ضمن سلسلة من الندوات التي يخصصها صالون «أصوات أونلاين» لمناقشة مستقبل التيارات السياسية والفكرية الرئيسية في مصر «الليبرالي، واليساري، القومي الناصري، والإسلامي»، ومدى قدرة تلك التيارات على إجراء مراجعة جادة لأفكارها وإعادة صياغة رؤاها كي تناسب التحديات الجديدة التي يطرحها الواقع والمستقبل، جاءت الندوة الأولى التي عقدها الصالون وخصصت لمناقشة مستقبل التيار القومي الناصري تحت عنوان: «آفاق تجديد المشروع القومي الناصري».
ناقشت الندوة فى جزئها الأول الذي تم عرضه في حلقة سابقة، ملامح التحديات التي واجهها المشروع الناصري، وذلك استنادا إلى ما جاء بكتاب «أخيل جريحا.. إرث جمال عبد الناصر» للكاتب الناصري الكبير عبد الله السناوي والذي مثل مرتكزا للنقاش ومنطلقا لفهم كثير من الأبعاد والرؤى الخاصة بالناصرية كمشروع وطنى.. فى هذه الحلقة نستكمل استعراض مختلف الأطروحات والأفكار التي طرحت خلال الندوة، التي شارك فيها خبراء وباحثون ومفكرون وسياسيون من مختلف التيارات الفكرية والسياسية وأدارها الإعلامي حسين عبد الغني مؤسس ورئيس مجلس إدارة موقع أصوات أونلاين.
تناول المشاركون في أعمال الندوة العديد من جوانب المشروع القومي الناصري، ومدى استجابته للتعاطى مع المتغيرات الراهنة والتحولات الهائلة المحيطة، ومدى قدرته على أن يجدد ويتجدد ويتفاعل مع الراهن السياسي والاجتماعي.
https://www.facebook.com/Aswatonline/posts/1284048728470245?__xts__[0]=68.ARBtO2uT7xyOa08TlcLG-d_TsbWC6Hf1otmVvTsIGwkTny4BQE-CvOT0LuVmKwlKl3CtgTS77XDoh0nQ2wRqE9hd654rJx6mZpeahjauqdRd0gE78Xo7F-1sFIEe7ePmb53ky755WkZMMpXe6ldYsSubwxHOvyKPTOQoeNtQvmFIGc76zT48p5Tuhd6SXsxwP7PUWt3zxKrGfizA0V4eKermdYZ044wW4TufvI-lZ9bQD4pKN_1P3wX2Gp6ppQLh7gpS_iaQ0a-OHWVENPEnIBJgST41ljFijnbd4x1lexKTqfhDX-6Fv2ENZG8f0TtMpqXEs3hS9bWIpSt-oXhCelY4vA&__tn__=-R
التنمية المستقلة في ظل العولمة
بدأ الدكتور مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة حديثه خلال الندوة بطرح تساؤل أولى حول: «ما الذي تعنيه التنمية المستقلة في ظل العولمة؟».. وذلك إنطلاقا من كون المشروع الناصري قدم نموذجا مهما في عملية التنمية المستقلة، وقد أجاب الدكتور مصطفى على هذا التساؤل بالقول إن عملية التنمية المستقلة ترتبط بالأساس بعدد من الاختيارات منها اختيار نموذج التنمية المستهدف، واستراتيجيات التنمية، والأولويات المجتمعية المستهدفة، إلى جانب حرية اختيار القوى الرئيسية التي تدفع القطاعات المختلفة للتنمية، ومن ثم هل يعتمد هذا النموذج التنموي الذي تم اختياره على القطاع العام أم القطاع الخاص، وما هي درجة الاعتماد على كل منهما؟
إضافة لتحديد الأسلوب الملائم للتعاون مع الشركات والمؤسسات الدولية، وهنا يضرب دكتور مصطفى مثالا بالتجربتين الصينية والهندية حيث يتعاملان مع الشركات الدولية وفقا لعدد من الشروط الوطنية المحددة سلفا، كأن يكون السماح لشركة دولية ما بتأسيس مصنع بهما مشروطا بتعليم العاملين بالبلدين أسس العمل وتدريبهم على طريقة تشغيل وادارة هذا المصنع.
انتقل الدكتور مصطفى لتناول حالة مصر مشيرا إلى ضرورة ان تكون هناك رؤية مصرية شاملة لما يهدف إليه المشروع الوطني في مصر، وهو ما من شأنه أن يلتقي مع ما قد سبق أن طرحه الأستاذ عبد الله السناوي حول مفهوم «المشروع الوطني المتجدد» في كتابه «آخيل جريحا.. إرث جمال عبد الناصر» على ان تنطلق تلك الرؤية الشاملة في إطار مشروع نهضوي شامل لا يقتصر على التنمية الإقتصادية فقط، وإنما يضاف لذلك البعد التنموي الإنساني القائم على المساواة، والمعتمد على مؤسسات الدولة المدنية، مع الحفاظ على التواصل مع السوق العالمي بهدف الإستفادة من تجارب البلدان الأخرى، وعلى هذا الأساس يصبح الموقف من العولمة، موقفا اختياريا لا يعتمد على التسليم التام بالدخول في إطار عملية العولمة ولا يعتمد على الرفض التام لها.
محاولات التفكيك .. وتغيير شكل الصراع
استعرض الدكتور محمد السعيد إدريس الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والباحث السياسي البارز في مستهل حديثه تجربته مع المراجعات المتعددة التي أجراها التيار الناصري. وأشار في هذا الصدد إلى أنه قد كُلف في ثمانينيات القرن الماضي بإعداد ورقة بحثية تتعلق بطرح رؤية حول طبيعة العلاقة بين مشروع التيار الناصري والتيار الليبرالي وخاصة الوفد، وطبيعة العلاقة بالماركسيين والإسلاميين، ومن ثم أشار إلى أن المفهوم الإجتماعي والإشتراكي الذي انطلق منه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والتيار الناصري يعد في مجمله امتدادا طبيعيا للفكر السياسي المصري لدى الطليعة الوفدية، وأن هناك ضرورة ملحة تفرض على مختلف التيارات السياسية أن تعيد قراءة التاريخ ومن ثم تجري العديد من المراجعات التي تنطلق في جوهرها من أزمة الواقع الراهن، وذلك بهدف الوصول لصياغة مشروع نهضوي مصري.
هنا يستحضر دكتور إدريس تجربته مع «حركة كفاية» التي انطلقت في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، وكيف تمكن مؤسسوها من تجاوز إنتماءاتهم المختلفة، فلم يطرح أي منهم أي تساؤلات تتعلق بتوجهات بعضهم البعض «فكان الناصري بجوار الماركسي بجوار الإسلامي بجوار الليبرالي»
يتناول الدكتور إدريس البيئة الإقليمية والدولية التي عمل خلالها نظام عبد الناصر مشيرا إلى أنها كانت مختلفة تماما عما هي عليه في الوقت الراهن، ومن هذا المنطلق فإن من يريد تجديد المشروع الناصري عليه أن يعيد قراءة معالم تلك البيئة الإقليمية والدولية، ليحدد طبيعة تحالفاته المستقبلية.
أما الأمر الأكثر خطورة فيما يتعلق بالبيئة الإقليمية والدولية -من وجهة نظر الدكتور إدريس- فيتمثل في تعدد التحديات والمخاطر التي باتت تواجه العالم العربي، من محاولة تفكيك النظام العربي ذاته، وتحويله إلى دويلات عدة، وتغيير شكل الصراع في المنطقة العربية، من كونه صراعا عربيا إسرائيليا إلى أن يصبح صراعا عربيا إيرانيا، وصولا لأن يصبح الصراع «سنيا .. شيعيا» مضافا إليه تحالف إسرائيلي مع الدول العربية السنية ضد إيران، الأمر الذي سينجم عنه محو مفهوم العروبة بشكل تام.
ويضيف إدريس أنه وفي الوقت الذي يتداعى فيه النظام العربي، هناك قوة اقليمية جديدة تظهر، وهى أكثر تفاعلا من النظام العربي وتتمثل في المشروع الاستيطاني الاسرائيلي، حيث تجاوز مشروعهم حلم الدولة اليهودية الصغرى إلى حلم الدولة اليهودية الكبرى.
من جانب آخر يرى إدريس أن المشروع الإسلامي بات يتهاوى بكافة تكويناته، سواء كان طالبانيا، سعوديا، شيعيا إيرانيا، أو حتى إخوان مسلمين، ومن ثم لم يتبق لإنقاذ العرب سوى إحياء المشروع العربي مرة أخرى، بأسس ومفاهيم جديدة تتمحور حول دولة العدالة الإجتماعية والديمقراطية الحقيقية.
واختتم الدكتور إدريس حديثه بتقديم توصية تستند إلى مفهوم الجوار الحضاري القائم على التغلب على الصراعات السياسية الناجمة عن الخبرة المصرية المتعلقة بفترة حكم الإخوان المسلمين، مع وجود حالة من التحرر من العداء الإيراني أو التركي، وذلك عبر مشروع عروبي جديد قادر على المنافسة والتعاون في آن واحد، مع تكوين ما أطلق عليه «مثلث مصري تركي إيراني» على قدم المساواة قادر على مواجهة الكيان الإسرائيلي.
نقطة الخلل الرئيسية
الدكتور عمرو الشوبكي الخبير والباحث السياسي البارز أكد على ضرورة وضع تجربة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في سياقها التاريخي، ذلك أنها تعد تجربة تحرر وطني بالأساس، ومن ثم فهى تجربة وليدة عصرها، أما فيما يتعلق «بالمشروع الوطني المتجدد» الذي طرحه الأستاذ عبد الله السناوي فهو يعني في مجمله مجموعة من القيم العامة التي يجب بثها فى المجتمع المصري والمجتمعات العربية، ومن ثم فإنه لا يجب أن يختزل في مشروع أو تيار واحد.
وأضاف الشوبكي: أن نقطة الخلل الرئيسية التي تعاني منها التيارات السياسية والفكرية الثلاثة «الماركسية والليبرالية والناصرية» هي أنها تنطلق من الشق اليقيني المتعلق بأن الأمة العربية، أمة واحدة، وثقافة مشتركة، وتاريخ مشترك، ومن ثم فإن الأساس الذي تنطلق منه القيم الأساسية الخاصة بالوحدة، تكفي لبناء مشروع الوحدة العربية، وإن كانت التجربة المصرية السورية قد أثبتت عدم صحة ذلك.
واختتم الشوبكي حديثه بالإشارة إلى أهمية النظر للوحدة بوصفها مشروعا متدرجا وليست قرارا فوقيا، وأن هناك ضرورة للبحث عن برامج تعليم وثقافة وصحة مشتركة، وذلك في ظل نظام سياسي ديمقراطي يستند إلى إحترام الخصوصية الوطنية لكل دولة، مع إحترام كامل لدولة قانون.
غياب الديمقراطية.. والمؤامرات الأجنبية
أما الدكتور حسام عيسى الفقيه القانوني والمفكر السياسي ونائب رئيس الوزراء الأسبق ، فقد دعا لضرورة النظر إلى التجربة الناصرية في سياقها التاريخي، وفي ضوء ما تعرضت له من ضغوط، سواء كانت ضغوطا داخلية أو خارجية، مع الأخذ في الإعتبار أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يخوض معركة تحرر وطني. وبشكل عام فإن تجربته لم تكن سوداء بالمطلق أو بيضاء في المطلق، غير أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى ما قد وصف به شاعر العراق الكبير مهدي الجواهري الرئيس عبد الناصر «كنت عظيم المجد والأخطاء».
لفت دكتور حسام عيسى النظر إلى ما قد تلقاه مشروع محمد علي من ضربات قضت عليه وهو في طريقه نحو النهضة، وهو ذاته ما تعرضت له مصر في يونية 1967، ذلك أنها كانت تخطو على طريق النهضة والبناء، فالناصرية في جوهرها مشروع للبناء الوطني المستقل، ومن ثم فإن مجمل المعارك التي خاضها عبد الناصر ابتداءا من 53 حتى تأميم القناة كانت تتمحور حول كيفية التحرر من الهيمنة الأجنبية.
في هذا الإطار ضرب دكتور حسام مثالا بعام 1952 حين كانت البنوك العاملة في مصر باستثناء بنك مصر في مجملها بنوكا أجنبية، وكانت تمول محصول القطن، وفي حرب 1956 حين أمم عبد الناصر القناة امتنعت تلك البنوك عن تمويل محصول القطن لإسقاط المشروع، كما امتنعت أوروبا عن تصدير الدواء إلى مصر قبل محاربتها.
المشكلة الأساسية التي نجم عنها تحطيم التجربة الناصرية – في رأي حسام عيسي- تمثلت في غياب الديمقراطية، غير أنه عاد ليشير إلى أنه لابد من ملاحظة أنه لا توجد دولة واحدة بنت اقتصادها معتمدة على رأسمال أجنبي، وهو ما دعا عبد الناصر إلى أن يرى أن البداية تكمن في إمتلاك ناصية الأمور، حتى يمكنه التحكم في عقبات الداخل، وعلى هذا الأساس هناك ضرورة للنظر للتجربة الناصرية بتعاطف أكبر، وبنظرة أقل حدة وأقل تحيزا.
أزمة المراجعات
الأستاذة سارة عبد الغني طالبة الدكتوراه في مجال العلوم السياسية تناولت في مداختلها قضية المراجعات لدى مختلف التيارات السياسية مشيرة إلى عدم وجود أطر نظرية عربية حديثة يمكن لباحثي العلوم السياسية الإستناد إليها عند تحليلهم لواقع العالم العربي الراهن، إضافة لكون المراجعات المطروحة تفتقد إلى تناول قضايا مهمة مثل قضية الأقليات ك«الأكراد والأمازيغ» وفكرة المقاومة العالمية التي باتت مطروحة فى الوقت الحالي إلى جانب عدم الإهتمام بقضية دور مؤسسات المجتمع المدني وقضايا المرأة.
غياب مفهوم «فكرة الدولة»
في ذات السياق تناول الأستاذ حسين عبد الغني المشروع الناصري بوصفه مشروع أكثر منه نظرية وهو ما يجعله أكثر مرونة في التعامل مع مختلف المتغيرات المطروحة، غير أن ما يعيب المشروع الناصري – من وجهة نظره- قد تمثل في غياب طرحه لمفهوم «فكرة الدولة» وهو ما قد ساقه نحو الإعتماد على مفهوم الدولة المركزية البيروقراطية القديمة في مصر، مع ما مثله هذا النموذج من مشكلات عدة أصابت المجتمع المدني وأفراده بالضعف في مواجهة الدولة، ذلك أن الدولة كانت دائما أقوى من المجتمع.
هنا يلفت حسين عبد الغني النظر إلى الدولة الحديثة التي بناها محمد علي، وكيف أنه في الوقت الذي استخدم فيه أحدث الأساليب الفنية في بناء هذه الدولة، وبناء الوزارات أو النظارات، كان يستخدم نفس نظرية الحاكم الشرقي، فكان يستخدم السخرة والكرباج، بالتالي فإن فكرة التنظير لعلاقة الدولة المركزية ودورها خاصة مع حالة الاستقرار الذي تتسم به الدولة المصرية القديمة يحتاج إلى جهد نظري كبير، أكثر عمقا في التعامل مع مفهوم الدولة المركزية ودورها في المجتمع، إلى جانب دراسة علاقة الدولة بالداخل والخارج.
وفي ختام أعمال الندوة عقب الأستاذ عبد الله السناوي على ما طرح من أفكار ومناقشات، معتبرا أن التيار الناصري، يعد التيار السياسي الفكري الوحيد الذي راجع تجربته أكثر من مرة ومن ثم قدم انتقادات لها. وأرجع السناوي تلك الحالة إلى كون التيار الناصري أكثر ثقة بمواطن قوته وبالتالي فهو يعلم أنه مهما بلغت درجة النقد من حدة، فإن هذا لن يهز ركائزه الأساسية، وأن أي تيار آخر إذا ما تعرض للنقد بهذا الشكل ربما سيتعرض لشىء من الإنهيار.