رؤى

فهمُنا للقرآن لا يتوقف على فَهم السلَف له

تحفّظ كثير من الباحثين التقليديين، على ما رآه العلامة ابن خلدون (1406م) في كتابه (المقدّمة)، إذ قال:  إنَّ “القرآن أُنزِل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلّهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه”، وتذرّعوا إلى ذلك بأنّ بعض الروايات المنقولة بأسانيد مختلفة، لكنها صحيحة على وَفْق قواعدهم، تؤكّد على أنّ الصحابة كانوا مُتفاوتين في فَهْم معاني القرآن، ودلالات آياته؛ فهذا أبو عبيدة يروي عن طريق مجاهد عن ابن عباس أنه قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات  حتى أتاني أعرابيان متخاصمان في بئر، فقال أحدهـما: أنا فطرتُها، والآخر يقول: أنا ابتدأتُها، كما يَروِي أيضا عن أنسٍ أنّ عمرَ بن الخطّاب قرأ على المنبر: (وفاكهة وأبًّا) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ ؟! ثم رجع إلى نفسه فقال: إنّ هذا لهو التكلّف يا عمر!

 وفي الحق، ما أخطأ العلامة ابن خلدون كما زعموا؛ لأنه قصد أنّ العرب كانت تفهم القرآن ومعانيه إجمالا دون دخول في تفاصيل ومرويات سخيفة سقيمة، كالتي ابتدعوها وحشدودها في تفاسيرهم، خصوصا التفسير بالمأثور، فكانوا يفهمونه باللفظ المتبادَر الذي كان العربيُّ يفهمه وقت النزول، و كانوا يلْمسُون هدْي آياته بعيدًا عن كلّ تفصيل يتضخّم في نفس أصحاب النصوص، لذلك قال ابن خلدون بعد تعميمه السابق:   ” كان النبي (ص) يُبيّن المجمل، ويميّز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه، فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه”

ابن خلدون
 ابن خلدون

 ومما هو مستقرّ وبديهي أنّ الرسول الكريم (ص) لم يُفسّر القرآنَ كلّه للصحابة؛ إذ هو مُبلّغ وهادٍ، لا مُفسّر؛ فكان (ص) يُبيّن لهم بالقدْر الذي يطلبونه فقط، فقد كانوا يفهمون الآيات بدلالاتها دون أنْ يُحمّلوها ما لا تحتمل كما درج المفسّرون بعد ذلك، فشغبوا على آي القرآن التي تُفهَم بألفاظها المتبادَرة بعيدًا عن التكلّف،وبمعزل عن النصوص السخيفة التي غصّت بها التفاسير المختلفة، بحُجّة أنها مُبيّنة ومُفصّلة لتلك الآيات، ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا الشَّعرَ– خاصة الجاهلي – حَكَمًا على القرآن، ولم يأخذوا في الاعتبار أنّ قسمًا كبيرًا من ذلك الشعر إنما هو منحول لا أصل له .

   وقد نقلت إلينا كتب الأسلاف، خصوصا المفسرين والمحدّثين منهم، ولوع غير واحد من الصحابة بالتفسير والتأويل للآي القرآنية، ولعلّ أشهر من ذكروه منهم، عبد الله بن عباس،  على الرغم من أنّ سنّه كانت حين توفّي النبي (ص) ثلاثة عشر عاما، وعلى الرغم كذلك من قول الشافعي (توفي 820م): لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمئة حديث، لكننا وجدنا الفيروز أبادي، صاحب القاموس المحيط، قد طبع تفسيرا كبيرا باسم (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس)، وضمّنه أقوالا فيها من التناقض ما فيها، ومع ذلك تجد نفرًا كثيرا من المفسرين يستشهدون بتلك الأقوال والآراء المنسوبة إلى ابن عبّاس؛ لأنهم دَرَجُوا على النقل الآليِّ دون اعتبار لعقل أو منطق، وكانت أقوال ابن عباس، وغيره، هذه مدخلا للتفسير بالمأثور/ النقلي الذي شحنه المفسّرون بغريب الآراء والقوال، واحتالوا به على هدْي القرآن، ودمّروا به التعقّل والتفكّر والتدبّر، وكل هذه المعاني التي دعانا الله إلى إعمالها في كثير من آي القرآن؛ وبالرغم من أنّ طائفة كبيرة من الدارسين في حقل التفسير ومناهجه، يعترفون بوجود أقطاب للرواية الإسرائيلية من الصحابة والتابعين كعبد الله بن سلام، وتميم الداري، وكعب بن ماتع المعروف بكعب الأحبار، ومحمد بن السائب الكلبي، ومقاتل بن سليمان، وغيرهم، إلا أنهم وثّقوا بعض آرائهم وسكتوا عنها، وتذرّعوا إلى ذلك بأنها من قبيل المسكوت عنه، الذي لا يحتمل الصدق ولا الكذب؛ فيرى الشيخ محمد الذهبي (توفي 1977م) جواز تداول تلك الروايات على أنها مجرّد حكاية لما عندهم [الإسرائيليات في التفسير والحديث: ص 82]، وسبقه إلى ذلك ابن تيمية (توفي 1328م)[أصول التفسير:  ص 98]، ولم يلتفت هؤلاء إلى أنّهم بذلك يعملون على تشويه القرآن ومعانيه والتزيّد عليه بما ليس فيه، وبما هو خارج عن هدْيه الذي هو مُبتَغَى الله الأوّل في تنزيل القرآن؛ فقد ضيّق التفسيرُ بالمأثور/ التفسير النصّي من دائرة الهدْي، وألجأ المسلمين إلى الجبر والتواكُل والخنوع، فجعلوا آي القرآن عِضين، وقطّعوا عُراها وأجزاءها، وأذهبوا بلاغتها، وأغرقوها في اللامنطق واللامعقول، وإنّ أجلَى الأسباب التي ساهمت في اختلاف السلف في تفسير كثير من آيات القرآن هو ولوعهم بالنقول والمرويّات الغريبة، وكلَفهم بها، ولو أنهم نظروا إليها بذهن خالٍ عن تلك النقول لاختلفت الحال، ولضاق باب الاختلاف.

تنوير المقباس من تفسير ابن عباس

وعلى الجانب الآخَر، جاء التفسيرُ بالرأي/ التفسير الليبرالي، ناطقًا بتنوّع الاتجاهات السياسية والاجتماعية والمذهبية في ذلك الوقت، ودعّم المفسرون بالرأي تفاسيرهم بالآراء والمعارف المتراكمة، التي اكتسبوها ووظّفوها في تفسير القرآن، ولم تكن تلك المعارف إلا ضربًا من التمرين في الفنون كالنحو والبلاغة والفقه وغير ذلك، مما أفسد – أيضًا – هدْي القرآن ومراميه الرفيعة التي نزل من أجلها، فتحكّمت الأيديولوجية في اتجاهات التفسير بالرأي، ولا أدلّ على ذلك من تفاسير أهل الفقه، وكذا تفاسير أهل الكلام  (شيعة – معتزلة)، وتفاسير أهل اللغة، وغير ذلك من التفاسير التي جعلت الأيديولوجيا حاكمةً على القرآن .

ولم يخلُ التفسير بالرأي/  الليبرالي من النقول الإسرائيلية، أو النقول التي تُجافي العقل والقرآن نفسه؛ فجاء التفسير بالرأي مشحونًا، بدرجات مختلفة، بالروايات الواهية، والنقول الغريبة السقيمة، فضلا عن طغيان مسائل الفقه والعقيدة واللغة وغيرها عليه، وفوق كل ذلك كان النقل الآلي سمة من سمات تلك التفاسير؛ فالقرطبي – مثلا – يبني تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) على تفسير المحرّر الوجيز لابن عطية، وينقل عنه آليا دون نقد، و الخازن ينقل هو الآخر من البغوي، وأبو السعود ينقل من البيضاوي، وكلّ ذلك دون إعمال عقل وفَهم وابتكار فيما ينقلونه، وإنما هو تكديس أوراق وآراء ما أنزل الله بها من سلطان، ويُناقض الحكمة الإلهية من تنزيل القرآن للهداية ووصْل الدين بالدنيا بعيدًا عن أهواء المفسّرين ونزعاتهم الأيديولوجية والمعرفية. يقول الأستاذ محمد عبده(توفي 1905م): “إنّ الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهي، ويذهب بهم في مذاهب تُنسيهم معناه الحقيقي”، ويقول في موضع آخر: “والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا، وحياتهم الآخرة، فإنّ هذا هو المقصد الأعلى منه، وما وراء هذه المباحث تابع له أو وسيلة لتحصيله” [الأعمال الكاملة: الجزء الأول في تفسير القرآن: ص 7 وما بعدها]

الجامع لأحكام القرآن

 وكانت المحصّلة الطبيعية لكل أولئك، ابتعاد المسلمين عن فهم القرآن فهمًا حقيقيًّا، يخاطب العقل قبل الرُّوح؛ فالعقل هو الذي يقود إلى التفكير الصحيح، والعقل باقٍ ببقاء الإنسان، فلا يستقيم بحال أن نرتكنَ إلى فهم الأوّلين، ونتكئ على آرائهم لمجرّد أنهم ممّن سبقونا بإحسان. فهل خلَقَ الله لهم عقولًا كاملة في ما خلق لنا عقولًا ناقصة؟!

إنّ أكبر إهانة للقرآن أن ندّعي أن فهمنا للقرآن إنما يتوقّف على فهم السلف له؛ فكأننا نعترف ذلك الادّعاء أن عطاء القرآن قد نفد، وإعجازه قد توقّف.

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock