يعد أبو زيد الهلالي بطل أشهر الملاحم الشعبية العربية المعروفة بسيرة بني هلال، وقد صورت هذه الملحمة وقائع العرب في الفترة من منتصف القرن الرابع الهجري، وحتى منتصف القرن الخامس الهجري إبان عصر الدولة الفاطمية.
في الجزء الثاني من كتابة (لمحة عامة إلى مصر) يشير كلوت بك إلى أن قصة أبي زيد كُتبت في القرن العاشر الميلادي–القرن الرابع الهجري، وكانت شائعة في زمن المؤرخ ابن خلدون، الذى كان أول من ذكرها كوقائع تاريخية لا تقبل الشك.
الهلالى «سلامة»
وينتمي أبو زيد الهلالي لواحدة من أعرق القبائل العربية، والاسم الحقيقي له هو سلامة بن رزق بن الهوزاني، أما الوالد فهو رزق الهلالي أحد أمراء بني هلال، والذي اشتهر بشجاعته الفائقة ودهائه العسكري، الذي أهلّه لقيادة جموع فرسان بني هلال. أما الوالدة فهي السيدة خضرة ابنة الأمير قرضة شريف مكة.
تدور القصة دراميا حول قضية مولد أبي زيد، وكيفية اللقاء بين الأبوين، و مجىء أبى زيد إلى الدنيا أسمر البشرة على الرغم من بياض بشرة الوالدين، وهي القضية التي تعتبر بمثابة «عقدة» السيرة. كان الوالد رزق الهلالي يبكي غياب الوريث حامل المجد وشرف الفروسية، حتى جاءه الهاتف بالتوجه إلى أرض مكة المباركة والزواج من هناك، ليلتقي بالأميرة خضراء بنت شريف مكة ويتزوج منها. ورغم زواجه وحبه لزوجته لا ينجب منها، فتذهب الأم إلى موقع أسطوري تحوم حوله الطيور وتُستجاب عنده الدعوة، فتتمنى ميلاد فارس كطائر قوي أسمر كان يحوم حول الطيور فيهزمها، وهو ما كان، فتنجب طفلا أسود البشرة هو أبو زيد.
لكن الوالد يتشكك في صحة نسبه، ويتهم الزوجة الشريفة بخيانته مع أحد العبيد، وتحت ضغط أخيه والقبيلة يقوم بطرد زوجته إلى أهلها في مكة، لكنها تخشى ألا يصدقوا روايتها فتمكث في الصحراء إلى أن يشفق عليها أحد المارة، وهو الأمير فضل أمير بني زحلان، فيصطحبها وابنها ويقوم بتربيته على الفروسية والشجاعة.
في سياق درامي يتعرف الأب على الابن الفارس الشجاع، لكن الابن يرفض العودة إليه في البداية، ثم يشترط عليه أن تعود الوالدة بشكل يحفظ لها كرامتها، ويعلن طهرها وعفافها لنتعرف منذ ذلك الحين على شخصية خضرا الشريفة. وبعد عودة الابن إلى أهله واستقراره فيما بينهم لسنوات يدافع فيها عنهم ويبرز كبطل أوحد وأول للقبيلة يضرب الجفاف أرضهم لمدة ثمانى سنوات يضطرون بعدها للرحيل من أرضهم إلى بلاد تونس حيث سيقودهم أبو زيد في رحلة من المخاطر والتشويق تبرز فيها بطولته.
https://www.facebook.com/helaliworld/videos/1128154334040210/?t=106
سنوات المجد
هنا تنتقل بنا السيرة إلى ما عُرف بتغريبة بني هلال، حيث مسار رحلتهم من المنطلق في بلاد الحجاز إلى العراق والشام وفلسطين، مرورا بمصر وليبيا وحتى بلاد تونس.
وهي الرحلة التي ستبرز فيها بطولة أبى زيد الهلالي المطلقة بما امتاز به من قوة وشجاعة وإقدام وذكاء وقدرة على التحايل، وتعرض السيرة للعديد من المغامرات التي يخوضها أبوزيد في طريقه إلى بلاد تونس وبصحبته الأمراء الثلاثة.. مرعي، ويحي، ويونس، ليخوض العديد من المغامرات، قبل أن تصل به الرحلة إلى بلاد تونس أرض الزناتي خليفة التي وصلها متنكرا، ثم تكتشف سعدى ابنة الزناتي حقيقة هويته، ووقوعها في غرام مرعي.
يقوم الزناتي باحتجاز الأمراء الثلاثة، بينما يفر أبوزيد بمساعدة سعدى، حيث يعود إلى قومه ليصطحبهم من جديد في رحلة يواجهون فيها العديد من القبائل العربية والأعاجم والبربر فتخضعهم بني هلال جميعا بفضل حنكة وشجاعة أبى زيد الهلالي إلى أن يصلوا إلى أرض تونس التي يجلس على عرشها حاكم قوي صلب، بطل آخر من أبطال السيرة حيث يزود عن مدينته أمام حصار دام نحو أربعة عشر عاما، واجه فيها الزناتي وقتل نحو 90 بطلا من أبطال بني هلال وحلفائهم الزغابة، إلى أن ينتهي الموقف بقيام دياب بن غانم فارس الزغابة بقتل الزناتي خليفة وسيطرتهم على ملكه.
لكن ما أن يتم لهم الأمر حتى ينشب الخلاف فيما بين المتحالفين من بني هلال والزغابة، نتيجة طمع دياب في الزواج من سعدى أولا، وفي السيطرة على ملك الزناتي منفردا ثانيا، فيسجن الأمير حسن دياب لسبع سنوات ثم يعفو عنه فيخرج دياب ليقوم بذبحه أثناء نومه، يطارد أبوزيد دياب بعد أن أقسم على الثأر منه، لكنه يعفو عنه بعدما جرفه الحنين الى سنوات وحدة ومجد وانتصار بني هلال. لكن دياب الذي سيظل في خوف من انتقام أبوزيد الهلالي يبادر باغتياله اثناء مرافقته في رحلة صيد.
هنا تتوقف القصة الدرامية بمشهد أبى زيد الهلالي المقتول غدرا بين أيدي قاتله الذي يبكي بعدما استشعر خيانته وجريمته، وعلى الرغم من طرافة السيرة الشعبية لتغريبة بني هلال إلا أن ما يهمنا هنا هو التأثير الشعبي والجغرافي على مسار الرواية، والتنوع الذي لحق بالقصة.
البطولة لمن؟
من المؤكد أن شخصية أبى زيد الهلالي لحقت بها العديد من المبالغات كانت سبباً في اعتقاد غالبية الناس بأنه شخصية خيالية، خاصة وإن سيرته قد شابتها قصص دخيلة تتحدث عن السحر وسيطرة الجان، لكن الواقع أن شخصية الهلالي عبرت عن أحلام الشعوب وطموحاتها، فأبوزيد هو الفارس المثالي المقدام الذي يتبنى قضايا أمته العربية، و لا يتخلى عن شعبه وأهله ويقوم دائما على حمايتهم، وهو نموذج يحلو للرواة استدعاءه كلما ظهرت الحاجة في الواقع اليه.
ولأنه يعبر عن طموحات الشعوب وأحلامهم فقد ألحق كل شعب بشخصيته ما يناسبه، فهو يرتدي زي كل مكان يمكث فيه، ويلبس روح الطبيعة الثقافية والجغرافيا.
ففي فلسطين منذ وقت قريب لم يكن أبى زيد الهلالي يحمل سيفاً ولكنه كان يمسك مسدساً، ليحرر أرضه، فالأمر يتطور ويواكب كل عصر، السمات الجيدة لشخصية الهلالى جعلت كل مجتمع يستدعيه عندما يحتاج إلى بطل شجاع ليخلص الناس مما يعانون منه، في صورة تتوافق مع وضعه الحالي».
وهو ما انعكس على تباين روايات السيرة الهلالية وفقا للمناطق الجغرافية، لكن الاختلاف عادة ما يكون في التفاصيل أو إسناد البطولة لشخص على حساب آخر، بينما تبقى الروايات المختلفة على الأبطال الرئيسيين، حيث يسيطر الاختيار القبلي والعرقي على رغبات المستمعين للسيرة الهلالية في أحيان كثيرة، لكن دون إنكار لبطولات الشخصيات الأخرى داخل السيرة، فالرواية المشرقية تسند البطولة لأبى زيد، بينما ترجح الرواية المغربية بطولة الزناتي خليفة.
وكثيرا ما يتماهي الرواة والمتلقون مع سيرة بني هلال ومع أبي زيد الهلالي بشكل خاص، وهو ما يبرز في بعض مناطق شمال السودان وغانا وتشاد؛ إذ يطيل الراوي عادة الوقوف عند ولادة أبي زيد الهلالي ولونه الأسود، وما واجهه من إقصاء القبيلة ونبذها، لأن هذا هو المشترك الأهم بين أبى زيد وسكان تلك المناطق.. نعني لون البشرة.
أما في صعيد مصر فيوجد تأييد كبير لشخصية دياب بن غانم، بالإضافة إلى محافظة مطروح ،لأنهم يعتبرون أنفسهم امتدادا لقبيلة «سليم» التي انتقلت مع قبيلة هلال من نجد إلى تونس. لكن بعض مناطق الصعيد تنتصر لأبى زيد الهلالي، فقرية بنى هلال في محافظة سوهاج المصرية تمثل تقاليد الهلالية وطقوسها، فالقرية عند حدوث مشاحنات تُغير بأكملها على القرى المجاورة لها في صورة الثأر الجماعي، كما يروى أن نساء هذه القرية يحملن الرايات ويضربن الدفوف إيذانًا بالثأر، على شاكلة الجازية والفتيات الهلاليات. وأهل هذه القرية يؤكدون انتسابهم إلى جدهم الأكبر أبي زيد الهلالي.
هذا التباين في اختلاف الرواية الشعبية، والتنوع في إسناد دور البطولة من منطقة إلى اخرى، وفقا لدرجة تماس البطولة مع سكان هذه المناطق، يؤكد الدور الذي لعبه سكن الشعوب العربية ومناطق تواجدها الجغرافى، كمكون أساسي من مكونات نصوص السيرة الشعبية ورواتها.