أشعلت ثورات الربيع العربي جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية حول عالمية مفهومي المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان ومدى توافقهما أو تعارضهما مع القيم الثقافية والدينية في المنطقة العربية. ورغم أن ثورات الربيع العربي قد ترافقت مع صعود حركات الإسلام السياسي، لكنها أيضاً أطلقت العنان لتساؤلات حول قضايا كانت تعتبر خطوطاً حمراء حتى عهد قريب مثل استشراء الطائفية والعنصرية وحقوق النساء في العالم العربي.
يلعب الدين دوراً محورياً في سياسات الشرق الأوسط، كما يؤثر تأثيراً مباشراً في حياة الأفراد بشكل عام، وفي بعض البلدان يلعب الانتماء الديني أو الطائفي دوراً كبيراً في تحديد دور الأفراد في الحياة السياسية والعامة وحقوقهم وفرصهم في التعليم والعمل. تحرص معظم دول الشرق الأوسط على مواءمة دساتيرها ومنظوماتها القانونية ومناهجها التعليمية مع القيم الدينية المهيمنة في كل مجتمع، وهذا أدى في بعض الأحيان إلى تفاقم الشروخ والصراعات الطائفية، كما هو حاصل حالياً في سوريا والعراق وإيران واليمن ولبنان، ناهيك عن الصراع العربي الإسرائيلي الذي تلعب الهوية الدينية دوراً بارزاً فيه.
قد كان لنا شرف زيارة العراق في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي حيث التقينا بمسؤولين وقادة مجتمع ورجال دين من طوائف وأعراق مختلفة. ورغم نبرة الحذر والأسى والإحباط التي اعترت أحاديث معظم من التقيناهم، والتي تتماشى مع خلاصة رأينا في هذا المقال، فقد لاحظنا بعض الأمل في مستقبل أفضل للجميع، وخاصة في إقليم كردستان.
يمثل العراق وسوريا مثالين حيين عن العلاقة المعقدة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام. ورغم أن هناك كثيراً من المشتركات الروحية والاجتماعية والثقافية بين هذه الأديان، فإن العلاقة بينها قد شابها كثير من المنافسة والمرارة والصراع في فترات تاريخية مختلفة، وأدَّت هذه العلاقة الجدلية إلى نشوء خطاب مظلومية خاص بكل جماعة دينية أو طائفية أو عرقية أحياناً.
لقد أدَّى الصراع العربي الإسرائيلي إلى مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتهجير مئات الآلاف، ما زال يعيش كثير منهم لاجئين في الدول المجاورة. كما تسببت السياسات الطائفية والصراعات الدائرة منذ سنين في كل من العراق وسوريا في مقتل وتهجير ملايين من العرب والكرد، سنة وشيعة، إضافة إلى المسيحيين والإيزيديين ومجموعات دينية وعرقية أخرى. أما بالنسبة لليهود فلم يبق منهم سوى 30000 موزعين على دول مختلفة في المنطقة (خارج إسرائيل) يعيش 17000 منهم في تركيا و8000 في إيران.
خلال زيارتنا الأخيرة للعراق ذهبنا إلى موقع مذبحة سيميل، التي ذهب ضحيتها نحو 5 آلاف من المدنيين الآشوريين على يد الجيش العراقي في عام 1933، ما زالت ممكنة رؤية بقايا عظامهم تبرز من خلال تراب تلك التلة المهملة في مدينة دهوك. لقد كانت مذبحة سيميل هي التي ألهمت المحامي البولندي رافائيل ليمكين مصطلح «الجينوسايد» أو الإبادة. يتألف المصطلح من كلمتين؛ جينوس وتعني عرق باليونانية، وسايد وتعني قتل باللاتينية. لاحقاً، فقد رافائيل ليمكين عدداً من أفراد عائلته خلال جرائم الإبادة التي ارتكبها النازيون. للأسف الشديد فإن مذبحة سيميل لم تكن الأخيرة في العراق، ففي عهد صدام حسين تعرض ملايين العرب الشيعة والأكراد السنة والآشوريون لعمليات وحشية أدَّت إلى تهجير ومقتل الآلاف في مناطق الأهوار وحلبجة وبروار وغيرها. في المقابل، أدت الروح الطائفية الانتقامية التي أعقبت سقوط صدام حسين، مدفوعة بالسياسات والتدخلات الإيرانية، إلى تهميش وقهر العرب السنة، ما أسهم في ظهور تنظيمات «القاعدة» و«داعش» التي تسببت في تهجير ومقتل الملايين من العراقيين من مختلف الطوائف والأعراق وتدمير حواضرهم. أما في سوريا؛ حيث يحكم البلاد منذ عام 1970 نظام طائفي مدعوم من إيران، فقد تسببت جرائم النظام وحلفائه، إضافة إلى التنظيمات المتطرفة، في قتل ما يقرب من نصف مليون وتشريد نحو 10 ملايين سوري، غالبيتهم الساحقة من المسلمين السنة.
في مخيم بردراش، في شمال سهل نينوى، التقينا بالعشرات من اللاجئين السوريين الكرد الذين تم تهجيرهم بعد العملية العسكرية التركية الأخيرة في شمال شرقي سوريا، استمعنا إلى شهاداتهم عن القصف العشوائي واستعمال الفوسفور الأبيض والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها فصائل عسكرية إسلامية موالية لتركيا.
لقد أجمع كل من تحدثنا معهم من عراقيين وسوريين على الدور السلبي الذي تلعبه إيران، وبدرجة أقل تركيا، في تسعير المشاعر الطائفية واستغلال ذلك في إضعاف وتفكيك مجتمعات المنطقة العربية وخلق حالة استقطاب تخدم المصالح الجيوسياسية لكلتا الدولتين.
إن التأويلات المختلفة لدور الدين في الحياة العامة تلعب أدواراً بارزة في سياسات الشرق الأوسط، ما يؤثر في سير الصراعات الدائرة حالياً. هذا واضح تماماً في محاولات إيران وتركيا توظيف نفوذهما الديني والسياسي والاقتصادي والعسكري لإنشاء جماعات سياسية وعسكرية موالية لهما تعمل لتعزيز نفوذهما في المنطقة العربية. أدت هذه التدخلات إلى تصاعد حدة العنف الطائفي، خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، وأيضاً عقب اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011. رغم أن الغالبية الساحقة من العرب والإيرانيين والأتراك تدين بالإسلام، فإن شرائح واسعة من الإيرانيين والأتراك ما زالت لم تغفر للعرب إسقاطهم للإمبراطورية الفارسية في القرن السابع الميلادي، ومشاركتهم مع الحلفاء في إسقاط الإمبراطورية العثمانية في بدايات القرن العشرين.
من العراق إلى ليبيا، ومن سوريا إلى اليمن، مروراً بلبنان وفلسطين، تتنافس إيران وتركيا على تقاسم العالم العربي، كما تتنافسان في الوقت نفسه على زعامة العالم الإسلامي، بينما إسرائيل تراقب المشهد بدقة.
هذا المشهد العربي المعقد والخطير يطرح تحديات مصيرية جدية ينبغي على النخب السياسية والاجتماعية والدينية العربية أن تتصدى لها بشكل عاجل عبر إطلاق عمليات مراجعة شاملة ونقد ذاتي وإصلاحات جذرية في قطاعات التعليم والإعلام وتطوير القوانين ومكافحة الطائفية والفساد وتعزيز ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان وتمكين النساء أملاً بوقف هذا التدهور السريع الذي يهدد الاستقرار، ليس في المنطقة العربية وحسب، بل العالم بأسره.
في منطقة عانت كثيراً من الاستبداد والطائفية والعنف فإن خطط وبرامج الإصلاح الديمقراطي قد تأخذ وقتاً طويلاً، لكن هذا يبق الأمل الوحيد في مستقبل أفضل لهذه المنطقة المضطربة من العالم.
نقلا عن: الشرق الأوسط