يدخل النزاع الليبي إلى العام 2020 في ظل تصعيد داخلي وخارجي غير مسبوق، يتجاوز حتى منطق الحرب بالوكالة الذي عرفه هذا البلد خلال السنوات الماضية، بفعل نشوء متغيرين رئيسيين؛ الأول، أن الوكلاء المحليين عندما يفشلون في تحقيق أهداف الرعاة الخارجيين، فإن الأخيرين قد يتدخلون لمساندتهم، كما الحال مع إعلان تركيا استعدادها لإرسال قوات بطلب من حكومة الوفاق لمواجهة تسارع وتيرة التقدم الميداني للجيش الليبي لتحرير العاصمة طرابلس من الميليشيات. أما المتغير الثاني، فيتعلق بتوسع الجغرافيا السياسية للنزاع من الساحة الليبية إلى منطقة البحر المتوسط، حيث يتصاعد التنافس الإقليمي والدولي على مصادر الطاقة، وهو ما برز إثر توقيع تركيا مع حكومة الوفاق، في أواخر نوفمبر 2019، مذكرتي التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية.
لكنّ هذين المتغيرين يواجهان بدورهما اتجاهات رافضة، كما الحال مع روسيا وفرنسا وإيطاليا، وكذلك مصر التي رفضت الخطوات التركية التصعيدية، بحكم تشابك مصالح القاهرة مع الجيش الوطني الليبي في استقرار ليبيا، وفي الوقت نفسه امتلاك تحالفات تعاونية في مجال الطاقة، مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط، وبدا ذلك جليًّا في تحذير الرئيس «عبدالفتاح السيسي» خلال شهر ديسمبر من أن مصر «لن تسمح لأحد» بالسيطرة على ليبيا، ثم تأكيده مرة أخرى لاحقًا، خلال اتصال مع الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، بأن مصر تدعم جهود الجيش الليبي لإحلال الاستقرار ومكافحة الإرهاب.
السؤال المطروح، هنا: ما الذي قاد بالأساس النزاع الليبي إلى بلوغ ذروة التصعيد تلك التي تلوح منها نُذُر مواجهات إقليمية ودولية مباشرة؟ خاصة أن هذا النزاع ظل منذ تفجره إثر سقوط «القذافي» في عام 2011 يُلقي بتأثيراته العابرة للحدود على الإقليم، سواء تجاه الشرق الأوسط أو إفريقيا جنوب الصحراء، لكن مع ذلك تمسكت القوى الخارجية المتنافسة بحصر تفاعلاتها الصراعية في نطاق جغرافي ليبي، عبر الدعم غير المباشر للأطراف المحلية. الأهم، ما هي المسارات المحتملة لذلك النزاع الليبي؟ في ظل تحوله جيوسياسيًّا إلى ساحة تنافس محمومة لقوى خارجية لامتلاك أوراق للمساومة الإقليمية والدولية، بغية التأثير في قضايا أخرى، مثل الطاقة في البحر المتوسط، الأمر الذي يعقد اللعبة الصراعية في هذا البلد، كون كل فاعل إقليمي أو دولي يُقيد الآخر بمصالح متقاطعة ومتضاربة، سواء ثنائية أو جماعية في آن واحد.
دوافع بلوغ «نقطة التحول»
قد يُفسر المسار العام للتفاعلات الميدانية والسياسية في ليبيا خلال عام 2019 إلى حد كبير حالة التصعيد الراهنة التي بلغت ذروتها مع نهاية هذا العام. فذلك المسار أخذ سمتين جوهريتين مرتبطتين ببعضهما بعضًا، أو تعكسان بالأحرى وجهي العملة في المشهد الليبي. السمة الأولى، استمرار جمود مسار التسوية السلمية؛ فبعد تعثّر كلٍّ من فرنسا وإيطاليا في إيجاد توافقٍ بين المتنازعين الليبيين في عام 2018، لم يختلف الأمر كثيرًا في عام 2019، إذ فشلت مبادرة أبو ظبي خلال فبراير في بناء توافق بين «فايز السراج» رئيس حكومة الوفاق، والمشير «خليفة حفتر » قائد الجيش الليبي. وبالمثل أيضًا، ألغت الأمم المتحدة ملتقى غدامس جنوبي ليبيا في منتصف أبريل، بعد إطلاق معركة طرابلس، حيث كانت تسعى لجمع الفرقاء الليبيين فيه للاتفاق على قضايا التسوية السلمية.
أما السمة الثانية، فتشير إلى سعي أحدِ أطراف النزاع الليبي لبلوغ «نقطة التحول» في ميزان القوى الداخلية، أي إن طرفًا يسعى لفرض قواعد اللعبة السياسية على الآخر، بفعل هيمنته العسكرية والاقتصادية الداخلية، وقدرته على الحصول على دعم قوى خارجية. فمن يسيطر على كامل الجغرافيا أمنيًّا، والموارد النفطية اقتصاديًّا في ليبيا؛ قد يُنهي حالة انتشار القوة وتوزعاتها بين فاعلين ميليشياويين ومناطقيين كثر أسهموا في إفشال التسويات، وكرسوا حالة الانقسام متعدد المستويات منذ صيف 2014 «حكوميًّا، اقتصاديًّا، مجتمعيًّا» الذي تعمق أكثر بفعل اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015.
فقد نالت حكومة الوفاق الليبي منذ ذلك الاتفاق اعترافًا أمميًّا ودعمًا دوليًّا، منذ دخولها طرابلس في مارس 2016، برغم أن سلطتها ظلت هشة ورهينة أربع ميليشيات رئيسية في العاصمة « قوة الردع الخاصة، كتيبة النواصي، كتيبة أبو سليم، ثوار طرابلس»، بل وبرزت صراعات بين هذا «الكارتل» الميليشياوي وميليشيات أخرى في مصراتة والزنتان وترهونة في غرب ليبيا، حول توزيع السلطة والثروة في العاصمة. والأكثر أهمية أن حكومة الوفاق عملت قرابة أربع سنوات دون أن تحظى بثقة مجلس النواب، الذي يمثل السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد.
ولأن المسار السلميّ بدا مجمدًا، والانقسام الليبي أخذ يتصاعد وسط تكيف خارجي معه عبر الرهان على كل طرف داخلي يتواءم مع مصالحه؛ لذا فما أن استطاع الجيش الوطني الليبي إكمال سيطرته الميدانية على منطقتي الشرق والجنوب، وما تضمانه من غالبية الموارد النفطية، خلال عامي 2017 و2018، ثم الشهرين الأولين من عام 2019، حتى أطلق معركة طرابلس في أبريل لتحريرها من هيمنة الميليشيات، كآخر المناطق الليبية التي لم يسيطر عليها، وذلك في مسعى لأن يكون الفاعل الأمني المركزي الممسك بزمام الجغرافيا والموارد معًا. وتلقّى ذلك الاتجاه العام للجيش الليبي دعمًا من قوى إقليمية ودولية، كمصر والإمارات وروسيا وفرنسا، التي ترى أن لب أزمة عدم الاستقرار في ليبيا ينطلق من بناء جيش وطني موحد يحتكر الوظيفة الأمنية للدولة، ويستطيع أن يكون حارسًا للاستحقاقات الانتخابية التي تعثرت نتائجها في بناء التوافق السياسي، بعد عامي 2012 و2014، لغياب ذلك الشرط الأساسي.
اتجاهات مضادة لنقطة التحول
لكن مساعي تغيير قواعد اللعبة كليًّا أمر ليس باليسير في بلد كليبيا يعاني معضلات هيكلية منذ سقوط «القذافي»، مثل: انكشاف الأطراف الداخلية للعامل الخارجي، والتغيرات المتسارعة للولاءات والتحالفات المحلية، والأهم الانقسامات الرأسية في بنية المناطق الليبية، بسبب تجاهل الاتفاقات السياسية كالصخيرات لعدالة توزيع الموارد النفطية كشرط جوهري للقبول المجتمعي بالتسوية السياسية. وعليه، فمع ما أفرزته معركة طرابلس في بدايتها، خلال شهر أبريل، من سيطرة سريعة للجيش الليبي على مدن كغريان وترهونة وصبراتة وصرمان في محيط العاصمة طرابلس، برزت اتجاهات مضادة لعرقلة بلوغ نقطة التحول التي يستهدفها الجيش الليبي، عبر الدفع بمتغيرين جديدين إلى ساحة التفاعلات السياسية والميدانية.
المتغير الأول، يتعلق بتوحد الميليشيات المنقسمة على نفسها في غربي ليبيا، حيث نظرت هذه الميليشيات إلى معركة تحرير العاصمة على أنها صراع وجودي، قد يُنهي المكاسب التي غنمتها لسنوات نتيجة الانقسام المناطقي، لذا التأمت سريعًا في خطوط القتال في معركة طرابلس، برغم أنها كانت تتنازع قبل عدة أشهر، عندما حاولت ميليشيات «الكانيات» من ترهونة، مدعومة ببعض ميليشيات مصراتة والزنتان، دخول طرابلس بالقوة دون جدوى لمرتين، إحداهما في أغسطس 2018، والأخرى في يناير 2019.
وبينما اتجهت «الكانيات» في ترهونة في غربي ليبيا للتحالف مع الجيش الليبي «عبر انضوائها في اللواء 22»؛ فإن ميليشيات أخرى، كمصراتة والزنتان والزاوية والأمازيع وغيرهم، دخلت طرابلس، ما أسهم نسبيًّا في توازن القوى القتالي، والذي برز أكثر بفقدان الجيش الليبي مدينة غريان جنوبي طرابلس، ذات الموقع الاستراتيجي الجبلي في أواخر يونيو 2019. من بعدها، أخذ مسار القتال حالة من الجمود النسبي والكر والفر المتبادل. وبرزت -في هذا السياق- محاولات لميليشيات الوفاق لاختراق الخطوط الخلفية للجيش الليبي في جنوب غربي ليبيا، خاصة مرزق، بالتزامن مع تكثيف الضربات الجوية المتبادلة، والتي بدا فيها التفوق واضحًا للجيش الليبي. ففي نوفمبر 2019، قدر المبعوث الأممي «غسان سلامة» أمام مجلس الأمن العدد الإجمالي للغارات الجوية التي شنتها قوات الجيش الوطني بما يزيد عن 800 غارة، بينما وصلت غارات حكومة الوفاق وميليشياتها بالطائرات المسيرة بنحو 240 غارة، وعكس ذلك مباشرة الدعم التسليحي التركي، الذي استهدف إحداث توازن في معركة طرابلس.
أما المتغير الثاني المضاد لمساعي الجيش لبلوغ نقطة التحول، فيتعلق بانتقال تركيا للانخراط الأمامي في مشهد المعارك في غرب ليبيا، مستفيدة في ذلك من تراكم علاقتها الاقتصادية والمجتمعية مع مدينة مصراتة كقوة اقتصادية وتسليحية رئيسية في غربي ليبيا، فضلًا عن شبكة العلاقات القطرية مع قادة الميليشيات وتيار الإسلام السياسي. ولم يكن هدف تركيا من ذلك الانخراط تكريس مصالحها الاقتصادية «إحياء الاتفاقيات الاستثمارية مع حكومة الوفاق، المقدرة بـ18.5 مليار دولار» أو الأيديولوجية « دعم الإسلام السياسي المتراجع إقليميًّا بفعل حالة الوصم بالارتباط بتصاعد الإرهاب»، بل إنها حولت دورها إلى ورقة مساومة إقليمية مضادة لمصالح التحالفات الخارجية الداعمة للجيش الليبي في قضايا أخرى، مثل الطاقة في البحر المتوسط، وذلك عندما وقّعت أنقرة مع حكومة «السراج» مذكرتي تفاهم أمنية وأخرى لترسيم الحدود البحرية.
وقد عنت تلك الخطوة ثلاثة أمور أساسية؛ الأول، محاولة أنقرة الاستفادة السريعة من الجمود النسبي للقتال في طرابلس في الأشهر التي تلت فقدان الجيش لغريان، والذي لعبت فيه دورًا عبر الدعم التسليحي لميليشيات غرب ليبيا. الثاني، أن تركيا باتت تراهن في سياستها الخارجية على توظيف نموذج القوة العسكرية الإقليمية الصلبة، لتعويض تراجع قوتها الناعمة في الشرق الأوسط، بفعل التآكل الديمقراطي الداخلي، وهو ما برز في تدخلاتها العسكرية في أزمات ومناطق أخرى، كشمال سوريا، وإقامة قواعد عسكرية في قطر والصومال.
الأمر الثالث، والأهم، يتعلق بسعي أنقرة عبر هذا الاتفاق مع «السراج» إلى الضغط على التحالف المصري، اليوناني، القبرصي، وكذلك الاتحاد الأوروبي في قضية التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط، فذلك التحالف كان قد عزل أنقرة، عبر منتدى غاز شرق المتوسط، كما فرض الاتحاد الأوروبي على تركيا إجراءات عقابية في يوليو 2019 بسبب تنقيبها عن الغاز قبالة سواحل قبرص. لذلك، بدا أن أحد الأهداف الجوهرية لهذا الاتفاق هو سعي أنقرة لتكون عائقًا أمام خط الأنابيب «إيست ميد» الذي ينقل 11 مليار متر مكعب من غاز شرق المتوسط قبالة قبرص وإسرائيل إلى اليونان وإيطاليا، ويحظى بدعم أمريكي لتخفيض الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، حيث يفترض مرور ذلك الخط بالمنطقة الاقتصادية الليبية – التركية التي شملها الاتفاق بين “السراج” و”أردوغان”.
اصطفافات خارجية متضادة
مع توظيف أنقرة الارتباط الجيوسياسي بين معركة طرابلس وغاز المتوسط، بدت الشروط أكثر تعقيدًا في البيئة الليبية أمام بلوغ الجيش الليبي نقطة التحول التي تعني مباشرة إنهاء سلطة حكومة الوفاق في غربي ليبيا. لكن على الجانب المقابل، تعقدت الاصطفافات الخارجية وتداخلت خطوط مصالحها في غمار التأثير على قواعد اللعبة حول النزاع الليبي.
فمن ناحية، سارعت كل من مصر واليونان وإسرائيل وقبرص والاتحاد الأوروبي إلى رفض اتفاق “السراج” و”أردوغان”، بل إن الولايات المتحدة اعتبرته «استفزازيًّا»، وحتى إيطاليا ذاتها، فبرغم دعمها لحكومة الوفاق واستفادتها نسبيًّا من توازن القتال في طرابلس، لكونها وظفتها في منع الهجرة عبر المتوسط، فإن الاتفاق بين “السراج” و”أردوغان” بدا مضادًّا لمصالحها في مجال الطاقة.
من ناحية ثانية، دخلت أطراف خارجية جديدة للنزاع الليبي بعد أن كانوا يمارسون سياسة النأي بمواقفهم عن التفاعلات الداخلية، مثل اليونان التي طردت السفير الليبي بعد اتفاق حكومة “السراج” مع تركيا، وكذا قبرص التي اتجهت لتوثيق العلاقة مع قوى شرق ليبيا وخاصة مجلس النواب الليبي.
من ناحية ثالثة، تصاعدت أوزان لاعبين خارجيين آخرين، كروسيا، مستفيدة من التراجع النسبي لكل من فرنسا وإيطاليا، بسبب خلافاتهما وصراع المبادرات المضادة حول ليبيا، ناهيك عن ضبابية الموقف الأمريكي. في هذا السياق، بدا المؤشر الذي ذكرته تقارير غربية حول نفوذ موسكو في معركة طرابلس يتعلق بوجود مقاتلين روس من شركة أمنية خاصة «فاجنر» لدعم الجيش الليبي منذ شهر سبتمبر 2019، وهو ما تعرض للنفي من قبل الجيش.
إلا أن صعود موسكو على خط معركة طرابلس دلل في مضمونه على اتجاهاتها الاستراتيجية في توسيع نفوذها في الشرق الأوسط من سوريا إلى ليبيا وشمال إفريقيا عمومًا، حيث إن وضعها لموطئ قدم في ليبيا، يعني مباشرة امتلاك أوراق متعددة إقليمية ودولية، وفي أكثر من اتجاه وأزمة، ومنها استعادة مصالحها الاقتصادية التي فقدتها إثر تدخل حلف الناتو ليبيا في عام 2011، والضغط الأمني عند اللزوم على الأوروبيين عبر البحر المتوسط من المنصة الليبية في قضيتي الهجرة والطاقة، بخلاف الدخول كلاعب عالمي مؤثر في إدارة حسابات إمدادات الطاقة من شرق المتوسط، بحكم وجودها العسكري في سوريا، وتحالفاتها الوثيقة مع مصر في مجالات عسكرية واقتصادية.
أضف إلى ذلك، كون موسكو مصدِّرًا أساسيًّا للغاز لأوروبا، حيث سيزداد اعتماد الأخيرة عليه أكثر، سواء مع مشروع «نورد ستريم 2»، الذي يمر خط الأنابيب الخاص به عبر بحر البلطيق، أو خط «السيل التركي» الذي ينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود إلى تركيا وأوروبا، وهو ما يثير مخاوف واشنطن، التي بالمقابل فرضت عقوبات على الشركات العاملة في خط «نورد ستريم 2» خلال ديسمبر 2019 لتحجيم الارتباط الأوروبي – الروسي. ولعل مثل هذه الأوراق تجعل إدارة اللعبة بين تركيا وروسيا في ليبيا أكثر اتصالًا بمصالح أخرى في ملفات إقليمية ودولية، كسوريا والطاقة، وأنظمة الدفاع الصاروخية إس 400.
ما يدعم الأوراق الروسية عبر المنصة الليبية، أنها وبرغم دعمها للجيش الليبي فإنها تملك علاقات وثيقة مع أطراف النزاع الآخرين في غربي ليبيا، سواء حكومة الوفاق أو حتى القذاذفة كرهان سياسي عبر «سيف الإسلام القذافي»، ما قد يحفزها على أن تصبح لاعبًا مؤثرًا في مستقبل التسوية السياسية في ليبيا. لذلك، فقد أقلق الصعود الروسي في ليبيا، الولايات المتحدة، حيث التقى مسئولون منها المشير “خليفة حفتر” في نوفمبر 2019 للإعراب عن القلق من الاستغلال الروسي للنزاع الليبي، وفقًا لتقارير غربية.
إلا أن الموقف الأمريكي تجاه الأزمة الليبية بدا أنه لا يملك رؤية ثابتة تجاه محاولات تغيير قواعد اللعبة في هذا البلد. فبعدما مالت واشنطن، مع بداية معركة طرابلس لجهة الجيش الليبي، عندما اتصل “ترامب” بحفتر في شهر أبريل 2019، تراجع ذلك الموقف نسبيًّا بشكل براجماتي في الأشهر التالية لذلك عندما حل الجمود الميداني على ساحة القتال، حيث بدأ البنتاجون والسفير الأمريكي في طرابلس في تعزيز الاتصال مع حكومة الوفاق ومصراتة، مع تأكيد أمريكي عبر قوة الأفريكوم على هدفين رئيسيين يتعلقان بمكافحة الإرهاب وحماية أمن النفط.
هنا، يربط البعض بين العزوف الأمريكي والصعود الروسي وكسر الجمود في الديناميات العسكرية في معركة طرابلس، خلال الشهرين الأخيرين من عام 2019، في ظل خبرة موسكو في تغيير موازين النزاعات الداخلية، كما جرى منذ تدخلها في سوريا في سبتمبر 2015. إذ لوحظ تغير نسبي في استراتيجية القتال الميداني للجيش الليبي من المحاور المتعددة للقتال البري لدخول طرابلس إلى الاختراق المكثف عبر محور جنوب طرابلس، بموازاة تكثيف الضربات الجوية، خاصة على مصراتة بغرض تحييدها، حيث إنها القوة الميليشياوية الأكثر تسليحًا وعددًا في غربي ليبيا، والتي تحمي خطوط الدفاع في العاصمة وتنتشر أيضًا في سرت. ذلك أنه من دون مصراتة يصعب على ميليشيات الوفاق الصمود لوقت طويل أمام الجيش الليبي. لذلك استهدف الجيش الليبي مصراتة بمهلة لسحب قواتها في ديسمبر من العاصمة وسرت، لكنها رفضت.
تحركات تركية في شمال إفريقيا
مع إعلان المشير “حفتر” ساعة الصفر للسيطرة على طرابلس في شهر ديسمبر 2019، ثم اقتراب قواته ميدانيًّا من دخول العاصمة، بدأت تركيا في تحريك الاصطفاقات الخارجية المضادة للجيش الليبي؛ إذ اتجهت أنقرة إلى تفعيل الاتفاق الأمني مع حكومة “السراج”، ولوح “أردوغان” أكثر من مرة وخاصة في زيارته لتونس أواخر ديسمبر 2019 بإرسال قوات إلى طرابلس لمنع سقوطها، بعد أن يمنحه البرلمان تفويضًا بذلك في مطلع يناير 2020.
وعكست الزيارة مساعي تركيا لاجتذاب تونس لدعم حكومة الوفاق، خاصة أن أنقرة تدرك أن إرسال أي قوات برية أو بحرية أو جوية إلى غرب ليبيا قد يحتاج دعمًا لوجستيًّا من الجارة الحدودية لليبيا «تونس»، الأكثر تأثرًا بما يجري في طرابلس. لكن تونس نأت على الأقل علنًا بنفسها عن أي تحالف. أما الجزائر، فبرغم أنها تدعم حكومة الوفاق، فإنها ترفض أي تدخلات عسكرية خارجية، ولذا تحرك رئيسها الجديد «عبدالمجيد تبون» لتأمين حدودها مع جارتها الشرقية ليبيا. وعليه، فليس غريبًا -في هذا السياق- أن تتمسك أنقرة بإشراك هذين البلدين مع قطر في مؤتمر برلين، الذي أُجّل أكثر من مرة، منذ الإعلان عن البدء في جهود عقده منذ سبتمبر لتسوية الأزمة الليبية.
مسارات محتملة
في ضوء هذا الصراع والصراع المضاد بين الأطراف الخارجية والداخلية على بلوغ نقطة التحول، أو منع حدوثها بالأساس في الديناميات الداخلية للنزاع الليبي؛ فإن ثمة مسارات محتملة لذلك النزاع، يمكن إيجازها في ثلاثة مسارات أساسية يظل كل منها مشروطًا، وهي:
المسار الأول: نجاح الجيش الليبي في تغيير قواعد اللعبة كليًّا، عبر السيطرة على طرابلس، كرمز سياسي للسلطة المركزية في البلاد. وبالتالي، التحول إلى الفاعل المركزي المسيطر على مسار التسوية السياسية. لكن هذا المسار يظل رهنًا بشروط أساسية، مثل: تحييد قوة مصراتة، واستباق دخول الجيش للعاصمة قبل إرسال تركيا قواتها إلى غربي ليبيا كي لا يتعقد الموقف القتالي، بخلاف تأمين دعم دولي، خاصة من روسيا والولايات المتحدة. المعضلة هنا أيضًا أن دخول طرابلس فقط ذاتها يعني بدء معركة أحياء سكانية معقدة قد تحفز ردود فعل دولية مضادة، بسبب احتمال تصاعد الخسائر البشرية للمدنيين، وكذلك في ظل الانقسام بين دعم الجيش الليبي ومعارضته.
لذا، فإن سيناريو دخول طرابلس ضمن هذا المسار، كنقطة تحول كبرى لن يكون فقط عسكريًّا، وإنما يرتبط بمدى قدرة الجيش الليبي على بناء صفقات تحالفية مع القوى المحلية في غربي ليبيا تؤمن سيطرته المحتملة، في ظل متغير أساسي ربما يكون لصالح الجيش إن استفاد منه، وهو التغير السريع في الولاءات الميليشياوية والمناطقية باتجاه القوة المهيمنة على قواعد اللعبة، كما جرى من قبل في أكثر من منطقة ليبية.
المسار الثاني، تحول معركة ليبيا إلى مواجهات إقليمية ودولية مباشرة، حيث تترابط بموجب هذا المسار ساحة النزاع في معركة طرابلس مع قوى إقليمية تتنافس على الطاقة في شرق المتوسط. وبرغم أنه احتمال لا يخلو من مؤشرات مطروحة بفعل العسكرة المتنامية، سواء في غربي ليبيا أو البحر المتوسط، لكن مع ذلك فإن هذا المسار ليس في مصلحة أي قوى إقليمية ودولية منخرطة في النزاع الليبي، خاصة أنه لا يمكن السيطرة على تداعياته غير المحسوبة، سواء على سوق الطاقة العالمية، أو تهديدات الهجرة والإرهاب، بخلاف أن توازنات القوة العسكرية بين القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في ليبيا تعني أن أي مواجهة مباشرة قد تشكل خسائر فادحة لمختلف الأطراف.
المسار الثالث، الضغط الدولي للعودة لمسار التسوية السلمية بشروط وموازين جديدة، وهو أمر ربما يعقب تصاعد حدة الصراعات المسلحة إلى المستوى الذي لا يمكن أن تتحمل تداعياته القوى الكبرى. لذا تفكر بعض الدول الأوروبية في فرض حظر طيران على ليبيا، كما صرح مؤخرًا وزير الدفاع الإيطالي «لورينزو جويريني»، لكن ذلك أيضًا سيرتبط إنفاذه بمدى قبول موسكو وواشنطن للأمر. وحتى مع هذا المسار المحتمل الذي قد يمثل دفعًا محتملًا لمؤتمر برلين الذي من المحتمل عقده في يناير 2020، فإن مكاسب الجيش الليبي ستظل قائمة وقد تتصاعد أكثر إذا دخل طرابلس فعليًّا، وإن لم تكتمل شروط نقطة التحول التي يبغيها كاملًا، فلا يزال يسيطر على غالبية الأراضي ومصادر النفط والطاقة، بخلاف دعمه من قوى إقليمية ودولية متعددة، والأهم امتلاكه مكاسب جغرافية مضافة زادت في الأشهر الأخيرة في غربي ليبيا وقد تمكنه من مضاعفة التأثير على أي تسوية قادمة محتملة.
يظل في الأخير، أن تضارب وتقاطع المصالح بين الأطراف الداخلية والخارجية في آن واحد خلق «لعبة مقيدة ومعقدة» لبلوغ نقطة التحول الجذرية في النزاع الليبي، ومثلما قد يشكل ذلك الأمر محفزًا للتصعيد إلى حد المواجهات الخارجية المباشرة التي قد تتدخل القوى الكبرى لمنعها؛ فإنه قد يحفز -في المقابل- على الصيغ التساومية في النزاع الليبي لإدراك الأطراف داخليًّا وخارجيًّا صعوبة الخيار الصفري، وكلفته الباهظة.