تعتمد القنوات الفضائية في كثير مما تقدمه للمشاهدين على حالة الحوار، وتتضمن فقرة الحوار شخصين أو فريقين يدور بينهما نقاش وجدال حول موضوع من الموضوعات، غالبا يكونان مختلفين فيه بصورة تامة، أو في الحد الأدنى ينظران إليه نظرة قد تتقارب، لكن كل ناحية تنظر إليه من زاوية تخصها.. يريد كل منهما أن ينتصر لتصوراته الخاصة حول القضية المطروحة، والمأمول أنه يريد الانتصار بموضوعية واحترام للآخر.. فهل تتحقق هذه الموضوعية وهذا الاحترام للآخر؟
حوار الطرشان
يدير الحوار مقدم البرنامج، الذي يجب أن يكون عادلا في الأسئلة التي يوجهها للطرفين وفي الوقت الذي يمنحه لكل منهما ليجيب عنها ويستفيض في شرح فكرته عموما. ومن قبل ذلك يجب طبعا أن يكون هذا المذيع مثقفا رفيعا، دقيق الألفاظ، عارفا بأبعاد الموضوع المطروح للرأي معرفة عميقة، وأن يكون محددا للغاية فيما يقوله، وأخيرا قادرا على حكم منضدته وحسم أية معارك لفظية أو بدنية قد تنشأ بين الضيوف (لا قدر الله)..
في عالمنا العربي، يدور مثل هذا الحوار بكثافة على الشاشات، لاسيما في قلب الأحداث المعقدة الملتبسة التي عادة ما تتسع بشأنها وجهات النظر وتتباين، وما أشد حدوث أمثالها في أمتنا التي جار عليها أبناؤها غافلين، وترصدها الغرباء متعمدين.
ينتمي ضيوف هذه الفقرات إلى النخب المثقفة طبعا؛ فهم الأجدر بالحديث في القضايا الملحة متشابكة الأفرع التي تتعدد أمامها الرؤى وتتشعب عندها الطرق. ومع كونهم الأجدر بالحديث فعليا حيالها، إلا أن حالة الحوار بين هؤلاء تنتهي دائما بمأساة الصدام العنيف الذي قد لا يستطيع المذيع فضه، مهما قويت شخصيته وعظمت خبرته؛ فيعتذر للجمهور مغلقا الصفحة، ومنتقلا إلى أخرى، أو منهيا البرنامج لو كان قائما على فقرة الحوار وحدها في ليلته واضعا قناته في حالة ارتباك.
نعم لدينا- بكل أسف- مثقفون لا يجيدون الحوار، بل ليسوا مؤهلين له أصلا.. ينادون بالحوار الهادئ ولا تخلو حواراتهم من الانفعال الشديد وينصحون المتحاورين بالتفاهم، فإذا جاء دورهم في الاستضافات الحوارية ما رأى الناس منهم إلا حوار الطرشان. هؤلاء قدوات، وبروزهم هكذا يسىء إليهم أبلغ إساءة. لكن الأسوأ هو أنهم جعلوا حالة الحوار نفسها تهريجا خالصا؛ فقد فرَّغوا مسألته الجادة من مضمونها وأبقوها للتسلية كخيمة السيرك.. ومن عجيب أنهم لا يشعرون بالعار فيتوارون عن المشاهد كلها، بل يظهرون مجددا هنا وهناك، لا يرعوون، ولا يكف ما أسميه بالإعلام التخريبي عن توجيه دعواته إليهم، فيكررون نفس الأخطاء، بل يبالغون في العداوة العلنية، فتزداد ألفاظهم حدة وبذاءة، وتمتد أيدي بعضهم على بعض بالبطش وتتطاير أحذيتهم في كل الاتجاهات على الشاشة الخائفة الخجلى.
هشاشة المثقفين
لقد فضح هذا الشق من الإعلام الفضائي عددا هائلا من مثقفينا العرب؛ فأظهر هشاشتهم وعدم جدواهم كما أظهر كذبهم العميق على أنفسهم قبل الآخرين، ولعب بهم الكرة، واضعا إياهم في المواضع المستفزة المشينة، بينما يحسبون أنهم في مواضع الإشادة والتكريم. وإذا كانت أحوال مثقفينا هكذا، فكيف بأحوال الذين لا حظ لهم من تعليم ولا ثقافة؟
لقد أسميته بالإعلام التخريبي قاصدا؛ لعلمي، ذي الأدلة، بأن التحصيل المالي الضخم هو ما يهمه لا الحقيقة، وأنه في سبيل بلوغ الربحية العالية يصنع السخرية الممجوجة ويقدمها للعالمين على أنها الواقع ويتزيد في جلب العاهات العقلية والوجدانية ويقنعها بأهميتها أو يحول الأسوياء، بالحيلة، إلى عاهات قبيحة.. وقد تؤول تصرفاته إلى تصدع البناء الصامد وانهدامه.
يكفي هنا أن يقوم المشاهد بعملية بسيطة على اليوتيوب، باستدعاء عدد من الحلقات الحوارية بامتداد وطننا العربي الكبير، أو حتى بمراجعة عشوائية لحلقات من البرنامج الحواري «الاتجاه المعاكس» الذي يذاع على قناة الجزيرة، لاستبيان الواقع المؤسف للحوار في البلاد العربية بين النخبويين، بما يدعو إلى العجب والاستنكار.
إن للحوار جملة طويلة من الآداب يُفترض أن الفئات الواعية المطلوبة له أدرى الناس بها، ومن ذلك أن كل طرف من أطراف الحوار عليه أن يتحلى بالصبر قدر تحليه بالشجاعة وأكثر، وأن يحترم الطرف الآخر ولا يحيد عن الموضوع المنظور متفرعا إلى موضوعات جانبية، وأن يتمهل فلا يتسرع ويحسن الظن فلا يتهم، وأن يتجنب العصبية والغضب والشك في انحياز قائد الفرقة لجانب واحد من العازفين، وأن يتوخى بلوغ الصواب من وجهة نظره متفاعلا تفاعلا إيجابيا مع المنضدة ومستفيدا مما يقال عموما سواء والاه أو مالأه.
أما الذي يمد الحبال بينهما فلا يصح البتة أن يظهر منه ميل إلى طرف على حساب الآخر، وأن يتبدى كمشعل الحطب، لكنه- في كل تقدير سليم للأمور- يجب أن يكون منتميا إلى مكانه الذي يعني أنه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، في نقطة تتوسط الطرفين. لا ينقصه من أدواته الضرورية شيء، ويجلله الهدوء الصادق ويحس بأشواق المتابعين للحصاد المفيد وينتظر نهاية سارة مثلهم.
يقول الإمام الشافعي: ما ناظرت أحدا إلا تمنيت أن يُجري الله الحق على لسانه.. فعلى كل المتصدين للحوارات ومستضيفيهم أن يتدبروا تلك العبارة النبيلة الهادفة، وتراثنا الديني النقي مليء بنظرائها، وكذلك تراثنا الشعبي وحكمنا الفرعونية وعطاءات مبدعينا النبلاء؛ ففيها جميعا مئات العبارات المماثلة التي تحض المتبارين على التخفف من معنى أن الحصان الخاسر بلا قيمة، بل المهم أن يبلغ المتسابقون جميعا نهاية المشوار بيقين متشابه صانعين- في صورتهم الكلية- شكلا عاما منظما للسباق الذي يضمهم مضماره. لا يكمن الخير فيمن حصل على الكأس والجائزة، بل في وصول الجميع إلى نهاية المطاف بأمان تنعكس على المشاهدين ظلاله المريحة. وللأسف فإن هذه البديهيات تغيب عن قطاع عريض من مثقفينا العرب على تنوع خلفياتهم الثقافية؛ فتبدو حواراتهم كأنها صراع أخير لإدراك الحياة.