كان لكتاب «تأملات في عالم نجيب محفوظ» للأستاذ «محمود أمين العالم» الصادر عام ١٩٧٠، فضل الريادة والتأثير – على المستوى الأدبي – في جيلنا، فقد وضعنا أمام الفن الروائي العربي، ومعرفة أبعاده وفق منهج ورؤية علمية وموضوعية.
غير أنه بعد نحو ثلاث سنوات من كتاب الأستاذ «العالم» صدر في بيروت كتاب رائد آخر وطليعي عن أديب العربية الأشهر وهو كتاب «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية» للباحث السوري «جورج طرابيشي»، وهو كتاب يمكن وصفه بأن ما جاء فيه من أفكار لم يسبقه اليه أحد، عَلى حد علمي.
شهادة من صاحب نوبل
الكتاب الذي لاتزيد صفحاته عن ١٣٠ صفحة من القطع المتوسط، والصادر عن دار الطليعة البيروتية في عام ١٩٧٣، كان مُكرَّساً للبحث في فكرة واحدة، وهي «موقع وجود الذات الإلهية» في عدد من أعمال «نجيب محفوظ»، والتي جاءت تحديداً في رواية «أولاد حارتنا» والمجموعة القصصية «حكاية بلا بداية ولا نهاية»، فضلاً عن روايات الطريق، والشحاذ، وثرثرة فوق النيل.
وقد بلغ «طرابيشي» درجة النجاح القصوى في تلك المعالجة الرائعة الى الحد الذي كتب له «نجيب محفوظ» ذلك الاعتراف الذي يقول فيه: «بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك، وقوة إستدلالك، ولَك أن تنشر عني، لأن تفسيرك للأعمال التي عرضتها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها»
نجيب محفوظ
ولذلك كان حرياً بجورج طرابيشي أن يفخر بتلك الشهادة ويضعها في خاتمة الطبعات الحديثة من كتابه، ومن هنا كانت مقدمة هذا الكتاب الرائد تنص عَلى الإشادة بذلك العمل الاستثنائي في تاريخ الأدب العربي، وأعني به رواية «أولاد حارتنا» فيقول «طرابيشي» في الصفحة الخامسة من كتابه:
«المحاولة التي أخذها نجيب محفوظ عَلى عاتقه في أولاد حارتنا، محاولة جبارة بلا أدنى ريب، وبغض النظر عن مدى ما حالفه من توفيق فيها، فسنقول أن ما أراده محفوظ في أولاد حارتنا هو أن يعيد كتابة تاريخ البشرية منذ أن وجُدّ في الكون الانسان الأول، وهذا لا يعني بالطبع أن محفوظ استحال الى مجرد مؤرخ، فهو يظل في أولاد حارتنا – كما في معظم أعماله الأخرى – روائياً مؤرخاً، والفارق بين المؤرخ، والروائي المؤرخ كبير، ولا يكمُن هذا الفارق فقط – كما قد يُخيل لبعضنا – في أن المؤرخ يعرض الأحداث من غير أن تكون له وجهة نظر، في حين أن الروائي لا يهمه في عرض الأحداث غير توكيد وجهة نظر مُعينة».
هذا الكتاب الرائد له ذات القيمة التي يحتلها كتاب الأستاذ «العالم» عن نجيب محفوظ، بيد أن الفارق الجوهري، أن «تأملات في عالم نجيب محفوظ» هي دراسة كلية وعامة جاءت على غالبية أعمال محفوظ منذ بداياته الإبداعية وحتى العام ١٩٧٠، في حين أن دراسة «طرابيشي» هي دراسة جزئية تدور حول معالجة فكرة واحدة، ولذلك فإن الفارق هو، وكما يقولون في الدراسات الاجتماعية، بين «الدراسة الماكرو» والدراسة «المايكرو».
وبعيدا عن المقارنة نضيف: أن زمن كتابة «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية» هو زمن الانتماء الفكري والسياسي لذلك الباحث السوري الطليعي، وهو زمن الاعتقاد القومي ذي المسحة المنهجية الماركسية. فمؤلفات طرابيشي السابقة جاءت عاكسة للمناخ الأيدلوجي العربي في عقد الستينيات من القرن الماضي، مثل «سارتر والماركسية، والنزاع السوفياتي الصيني، والماركسية والمسألة القومية، والاستراتيجية الطبقية للثورة، والماركسية والأيدولوجية، وكتاب وحيد في النقد الأدبي كان مُكرساً لدراسة أعمال الأستاذ «توفيق الحكيم» وعنوانه «لعبة الحلم والواقع: دراسة في أدب توفيق الحكيم».
تلك المرحلة مُتعددة الاتجاهات والانتماءات، يمكن وصفها بأنها المرحلة التأسيسية التي مر بها الباحث الجاد، قبل دخوله مرحلة الإبداع والتطور والإنجاز وتأسيس المشروع الفكري والمنهجي له، هذه المرحلة والتي أُختتمت بكتاب «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، كانت نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة في حياة «جورج طرابيشي» ابن حلب الشهباء والمولود في عام ١٩٣٩، والذي يمكن القول إنه هو واحد من أهم أعلام النهضة الفكرية والثقافية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.
فهو السندباد العربي الدمشقي، كثير الرحلات والابحار وتّبحرهُ في أنهار وبحار الثقافة العربية المعاصرة. ولد في حلب وعاش حيناً من الدهر في دمشق، قبل أن ينتقل إلى بيروت كاتباً مُنتجاً، ومُعرّبا مُترجماً، وناقداً أدبياً، ويغادرها عندما هبت عواصف الحرب والعدوان الاسرائيلي عام ١٩٨٢ الى باريس، والتي ظل فيها حتى انتقل إلى رحاب الله عام ٢٠١٦، مُخلفاً وراءه إرثا نوعياً كبيراً لم يتميز به سواه، فهو بحق، وبوصف أحد المفكرين العرب «خزان طاقة»، يجعل قلبه في خدمة عقله.
محطات
أدرك جورج طرابيشي منذ مطلع حياته العملية عندما عمل بالتدريس في مدارس مدينته حلب، أنه صاحب رسالة ثقافية أكبر من مهنته التعليمية ومن حدود مدينته، فقد حمل على عاتقه ثلاث مهام جٍسام، إنه المعرّب والمترجم، والناقد الأدبي، والمفكر الجسور، فهو هؤلاء جميعاً، وأكثر بقليل، حيث هذا القليل ينطوي عَلى شخصية «جورج طرابيشي» الصلبة، الصبورة صبر العقل، لاصبر وقعود المُنهزمين.
في ختام رحلته مع الحياة، كتب مقالاً آسراً ومؤثراً، عنوانه «ست محطات في حياتي» نشرته صحيفة «النهار» اللبنانية، يحدد فيه ظروف نشأته كمسيحي سوري في سنوات الأربعينيات، وناشط سياسي في حزب البعث عقب إسقاط حكم «أديب الشيشكلي» في عام ١٩٥٥، وزمن اعتقاله وخلافه مع رفاقه البعثيين، ثم تعرضه لواقعة فريدة عند قراءاته لمقال عن التحليل النفسي لعالم النفس الكبير «سيجموند فرويد» تدفعه الى الإبحار في مؤلفاته فينقل للعربية نحو عشرين مُجلداً، حتى أنه يقال «دون ترجمات طرابيشي ماعرف قراء العربية العالم المترامي لفرويد» واختار الكبار هدفاً لترجماته فنقل لنا «هربرت ماركوزة» في كتابه «الانسان ذو البعد الواحد» و«إميل برهييه» في موسوعة «تاريخ الفلسفة في سبعة أجزاء» ثم يفاجئنا بمؤلفه الموسوعي «مُعجم الفلاسفة» الصادر عن دار الطليعة البيروتية عام ١٩٨٧ ويأتي فيه عَلى مسيرة «الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين واللاهوتيين والمتصوفين» في كل العصور ومن كل الأجناس.
عالم النفس سيجموند فرويد
وكان طرابيشي قد عاد في سنوات سابقة لصدور مجلده الفلسفي الى سابق عهده ونزعته القومية، فأصدر كتابه الهام «الدولة القطرية والنظرية القومية» في عام ١٩٨٢، ناقداً الفكر القومي التقليدي، الذي اطمأن الى ثبات عوامل اللغة والثقافة والتاريخ المشترك، وافترض أن الدولة القطرية محض كيانات «كرتونية» مُرشحة للتداعي والانهيار، وهو واقع يناقض الحقيقة».
معركة فكرية
هذا الناقد الأدبي المُدهش، والمُعرب الكبير، والمُفكِر الفيلسوف، جمع عَلى نحو مُذهل بين هذه الأبعاد الثلاثة في حياته، وان كانت إبداعاته النقدية ذات الطابع الفكري والفلسفي قد وسمت الأعوام الثلاثين الأخيرة من عمره، ففي المحطة الخامسة من حياته تأتي لحظة فارقة في مسيرته الثقافية والبحثية، حيث يقع تحت يديه مؤلف «تكوين العقل العربي» للمفكر المغربي الكبير «محمد عابد الجابري» والصادر عام ١٩٧٢، فينقطع لدراسة مؤلفات صديقه المغربي والذي تحول الى غريمه وخصمه فيما بعد. فقد أصدر نحو ستة مجلدات تجاوزت نقد «الجابري» الى نقد التراث والثقافة العربية منذ سنوات التأسيس والسابقة لمجىء الإسلام، حيث يقول في مقدمة كتابه «نقد نقد العقل العربي: نظريةالعقل»: «إن عَليّ أن أقرأ لا كل ما كتبه الجابري، ولا كل ما قرأه، أوكل ما صرح أنه قرأه فحسب، بل كذلك مالم يصرح أنه قرأه وما كان يُفترض أنه قرأه: أي التراث اليوناني بجملته والتراث الأوروبي الفلسفي والعقلي في طوريه الكلاسيكي والحديث، فضلاً عن التراث العربي الإسلامي الفلسفي أساساً، ولكن كذلك التاريخي والفقهي والكلامي والنحوي عَلى الأقل في أصوله ومراجعه الأمهات».
هكذا تبدو محاولة «طرابيشي» في نقد المشروع الفكري ل «الجابري» مُتجاوزة رباعيته عن «العقل العربي» والتي صدرت جميعها عن مركز دراسات الوحدة العربية. فمؤلفات «طرابيشي» وصلت الى نحو خمسة مجلدات، وجميعها صادرة عن دار الساقي اللبنانية، وتؤسس لمشروع فكري قائم بذاته، بدت نواته نقدية لمفكر عربي كبير، لتؤسس فيما بعد، مشروعاً فكرياً وفلسفياً موازياً، بل أنه يمكن القول إن إسهامات مُفكريْنا الكبيريْن، طرابيشي والجابري، هي اعادة إحياء لمنافسات ومعارك العقل بين الرائديْن العظيميْن «طه حسين والعقاد» في عصر مختلف وزمن مُغاير.
هذا العقل الكبير جاءت مرحلته السادسة و الأخيرة من حياته في تغريبته الباريسية حزينة ومؤلمة، فقد كان شاهداً عَلى موجة «الربيع العربي» والتي اجتاحت من بين الأوطان التي اجتاحتها وطنه «سوريا»، حيث وقف في بداية الأحداث مؤيداً لها، بيد أنه رأى بعد شهور قلائل أن ما يحدث هو مؤامرة دولية ليس هدفها تدمير سوريا فقط، لكن محوها من الوجود، ثم تسليم زمامها لجماعات الاٍرهاب السياسي المُتأسلم، فغيّرْ الرجل موقفه عَلى الفور، ويقول في كلمات حزينة، وهي آخر ما كتب قبل أن يودع دنيانا في مارس ٢٠١٦ تلك الشهادة:
«يبقى أن أختم، فأقول إنّ شَللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت، ولكنه يبقى عَلى كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير، الذي هو موت الوطن».. هكذا أعطى جورج طرابيشي للوطن خلاصة فكره، ولم يغفل، قيمته فأخلص له، وآمن به، حتى وهو عَلى عتبات الرحيل.