«كان هو الشجرة الوحيدة بيننا، يقف منتصبًا بجسده العسكريّ القويّ الذي لم يؤثر فيه أي حصار، يرفع يده إلى أعلى مثل الأشجار المصرية المقدسة المرسومة على جدران المعابد ثم يبدأ الحديث، صوته رائع، قويّ، ناضج، أحيانًا يَهْدُرُ غاضبًا مثل فرعون جامح، ويخفت أحيانًا مثل فلاح لا يسد رمقه إلا الخبز اليابس والجبن، ثم يقول نكتة عابرة، وعندما يزوم الشعب ضاحكًا يتذكر أنه شجرة فيعاود الوقوف منتصبًا» مشهد من رواية «إنكسار الروح» للكاتب محمد المنسي قنديل، يصف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ذلك الوصف الذي يليق به كبطل أسطوري.
كثيرة هى النصوص الروائية والأدبية التي تناولت جمال عبد الناصر، سواء كان ذلك خلال حياته أو بعد وفاته، وكان منها ما أثار الكثير من الانزعاج لدى الأجهزة الأمنية خلال حياته مثل رواية «ميرامار» لأديب نوبل نجيب محفوظ، التي تحولت لفيلم سينمائي (1969)، ورواية «شيء من الخوف» لثروت أباظة التي تحولت أيضا لفيلم خلال ذات العام، غير أن رد فعل جمال عبد الناصر ذاته على تلك الروايات وأصحابها كان إيجابيا، ربما بسبب عشقه للأدب وللأعمال الأدبية والسينمائية بشكل عام، وما عُرِفَ عن تأثره برواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، بما طرحته من رؤية سياسية استندت لفكرة إحياء مصر على يد بطل فرد يتسم بمميزات خاصة.
الدكتور شحاته محمد الحلو في كتابه «صورة جمال عبد الناصر في الخطاب الروائي»، يتناول شخصية عبد الناصر كما وردت بالنصوص الروائية وذلك عبر تحليله لإثنين وخمسين نصا روائيا صدرت خلال الفترة من (1975 حتى 2010)، إضافة لأربعة نصوص صدرت فيما قبل (1975) استعان بها الكاتب لأهميتها وهى: «ثرثرة فوق النيل» (1966)، و«المرايا» (1972) و«الكرنك» (1974) لنجيب محفوظ، ورواية «نجمة أغسطس» (1974) لصنع الله إبراهيم.
https://youtu.be/huW2IsxIKuo
وقد برر الدكتور شحاتة اختياره لتلك الأعمال الأدبية وتركزها خلال الفترة من (1975 – 2010)، لأهمية أن تكون هناك فترة زمنية بعد وفاة جمال عبد الناصر تسمح للكاتب بتأمل المرحلة الناصرية بعمق وجرأة، دون اللجوء إلى المراوغة وأن يتميز الكاتب بالقدرة على تطويع الأدوات الفنية والتعبيرية مع توظيف تعددية الأصوات السردية بهدف إبراز شتى الرؤى، سواء كانت مؤيدة لعبد الناصر ومدافعة عنه، أم رافضة لسياسته ومعادية لشخصه. كما حرص الكاتب في اختياره للنصوص الروائية، على تنوع طبيعة القضايا الفكرية والسياسية التي عالجتها أحداث تلك الروايات، شريطة أن تكون الرواية متعلقة بشكل مباشر بالمرحلة الناصرية أو تضمنت سردا يتعلق بشخصية عبد الناصر ذاته. كما تمت مراعاة عنصر التنوع في الأجيال، فكانت هناك أعمال لنجيب محفوظ وأخرى لأدباء جيل الستينات، إلى جانب عدد من الأدباء من الجيل الجديد.
يضيف شحاتة بأن ما حفزه لدراسة صورة عبد الناصرعلى وجه التحديد في السرد الروائي يرجع لشغل شخصيته مساحة من الحضور بالسرد الروائي أكبر من تلك المساحة التي شغلها غيره من زعماء التاريخ المصري الحديث، هذا إلى جانب كون المرحلة الناصرية تتسم بكونها ذات بعد جدلي لم يتم الإتفاق حوله، فمن ناحية تمكنت تلك المرحلة من تحقيق العديد من الانجازات (الإصلاح الزراعي، مجانية التعليم، تأميم قناة السويس …إلخ )، لكنها من جانب آخر جاءت محملة بأزمة غياب الأحزاب السياسية وضعف الحياة النيابية، وهو ما عبر عنه صنع الله إبراهيم في تقديمه لروايته «نجمة أغسطس» التي تقع أحداثها زمنيا بتلك المرحلة بقوله: «كيف يمكن التعبير روائيا عن موقف معقد تقوم فيه سلطة تقدمية معادية للاستعمار بتحديث البلاد وتصنيعها ومحاولة تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية، بينما تمارس أبشع ألوان القهر ضد من يخالفها في الرأي أو يتجرأ على محاولة المشاركة في الفعل».
البطل
تعددت صور جمال عبد الناصر بالأعمال الروائية التي استند إليها الدكتور شحاتة في تحليله، حيث انقسمت الصورة إلى ثلاثة أنماط رئيسية «الضحية، البطل، والمستبد» وتجسدت صورة البطل عبر نمطين، الأول قدمه بوصفه بطلا تقدميا، والثاني تناوله بوصفه بطلا أسطوريا.
جَسّد صنع الله إبراهيم صورة عبد الناصر بوصفه البطل التقدمي في أعماله «شرف، وردة، ذات»، ففي رواية «شرف» قدم عبد الناصر بوصفه يتسم بالوعي الشديد بما يجري، وقراءته الجيدة للوضع الاقتصادي المصري، ومن ثم فإن تفكيره يتسم بكونه تفكيرًا عقليا يرتكز على الإحاطة التامة بالجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمصر، وليس تفكيرًا عاطفيا انفعاليا.
كذلك الحال في رواية «وردة» حيث ينظر الراوي إلى عبد الناصر بوصفه بطلًا تقدميا سعى إلى تحرير الاقتصاد المصري من الاستغلال الغربي وأنشأ القطاع العام ليمهد الطريق لتنمية شاملة تجني ثمارها القاعدة الكبرى من الجماهير، فضلا عن كون «وردة» بطلة الرواية المثقفة المناضلة كانت تبحث من الناحية النفسية عن نموذج بطولي تقدمي في الكفاح والعمل، كي يمدها بوقود الأمل في النصر، وكانت خطب عبد الناصر بما تضمنته من قرارات ثورية تعد نموذجا بطوليا يعضد موقفها أمام رفاقها، حيث كان يمثل من وجهة نظرها نموذجا واقعيا ناجحا للثورة الاشتراكية، وهو ما جعلها تحرص على تدوين النقاط الهامة بخطاباته ضمن أهم أحداث يومياتها، بعبارات تخلو من أي نقد.
الضحية
يرصد الدكتور شحاتة عبر تحليله، ثلاثة أنماط لصورة «عبد الناصر.. الضحية»، النمط الأول صوره بوصفه ضحية أعوانه، والنمط الثاني يقدمه كضحية للتآمر الخارجي، أما النمط الثالث فيصوره كضحية بعد موته لرجال السياسة والصحافة الذين كالوا له الاتهامات بالفساد والاستبداد فيما عرف بمرحلة الارتداد عن الناصرية.
وتضم العديد من النصوص الروائية التي تم تحليلها كثيرا من الشخصيات التي تتولى الدفاع عن عبد الناصر ومهمة الرد على الانتقادات الموجهة إلى فترة حكمه بوصفه زعيما نزيها سعى لبناء الوطن وإعادة تقسيم ثرواته، غير أن أعوانه المحيطين به وكبار العاملين بالجهاز الإداري للدولة لم يكن لديهم ما تمتع به عبد الناصر من حس إنساني وأهداف وطنية، ومن ثم كبلوا عهده بالفساد والإستبداد، وانفردوا بالثروات.
ففي رواية «أحلام العايشة» (2003) لخليل الجيزاوي تلقي إحدى الشخصيات الضوء على هؤلاء الأعوان الذين شكلوا طبقة من الانتهازية وقفت كحائط صد بين الزعيم الثوري وجموع الشعب: «هؤلاء هم الذين حاصروا زعيم الثورة وعزلوه عن جماهير الشعب بحجة حمايته والتأثير عليه، نعم نجحوا في تحديد أفكاره الثورية والتنويرية والوحدوية في سبيل تأمين مقاعدهم الدوارة».
من جانب آخر تعددت الروايات التي قدمت عبد الناصر بوصفه ضحية التآمر الخارجي، ففي رواية «إسكندرية 67» (1998) لمصطفى نصر تفسر إحدى شخصيات الرواية هزيمة 1967 بوصفها تآمرا خارجيا ليس أكثر : «لقد أرادوا اغتيال عبد الناصر، ولما فشلوا بحثوا عن حل آخر مشابه للاغتيال، وربما أقوى منه، وهو اغتيال الأمة كلها بالهزيمة».
وفي ذات السياق جاءت رواية «الحب في المنفى» (2001) لبهاء طاهر التي قدمت شخصية عبد الناصر كضحية للتآمر الخارجي، حيث حاربته الدول العدوة بوصفه ديكتاتورا، غير أن بهاء طاهر كي يثبت رؤيته المتعلقة بكونهم حاربوه لكونه خالف سياستهم ولتهديده مصالحهم، استعان على لسان الراوي بالإشارة لشخصية الليندي رئيس دولة شيلي الرئيس المنتخب: «حاربوا عبد الناصر بقولهم ديكتاتورا، فلماذا الليندي الذي جاءت به الانتخابات؟!، الذئب قال للحمل: إن لم تكن عكرت الماء لأنك ديكتاتور فقد عكرتها لأنك ديمقراطي، أنت مأكول على أي حال».
كما صورت بعض الروايات كثيرا من المنتفعين من عهد عبد الناصر في صورة شخصيات هاجمته بعد موته، وهو ما رصده نجيب محفوظ في روايته «الباقي من الزمن ساعة» (1982) حيث صور جيل الأحفاد وهم يقفون مندهشين أمام ما يسمعونه من هجاء سافر في رجل كان الجميع يسارع فيما سبق بالثناء على بطولاته.
المستبد
وفي مقابل صورة الضحية رأى البعض في عبد الناصر نموذجا للزعيم المستبد الذي سعى عمليا لتوحيد الوطن، غير أنه اختزل الوطن في ذاته، وقد نظر أصحاب هذا الرأي إلى الإعلام الناصري بوصفه الأداة التي عززت من تلك الرؤية التي انعكست بشكل ما في جنوح بعض الموالين للنظام الناصري إلى حد وصفهم لقيادة عبد الناصر وحكمه لمصر باعتباره بداية التاريخ الحقيقي للوطن، وهو ما عبر عنه توفيق الحكيم في «عودة الوعى» بقوله: «لقد نجح في أن يدمج مصر كلها فيه، وأن يقنع مصر البالغة من العمر أكثر من خمسة آلاف عام أن عمرها هو عمر الثورة ونظامها، وأن لا عمر قبل ذلك ولا بعد ذلك يستحق الذكر».
كما رأى بعض الروائيين في شخصية عبد الناصر جانبا استبداديا، حيث صور البعض المرحلة الناصرية بوصفها مرحلة قمعية مارس فيها النظام شتى ألوان الطغيان والتنكيل بالمعارضين، واتخذ التعبير عن تلك الفكرة طرقا روائية متعددة، منها ما جاء بشكل مباشر على ألسنة الشخصيات المتخيلة، ومنها ما جاء بشكل ضمني، حيث لا يظهر عبد الناصر على مسرح الأحداث صراحة، ولكن ما يتم رصده من تجاوزات سياسية وجرائم بحق أصحاب الرأي داخل السجون الناصرية تشير بشكل ضمني إلى الحاكم بوصفه من أمر بالتعذيب والتنكيل بالخصوم.
يختتم الدكتور شحاتة دراسته بالإشارة إلى أن ما يعيب تلك الأعمال الروائية في مجملها هو أن أغلبها قد غاب عنه تناول مرحلة طفولة عبد الناصر وأثرها في تنشئته، كما لم تتعمق الكثير من النصوص في الكشف عن المحتوى النفسي لشخصيته، وتعد واقعة تأميم قناة السويس وما تبعها من عدوان إلى جانب إعلان عبد الناصر التنحي عن السلطة بعد هزيمة 1967 هى أكثر الوقائع التاريخية التي تناولها الأدباء بأعمالهم المختلفة.