نيللي لحود – زميل أول في «برنامج الأمن الدولي» التابع لمركز بحوث «نيو أمريكا»
عرض وترجمة: أحمد بركات
تشير الوثائق والأوراق التي عثر عليها الأمريكيون في المنزل الذي قتل فيه أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق، بمنطقة أبوت آباد في باكستان، إلى أنه (بن لادن) كان يواجه مشكلة من نوع جديد في مواجهة الأزمة الليبية. فالقادة الجهاديون كانوا في السابق يتحدثون دائما عن الدعم الغربي للحكام السلطويين في العالم الإسلامي، أما في ليبيا، فقد تدخل الغرب هذه المرة من أجل دعم الشعب ضد الديكتاتور. وعندما تحولت التظاهرات السلمية التي اندلعت في فبراير 2011 إلى العنف، وشنت القوات الحكومية الليبية غارات جوية ضد المحتجين، أصدرت الأمم المتحدة القرار 1973 الذي يخول اتخاذ «جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين»، مما أدى إلى اندلاع عملية عسكرية تحت قيادة «الناتو».
في هذا السياق أقر بن لادن بأن «الوضع معقد للغاية»، مدركا أن «الشعب سعيد بهذا التدخل». فالجهاديون «لا يملكون خيارا إلا الصمت»، كما أخبر ابنته سمية.
بن لادن وبناته والربيع العربي
كانت سمية قلقة من أن عدم مشاركة القاعدة في الربيع العربي سيكون لافتا للأنظار، ومن ثم فقد حثت أباها مؤكدة أن «بعض النقاط يجب مناقشتها». وتساءلت: «ما هي الآثار الإيجابية والسلبية التي يمكن أن تتركها هذه الثورات على الجهاديين؟»، ثم أردفت محذرة: «من الممكن أن يؤمن البعض من أبناء هذا الجيل بأن التغيير السياسي يمكن أن يحدث بدون جهاد». لكن أباها اعترف بعدم كفاة التنظيم على المستويين العملياتي والسياسي، مؤكدا: «إننا الآن مُكبلون؛ فقدراتنا محدودة، فضلا عن المشكلات التي نعانيها على مستوى الأعضاء وحالات الاستشهاد المتعددة في صفوف الأخوة». كان واضحا أن بن لادن يؤيد رأي ابنته إلى أقصى درجة، فقد أكدت الوثيقة التي تم العثور عليها، أن سمية كانت «تشارك في كتابة البيانات». كذلك كانت زوجته سهام شديدة الفخر بابنتها، وفي إحدى قصائدها وصفتها بأنها «شيدت صرحا في الإسلام» سيستمر إلى يوم الدين.
تولت مريم، أخت سمية الكبرى، تربية أبناء خديجة الأربعة بعد وفاة أمهم. وكان عبدالله الحلبي، زوج خديجة، بصدد الزواج من مريم بعد وفاة زوجته، لكنه قُتل قبل اتمام الزواج. ويبدو أيضا أن مريم كانت مسئولة عن كتابة هذه الوثيقة المطولة بخط يدها، وتضمينها كل النقاشات التي كانت تدور في نطاق أسرتها، كما يبدو أنها شاركت ببعض أفكارها في صياغة البيان الخاص بمستقبل تنظيم القاعدة الذي كان بن لادن يعد لإلقائه في الذكرى العاشرة لهجمات 11 سبتمبر.
في هذا البيان كان بن لادن يخطط لإعلان «مرحلة جديدة لتصحيح الأخطاء التي ارتكبناها… واستعادة ثقة شريحة كبيرة ممن فقدوا ثقتهم في الجهاديين». وكان يسعى إلى ضم ’الأخوة‘ في اليمن والصومال والعراق وشمال أفريقيا إلى تنظيم القاعدة، رغم أنه كان يتعين على جميع الأطراف أن يتفقوا أولا بشأن تولي فرق النخبة فقط في التنظيم مهام تنفيذ الهجمات واسعة النطاق ضد الولايات المتحدة ومصالحها. لكن بن لادن كان يبذل جهودا كبيرة لإقناع «الإخوة» في تلك الدول بوقف هجماتهم، وأن يستهدفوا، بدلا من ذلك، بناء قاعدة شعبية والحصول على تأييد عام.
وفي هذا السياق كتبت مريم: «تراودني فكرة فيما يتعلق بالرؤية الجديدة… يجب أن ترتكز الرسالة التي سيتم توجيهها إلى الأخوة على قاعدة التغيير التي قعّدها الله في كتابه: ’إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‘». كانت مريم تأمل في أن تدفع هذه الآية ’بالإخوة‘ إلى الامتثال «لبرنامج حياة من صنع التنظيم فيما يتعلق بالأفكار والسياسات وبالقضايا الاجتماعية والاقتصادية».
أسهمت مريم أيضا في صياغة البيان الذي ألقاه ابن لادن في مناسبة الربيع العربي. وتبين إحدى مسودات هذا البيان أن ابن لادن زعم أن الربيع العربي يرتبط ارتباطا وثيقا بشيء ما كان قد قاله في عام 2004 عن «وجوب محاسبة الحكام». لكن مريم خشيت أن تثير هذه العبارة سخرية الثوار، الذين نجحت ثوراتهم في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية في تونس ومصر واليمن، من ابن لادن، واتهامه بمحاولة سلب منجزهم ونسبه لنفسه. ومن ثم قامت مريم باستبدال هذه العبارة بعبارة أخرى تبعث فيها بالتهاني «للأمة» على منجزها الذي حققته.
وقد سُجلت النسخة الجديدة من البيان صوتيا في الساعات الأولى من يوم 27 أبريل 2011. وبعد أن استمعت إليها العائلة، قرروا ضرورة تسجيلها ثانية وإضافة مزيد من «حس التضامن مع الأمة» اليها ومزيد من الوضوح حول «سياسات القاعدة تجاه الثورات». كما أضاف أحد أفراد الأسرة ضرورة عدم تسجيل البيان في ساعة متأخرة من الليل، «لأن الإعياء واضح في الصوت». لكن القوات الأمريكية داهمت المجمع السكني الذي كان يقيم فيه بن لادن قبل أن يحظى بفرصة تعديله مرة أخرى.
أما آخر مناقشة تضمنتها الوثيقة، فقد تمت قبيل ساعات من الغارة الأمريكية على المجمع في تمام الساعة الواحدة صباح يوم 1 مايو 2011. في أثناء هذه الجلسة العائلية، أعلن بن لادن: «سأخبر أنا وخالد، حمزة بالأمر نفسه، وهو أنه من غير المناسب أن يظهر علنا دون أن يتم تنفيذ ذلك بعناية فائقة وحرص بالغ». فإذا كان لأبناء أسامة بن لادن أن يضطلعوا بدور علني، فإن بياناتهم يجب أن تكون «دقيقة وذات أهمية»، كما يجب أن تكون «علامة إرشادية على المستقبل الذي يسعون إلى تأسيسه… لن نبث بيانات عامة لحمزة أو لخالد… ما لم نكن في وضع يسمح لنا بالمحافظة على ذلك بشكل منتظم وتقديمه بجودة عالية».
النساء والقيادة في القاعدة
كان استبعاد زوجات ابن لادن وبناته من القيادة في تنظيم القاعدة، يستند إلى أسس جندرية بحتة، أما إخوانهم الذكور فقد كانوا غير مناسبين لهذه القيادة لأسباب أخرى. كان خالد، ابن سهام، على سبيل المثال، لا يمتلك – فيما يبدو – نفس درجة الذكاء التي تتمتع بها أخته. وتؤكد خطابات خيرية أنه «قام بمساعدة أبيه في بعض الأعمال»، وأنه «بالإضافة إلى اهتمامه بتربية الدجاج، يمتلك بقرة لديها عجل عمره شهر واحد». وتضيف أنه «في انتظار تحسن وضعه الأمني حتى يتسنى له المغادرة والزواج»، وأنه يريد «زوجة طيبة ومتدينة ومطيعة في حدود العشرين من عمرها».
أما خطابات خالد فتبين التزامه العميق بالفكر الجهادي، لكن مهمته الأساسية – كما كتب في إحدى رسائله – كانت «العمل مع والدي في التسجيلات المرئية والصوتية». واعترف بأنه كان ينتج «فيديوهات رديئة الجودة»، وأنه يرحب بأي نصيحة. وقد أكد فريق البحرية الأمريكية الذي قتل بن لادن أن محلل جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) الذي كان يعمل على ملفه على مدى سنوات قد أخبرهم أنهم سيجدون خالد على الأرجح «مسلحا ومتأهبا»، وأنه يمثل «خط الدفاع الأخير لأبيه». وقد كان خالد بالفعل في المجمع وقت المداهمة، ولم يكن من الصعب على فرق البحرية الأمريكية تحديد مكانه، فقد همس أحدهم باسمه، وأجابه خالد: «نعم؟». وقد تم قتله قبل أبيه.
أما حمزة فكان في الثالثة عشرة من عمره عندما رأى أباه للمرة الأخيرة. ولا تدعم أوراق أبوت آباد ما أوردته بعض التقارير عن وجود علاقة خاصة بينهما، وأنه كان يعد من قبل أبيه ليصبح خليفة له، وأن نوعا ما من التواصل بينهما قد حدث عندما كان حمزة محتجزا في إيران. وعندما أطلق سراح خيرية من هناك، طلب منها ابن لادن أن تمده بتقرير مختصر وواف عن قدرات ابنهما حمزة. لكن رسائلها إلى زوجها لم تكن ضمن الوثائق التي تم استعادتها؛ ومن ثم فإنه لا يتوافر لدينا معلومات حول ما أدلت به في هذا السياق. في هذه الأثناء كان حمزة قد أتم زواجه بالفعل، فقد تزوج في سن السابعة عشر عندما كان قيد الإقامة الجبرية في إيران. وتعبر خطاباته إلى أبيه، التي حملتها خيرية إلى أبوت آباد في عام 2011، عن رغبته في «خدمة هذا الدين»، و«تلقي تدريبات في أحد المعسكرات العسكرية»، و«محاربة أعداء الله»، لكنها لا تظهر الكثير من سمات القيادة في شخصيته؛ إذ يمكن وصفها ببساطة بأنها ’مسهبة في العواطف ومقتضبة في الرؤية والاستراتيجية‘.
وعندما لاحظت خيرية القدرات الكتابية الفائقة لدى أخوات حمزة من أبيه، تبين لها بجلاء أن على ابنها أن يبذل مزيدا من الجهد حتى يتمكن من مواكبتهن في هذه المهارة. وفي إحدى رسائلها، كتبت إليه: «الأمر الذي تحتاج إلى أن تبذل فيه جهدك ووقتك هو قراءة جميع بيانات أبيك بعمق، والإصغاء إليها باهتمام؛ حتى إذا يسر الله جمع شملنا ثانية، تكون معنا على صفحة المجموعة». ربما كان حمزة في طريقه، أو حتى على مقربة من، أبوت آباد عندما أغارت فرق البحرية الأمريكية على المجمع.
وفي عام 2015، قررت قيادة تنظيم القاعدة استخدام حمزة في الإدلاء بالبيانات العامة، باعتبار أن ذلك من شأنه أن يمنحهم فرصة كبرى لاستعادة عرش الجهادية العالمية الذي نحاهم عنه تنظيم الدولة الإسلامية. وقد قدم أيمن الظواهري، خليفة ابن لادن في قيادة القاعدة، أول بيان لحمزة بن لادن باحتفائية طنانة أعلن فيها: «أقدم لكم الأسد ابن الأسد، والجهادي ابن الجهادي». ثم جاءت ’سلسلة فيديوهات حمزة بن لادن‘ التي تألفت من خمسة أجزاء عن العائلة المالكة السعودية أقرب – من حيث الأسلوب – إلى أسلوب أيمن الظواهري منها إلى أبيه. فقد كانت أشبه بمحاضرات جامعية طنانة ومتكلفة في رسميتها، وكانت بصمات زوجة أبيه سهام، وأختيه من أبيه، مريم وسمية، واضحة فيها. وفي سبتمبر الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، مقتل حمزة في عملية أمريكية، لكن القاعدة لم تؤكد موته. وقد سمحت المملكة العربية السعودية للناجين من هجمات أبوت آباد الأمريكية بالعودة إلى أراضيها، وتفيد تقارير بأن سهام وخيرية ومريم وسمية يعشن حاليا في جدة. ويحتمل أن تكون تحركاتهن خاضعة لرقابة مشددة من قبل الحكومة السعودية، وكتاباتهن – كما ذكرت خيرية يوما في إحدى رسائلها – «غير مذاعة الآن على الأرجح تليفزيونيا».
(انتهى)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا