فن

عبد الله غيث.. فلاح بدرجة فنان

عشق عبد الله غيث الفن طفلا صغيرا، وفي مرحلة مبكرة جدا من حياته أدخله شقيقه الأكبر حمدي غيث إلى هذا العالم الساحر. كان عشقه للفن بلا حدود بعد أن سمع شقيقه حمدي يحكي له عن المسرح، وما يشاهده على خشبته من فنانين يؤدون أدوارا وشخصيات مختلفة فافتتن الشقيق الأصغر بالمسرح وأهله قبل أن  يذهب في سنه الصغيرة كي يشاهد إحدى المسرحيات الشهيرة ويختزن في ذاكرته مشاهد لم ينسها طوال حياته.

https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/588428185049234/?t=1

الطريق إلى الفن

كان عبد الله غيث يصغر شقيقه حمدي بخمس سنوات، رحل والدهما عن الحياة وكان عمره سنة واحدة، بينما كان عمر حمدي ست سنوات، وقد اعتبر عبد الله أن حمدي هو أبوه الذي لم يعرفه إلا من خلال صوره الفوتوغرافية، وكان يردد دائما أن حمدي غيث هو شقيقه وأبوه وأستاذه.

عبد الله غيث، حمدي غيث

ولشدة انبهار عبد الله بحكايات حمدي عن المسرح استمر يلح على شقيقه كي يصطحبه معه إلى ذلك العالم الخيالي الذي حكى له عنه كثيرا. وقد تحققت أمنيته وذهب عبد الله غيث إلى المسرح القومي ليشاهد مسرحية «مصرع كليوباترا»، ليزداد افتتانا بهذه الخشبة وبمن يقفون عليها.

 وحين أصبح نجما قال غيث ذات يوم عن تلك الليلة الأولى التي ذهب فيها  ليشاهد مسرحية مصرع كليو باترا: لا زلت اذكر لمعة عينىْ حسين رياض وهو يؤدي دوره في المسرحية.. ما زلت أذكرها وكأنها حدثت بالأمس، ولما كبر عبد الله غيث قليلا، عرف طريقه إلى السينما وأصبح عاشقا كبيرا لها، لايمل من مشاهدة أفلامها. وقد ذكر يوما «افتتنت بالسينما وبعملاقها يوسف وهبي، وقررت أن أصافحه وأسلم عليه باية طريقة، وعرفت أن هناك عرضا خاصا لفيلم «ليلى بنت المدارس» من بطولة ليلى مراد وكان وهبي من أبطاله، وكان مقررا أن يحضر العرض، وبعد نهاية الفيلم قاتلت بمعنى الكلمة من أجل الوصول إلى يوسف وهبي وبعد محاولات مضنية ذهبت إليه وأمسكت بيده لأطول وقت وأنا لا أصدق أنني أمسك بيد يوسف وهبي».

 كان عبد الله غيث يبدي إعجابه الكبير دائما بيوسف وهبي ومحمود المليجي وفريد شوقي، ويراهم من أهم من أنجب الفن في مصر، و قد قال عن المليجي: «هو محبوب المليجي، إنه مدرسة وأنا واحد من تلاميذ هذه المدرسة، وعبقرية المليجي  تكمن في هذا القبول الذي يحظى به عند الجمهور». ولما سئل عبد الله عن أدوار الشر التي أداها المليجي والتي من الجائز أن تجعله مكروها قال غيث بالحرف «إن المليجي وفريد شوقى هما فقط من إذا أديا أدوار الشر كره الجمهور الشخصية لكنه يظل محبا للفنان نفسه، وهى معادلة صعبة جدا، فأحيانا يمكن أن يؤدي ممثل دورا شريرا فيكره الجمهور الدور أو الشخصية  ويكره الفنان الذي أداها أيضا، هنا لايصبح الممثل موهوبا ولا عبقريا كما كان المليجي وفريد شوقي».

عملاق المسرح الشعري

التحق عبد الله غيث بالمعهد العالي للفنون المسرحية عام 1950، وتخرج منه عام 1954 في دفعة ضمت كلا من سناء جميل وكرم مطاوعوبعد تخرجه عمل بالمسرح القومي، في مسرحيات عدة وشارك شقيقه حمدي العمل في مسرحيتي «وراء الأفق، ومرتفعات ويزرنج»، ووقتها كان حمدي يعمل مدرسا بالمعهد، وكان غيث «غول تمثيل» على خشبة المسرح، وأُطلق عليه عملاق المسرح الشعري. وقد تميز غيث بأدائه المسرحي المختلف، وبقدرته على تمثيل الأدوار التي تتطلب إلقاء شعريا، فكان بارعا حقا في أدائه للشعر، وامتلك ناصية اللغة وتفرد بشكل كبير في أداء المسرح الشعري، وقد تجلى إبداعه المسرحي على أروع ما يكون فى مسرحية الوزير العاشق، لذلك أُطلق عليه لقب «عملاق المسرح الشعري». ومن أهم المسرحيات التي أبدع فيها عبد الله غيث «الدخان،الفتى مهران، الزير سالم، الوزير العاشق، الحسين ثائرا.

شهادة «أنطوني كوين»

وربما كان تميز عبد الله غيث في اللغة العربية، وقدرته الهائلة على إجادة قواعدها دافعا مهما لكثير من المخرجين الذين تصدوا لإخراج الدراما الدينية على الشاشة الصغيرة كي يسندوا إليه أدوارا مهمة في مسلسلات دينية شهيرة، فشارك في مسلسلات «محمد رسول الله، ابن تيمية، الوعد الحق، شيخ الإسلام، على هامش السيرة، ساعة ولد الهدى، أبو ذر الغفاري».
ولم يكن عبد الله غيث بعيدا عن الأدوار الدينية والتاريخية في السينما  فمثّل شخصية خالد ابن الوليد في فيلم «الشيماء»، ثم كان دوره الخالد في فيلم الرسالة للمخرج السوري العالمي الراحل مصطفى العقاد، حيث أدى  فيه غيث دور حمزة بن عبد المطلب عم الرسول في النسخة العربية من الفيلم، وقد نال غيث شهادة عالمية كبرى حين أشاد الممثل العالمي الكبير أنطوني كوين بأدائه المذهل في الرسالة وقال بالحرف الواحد: «لو كان عبد الله غيث في أوربا لكان له شأن آخر».
وكانت علاقة عبد الله غيث بالسينما قد بدأت بعد سنوات من انخراطه في المسرح والعمل على خشبة المسرح القومي، فشارك بأدوار صغيرة ومتوسطة في أفلام «عاشت للحب» و«لا وقت للحب» و رابعة العدوية ثم كان دوره المتميز في فيلم ثمن الحرية الذي نال عنه جائزة، ثم جاء دوره الأشهر في الفيلم المعروف «أدهم الشرقاوي» حيث قام بدور البطل الشعبي المصري أدهم الشرقاوي الذى ينتصر للفقراء، ويقف معهم ضد مستغليهم من الأعيان والأثرياء، وقد كان غيث على المستوى الشخصي معجبا بشخصية أدهم الشرقاوي، ولذلك -وكما قال في أحد لقاءاته التليفزيونية- إنه سمى ابنه «أدهم» على اسم أدهم الشرقاوي قبل أن يؤدي دوره في الفيلم.

https://youtu.be/tJOpASOuWfU

 كان عبد الله غيث في الواقع ينتمي لأسرة ثرية جدا من قرية كفر شلشمون التابعة لمركز منيا القمح بالشرقية، وهي القرية التي وُلد بها في الثامن والعشرين من يناير عام 1930، حيث كان أبوه يمتلك مئات الافدنة الزراعية، وكان عمدة للقرية، وقد رشحه أهلها لتولي منصب العمودية خلفا لوالده، لكن عمله بالتمثيل لم يكن يتيح له التفرغ لهذا المنصب فرشح ابن عمه بدلا منه. غير أنه ظل محبا للأرض والزراعة والفلاحة، ولو لم يكن ممثلا لعمل الرجل فلاحا، وقد كان عبد الله يستهجن تلك الصورة النمطية الساذجة التي دأب المخرجون على تقديم شخصية الفلاح بها، فهم يقدمونه ساذجا وجاهلا، والحقيقة عكس ذلك تماما. وكان غيث يحب أن يؤدي أدوار الفلاح، ولذلك أبدع هذا الفنان في تقديم هذه الشخصية في أكثر من عمل، لعل أهمها  دوره الرائع في فيلم «الحرام» أمام فاتن حمامة، وهو الدور الذي ترك بصمة وعلامة في ذاكرة السينما المصرية رغم قصره.

عباس الضو

ولأن الفنان الحقيقي هو معدن نادر وجوهرة ثمينة، فإن عبد الله غيث لم يكن بارعا في المسرح والسينما فقط، لكنه كان صاحب بصمة حقيقية في تاريخ الدراما التليفزيونية، وله عدد معتبر من المسلسلات التليفزيونية الشهيرة والباقية منها «هارب من الأيام» و«الحب في عصر الجفاف» و«عابر سبيل» و «بوابة الحلواني» ثم دور علوان البكري في «ذئاب الجبل» ودور «عباس الضو» في «المال والبنون» آخر أدواره على الإطلاق، وهو دور غريب حقا. فقد كان صلاح قابيل هو من يؤدي شخصية الضو، وبعد أن أدى بعض المشاهد القليلة مات، فوقع اختيار المخرج مجدي أبو عميرة على عبد الله غيث ليؤدي الدور، وساعتها قال غيث مازحا بعد أن قبل العمل على مضض «لاحسن الدور ده يموتني أنا كمان».

https://youtu.be/re_XeAChD68

 والمدهش أنه نبؤته تحققت، فبعد أن قطع غيث شوطا في تمثيل عدد كبير من المشاهد، وقبل أن يكمل بقية دوره، أصابته وعكة صحية، ليكتشف الاطباء أنه مصاب بسرطان الرئة، وقد كان الرجل يدخن بشراهة، وكان الورم قد انتشر بسرعة في جسده، ولم يكن هناك ثمة مبرر لسفره للخارج كما أراد أولاده أدهم وحسيني وعبلة، ففاضت روحه إلى بارئها في السابع عشر من مارس عام 1993 عن عمر ناهز الثالثة والستين عاما.. فسلام علي روح هذا الفنان الذي أمتعنا بفنه الجميل.

الفيديو جرافيكس

نص وتحريك ومونتاح: Abdalah Mohamed

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker