشر كتابه الأول، الضخم (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة) عام 1990، وهو الكتاب الذي تبنّى فيه رؤية جديدة للإسلام من خلال اعتماد المنهج التاريخي العلمي في الدراسة اللغوية، وحتى وفاته في 21 ديسمبر الحالي.
الإصلاح الدينى.. هو الأساس
ظلّ الراحل محمد شحرور يؤمن إيمانًا راسخًا بأن المسلمين في العالم بحاجة إلى حركة تنويرية جديدة، تخترق ثوابت القرون الإسلامية الأولى، لترسيخ مفاهيم حداثية عصرية، مثل الحرية، والمساواة، والتعددية، والحقوق الدستورية والإنسانية عموما، فجاءت أطروحاته وآراؤه بمثابة مراجعة نقدية شاملة لنصوص الإسلام التأسيسية، في محاولة منه للتوفيق بين قيم وأخلاقيات الإسلام، وبين فلسفة الحداثة المعاصرة والمنطق العقلاني للعلوم الطبيعية. ولم يغفل أهمية الربط العضوي بين الإصلاح السياسي والديني؛ فلا سبيل لأية إصلاحات سياسية في البلاد الإسلامية إلا إذا كانت هناك إصلاحات دينية جوهرية، وهذا معناه نقد أصول الدين، وإنتاج العقول الإسلامية، قديمًا وحديثًا، وَفق رؤية عصرية عقلانية، تهتدي بالمنطق، واللغة في آنٍ. لذلك كان يرى، دائمًا، أنّ «الإرث الديني لا بد أن يخضع لقراءة وتفسير جديديْن وبطريقة نقدية، وأن الإصلاحات الثقافية والدينية أهم من السياسية، لأنها شرط لأية إصلاحات مدنية أخرى».
تنبع أهمية المشروع الفكري لمحمد شحرور، من أنه مؤسَّس على دُعامتين اثنتين؛ أولاهما، مركزية الحرية في الفكر الإسلامي، وثانيهما الإفادة من الفلسفات الإنسانية المعاصرة، ومحاولة التوفيق بينها وبين ما جاء في القرآن تخصيصا، للوصول في نهاية الأمر إلى صياغة نظرية إسلامية في المعرفة الإنسانية.، فأما عن مركزية الحرية في الفكر الإسلامي، فالرجل ينتصر للإصلاح الديني على الإصلاح السياسي، لأنه يرى أن الدين هو المُكوّنُ الأساسي في الثقافة العربية، وأي إصلاح ثقافي في العالم العربي لابد وأن يمر عبر بوابة الإصلاح الديني، وهو الإصلاح الذي يتمُ من خلال قراءة الأحكام والنصوص الدينية قراءةً معاصرةً بعيدا عن التفاسير والاجتهادات التراثية- على حدّ تعبيره-. وعن مدى أهمية هذا الإصلاح، أولا، يدافع شحرور عن نظرته فيقول: «لقد تحالف منذ القرن السابع الميلادي هامانات المؤسسة الدينية مع فراعين المؤسسة السياسية على تحويل ما جرى من أحداث وما ساد من ثقافة وفقه، في القرنين السابع والثامن، إلى دين يقر الاستبداد ويكرسه، ويربط طاعة الحاكم المستبد بطاعة الله والرسول، ويلزم الناس بطاعة ولي الأمر وفق تعاليم تلبس، أحيانا، لباس الحديث النبوي، وأحيانا أخرى، لباس الأحكام الفقهية»، وهو ما يجعل من الإصلاح الديني أولوية وضرورة قبل أي إصلاح سياسي.
إسلام.. وإسلام
يرى شحرور أن مشكلتنا أساسها عدم التمييز بين الإسلام الأصل كما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبين التطبيق العملي التاريخي لهذا الإسلام، أي بين التنزيل الحكيم وكتب التفسير والحديث والفقه، بين إسلام جاء ليتمِّم مكارم الأخلاق ويؤكد كرامة الإنسان، وإسلام يعدُّ غير المسلمين كفارا ويرى أنه (لا يُقتل مسلم بكافر)، وعدم التمييز بين إسلام يفتح أبواب الإبداع على مصاريعها، وإسلام يختزل التاريخ والجغرافيا، ويقيد العقل بنصوص تراثية يزعم سدنتها أنها تحوي الحقيقة المطلقة في كل زمان ومكان، فما كان في القرن السابع الميلادي هو الحقيقة المطلقة، وليس الاحتمال التاريخي الأول لتطبيق الدين الإسلامي على مجتمع بدوي، دون أدنى إدراك بأن الإسلام مصدره إلهي جاء من المطلق وتفاعل نسبيا مع الزمان والمكان، فحوَى المطلق الإلهي في المحتوى، والنسبي الإنساني في الفهم، وهو ما تسبّب في عجز الفكر العربي الإسلامي، حتى الآن، عن تحويل قيم الحرية والعدالة والشورى إلى مؤسسات. فبقيت مجسَّدة من خلال أشخاص بعينهم، ليبقى التساؤل (الإشكالية): كيف يمكن تأسيس إصلاح سياسي في محيط عربي وإسلامي يَجْمُد على تلك المفاهيم، ويؤمن بها إيمانا راسخًا كأنها من أركان الدين؟.
وأما عن الإفادة من الفلسفات الإنسانية المعاصرة، ومحاولة التوفيق بينها وبين ما جاء في القرآن تخصيصا، للوصول في نهاية الأمر إلى صياغة نظرية إسلامية في المعرفة الإنسانية، فإن شحرور يؤكد أن غياب مثل هذه النظرية هو ما أدّى بالمسلمين إلى التفكُّك الفكري والمذهبي والطائفية، واللجوء إلى مواقف فكرية أو سياسية تراثية، تقوم على كيل الاتهامات بالكفر والإلحاد، وغير ذلك من اتهامات وتخوينات دينية، بل وطنية. ومن أجل ذلك أسّس شحرور فلسفة قوامها اللفظ القرآني، إذ يرى أن ثمّة مبدأين أساسيين؛ (الكينونة) و(الصيرورة)، فالأولى إلهية بحتة، أما الثانية فبشرية ونسبية، والكينونة تتحقق بكلمة الله، التي أوحيت إلى النبي محمد (ص) في القرآن، كما أن كتاب الله يعرض «الكينونة في حد ذاتها»، في حين أن ما عدا ذلك يعد «صيرورة»، وهو فهم النص الديني، لهذا فإن شحرور يتحدث عن «ثبات النص ومرونة المعنى»، وعن الجدلية بين النص والمعنى، وهو الأمر الذي جعله يفهم مصطلح «الحدود» كينونة، وفهمه صيرورة، وبناءً على ذلك فإن الإسلام «لا يقر قوانين، ولكن يضع حدودا تسمح للبشر بأكبر قدر من الحرية في التطبيق»، كما يرى أن جمود التشريع الإسلامي المعمول به يتناقض مع مرونة ودينامكية القرآن، وبناء على ذلك وضع الله لكل التصرفات البشرية المذكورة في القرآن حدا أعلى وحدا أدنى، في حين أن الحدود البسيطة هي الأدنى والحدود الكبيرة هي العليا لما تفرضه الشريعة في حالات معينة. ومن خلال ذلك تتدرج العقوبة وتصبح الشريعة مرنة وقابلة للتكيف مع الواقع المعيش، وبهذا يمكن تحديد العقوبة الفعلية وَفق منظور إنساني، ونضرب مثالا بحدّ السرقة؛، فحسب فَهم شحرور للآية: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» [المائدة: 38]، فإن قطع اليد هو الحد الأقصى للعقوبة، أو ما نطلق عليها في المصطلح الحديث أقصى العقوبات القانونية، ما يعني أنها عقوبة ذات عقاب متدرّج، بل إنه يرى أن القاضي من الممكن أن يعاقب الجاني بإجباره على القيام بعمل تطوعي، ورأيه هنا يُعدّ مثالا جليًّا لمحاولات التوفيق بين النص الديني وظروف الواقع المعيش العصري، دون أن يخضع النص لظروف الزمان والمكان، وهو رأي قد يقابله البعض تحسينا أو تهجينًا، لكنه يبقى في نهاية الأمر رأيا يتبنّى فلسفة تشريعية إنسانية معاصرة.
التفسير اللغوى
لكن، يبقى البُعد اللغوي أساسا امتاز به الراحل محمد شحرور، وإن تكن له هنّات وسقطات وتلفيقات في مضمار هذا الأمر، مثل تفسيره الغريب لقوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» [آل عمران: 144]، الذي يذهب فيه إلى أن الآية فيها خبر عن جميع الناس، وليس العرب خاصة، ويجب أن يكون خبر الله صادقًا، ومن ثم يجب أن يتطابق قول الله مع حال العالم اليوم، والشيء الجديد محبوبٌ من قبل كل الشعوب، ومن ثم يكون معنى “النساء” عنده أي جمع نسيء، أي الأشياء المؤخَّرة، أي الأشياء الجديدة، وهذه بعض هنّات وتلفيقات وتخريجات لغوية لا تتسق مع المعاني وسياقاتها، بيْد أنها في النهاية اجتهادات طريفة منه لا ينبغي أن تكون سببا لرميه بالكفر والفسوق وسائر النعوت القبيحة التي يُرمى بها الرجل منذ نشر أطروحته الجريئة (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة)، عام 1990. فالرجل وإن تجاوز وأسرف في فهم واعتماد المنهج اللغوي في تفسير بعض الآيات القرآنية، إلا أنه ترك قاعدة مهمة من الممكن البناء عليها بعد ذلك؛ فقد ذكر في مقدمة كتابه هذا [ص 7] أن تفسير القرآن يعتمد على فهم اللغة من خلال البيئة التاريخية المتطورة، وأسس منهجه اعتمادًا على عدة أمور، أهمها:
-الاطلاع على آخر ما توصلت إليه علوم اللسانيات الحديثة من نتائج، وعلى رأسها: أن كل الألسن الإنسانية لا تحوي خاصية الترادف؛ من هنا فقد أنكر شحرور أن يكون ثمة ترادف في اللغة العربية، مستندا إلى أن علماء اللغة المسلمين، أنفسهم، مختلفون في قضية الترادف بين من يثبته كسيبويه والفيروز آبادي، وبين من ينكره كابن فارس وابن جني والبيضاوي، وبناء على ذلك فقد اجتهد الرجل، ورأى أن التنزيل الحكيم خال من الترادف، في الألفاظ وفي التركيب، فاللوح المحفوظ غير الإمام المبين، والأولاد غير الأبناء، والفؤاد لا يعني القلب، وللذكر مثل حظ الأنثيين، لا تعني للذكر مِثلَا حظ الأنثى!
-إذا كان الإسلام صالحًا لكل زمان ومكان، فيجب الانطلاق من فرضية أن الكتاب تنزل علينا، وأنه جاء لجيلنا في النصف الثاني من القرن العشرين، أي أن آيات القرآن ذات صيرورة وتجديد، كما أسلفنا، أي ينبغي فهم النص الديني لا من منطلق ظروف نزوله قبل أربعة عشر قرنا، بل من منطلق وجوب تأويل آياته حتى تتوافق مع العصر والحضارة، وهي قواعد أرى أنها لا تقدح في الدين، وتُعدّ إحدى نوافذ التجديد والمزج بين الأصالة والمعاصرة، دون أن نحمّلها نعوتا وتهما كمثل النعوت والتهم التي يُرمى بها الرجل حتى بعد وفاته.