كان اختيار مسئولي وزارة الثقافة المصرية لجمال حمدان ليكون شخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحادية والخمسين، اختيارا موفقا للغاية، فحمدان هو المفكر الذي كان سبّاقا فى تحديد هوية مصر التى أصبحت مهددة بفعل قوى الإسلام السياسى فى الداخل وتصاعد هويات أخرى معادية تمثل مشروعات توسعية متصارعة داخل الجسد العربى الجريح وأعني المشروعات: الفارسية والتركية والصهيونية ناهيك عن القوى الدولية فى ظل غياب كبير للمشروع العربى الذى كانت مصر رأس حربته وقاعدته الكبرى التى تجمع شرقه وغربه.
وجمال حمدان – مع آخرين – هو مفكر هذا التوجه العروبي الذى لايتنكر بسببه – وكما يفتعل البعض – لمصريته أو بعدها الأفريقى وأهمية موقعها المتوسطى. ويعد كتابه العمدة «شخصية مصر» إجابة موسعة على العديد من الأسئلة والقضايا التى لاتزال مثارة إلى الآن، وهو كتاب شامل ربما لكونه كتابا جغرافياً طبقا لتعريف حمدان للجغرافى بأنه ذلك الذى «يتخصص فى عدم التخصص»، فهو يربط الأرض بالناس، والحاضر بالماضي، والمادي باللامادي ويكاد يتعامل مع كل ماتحت الشمس وفوق الأرض.
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/183745812692768/?t=2
كيف نقرأ «شخصية مصر»
أعتقد أن معرفة هدف حمدان من كتابه «شخصية مصر» يمكن أن تبين لنا أفضل طريقة للتعامل معه، فمن بين مايذكره أنه قد وضع هذا الكتاب فى وقت يضطرب فيه الفكر فى مصر ويضطرم، بحثا عن شخصيتها ومن هنا شعر بمسئوليته بوصفه جغرافيا ملتزما يجب أن يضع علمه فى خدمة مجتمعه، لذا رأيت أن أوجز قدر الإمكان الأفكار المهمة التى أوردها حول العديد من القضايا المصيرية والسؤال المحورى الذى يدور حوله الكتاب هو: ما ملامح شخصية مصر؟ وفى تحديده لهذه الملامح يناقش المقولة الشائعة بأن مصر هي «أرض المتناقضات» وقد استند المرددون لهذه الفكرة على ما يظهر فى مصر من تباين شديد فى الفروق الاجتماعية بين الطبقات وجمعها بين الوادى والصحراء وخلود الآثار وبساطة المسكن القروى. يرفض حمدان هذه المقولة ويرى أنه لكى نحدد ملامح هذه الشخصية فعلينا أن نتحسسها ونتقصاها أنى كانت ولكى يتم ذلك يبدأ فى تحليل عدة أبعاد لهذه الشخصية ومنها:
–التجانس والوحدة: أول ملامح شخصية مصر هو التجانس والوحدة فيرى حمدان أن التجانس الطبيعي صفة جوهرية فى البيئة المصرية، وحين ينتقل إلى التجانس البشري يؤكد حقيقتين الأولى هى أن المصريين القدماء شعب أصيل فى مصر ولم يفد إليها من مكان آخر، والثانية أن احتمالات الاختلاط قد قلت منذ بداية عصر الأسرات التاريخية ولا يتوقف إلا عند ثلاث هجرات كبيرة هى هجرات الهكسوس والإسرائيليين والعرب، وقد طُرد الهكسوس والإسرائيليون تماما بعد حين، أما بالنسبة للعرب، فيرى حمدان أنهم من أصل قاعدي واحد مشترك مع العنصر المصرى. ثم ينتقل إلى إحدى القضايا المهمة وهى وضع الأقباط فيما بعد التعريب فيرى أن الموجة العربية لم تُزح الأساس القبطي إلى جيب الجنوب المغلق فى الصعيد بل يرى أن الانتشار العربى كان أشبه بعملية الانتشار الغشائى، عملية تَغلغُل لازحزحة. والحقيقة أن حمدان لايبالغ فى أهمية هذا التجانس العرقي لأن المبالغة فى هذا تفضي بنا إلى العنصرية التى تأباها طبيعة الشخصية المصرية ويكفي أن نشير إلى أن دماء كثيرة أضيفت إلى عروق مصر وتم تمصيرها وأصبحت جزءا من النسيج المصري العام من خلال مايسميه حمدان بالتجانس اللغوي والديني فليس ثمة أقليات لغوية إلا جيب النوبة وبربرية إلا واحة سيوة ومع ذلك فهم مزدوجو اللسان جميعا وعلى المستوى الديني فإن الأقلية القبطية تعد من صميم الجسم المصري الكبير شديدة التماسك فيه والالتحام به. كل هذا التجانس بمستوياته المختلفة كان يستلزم الوحدة السياسية التى تحققت على مدار التاريخ المصري كله باستثناءات قليلة على الرغم من حجم مصر الجغرافى وكثافة سكانها.
–الطغيان الإقطاعى: يرى حمدان أن الطغيان والبطش من جانب والاستكانة والزلفى من جانب آخر هو السمة الرئيسية لتاريخ مصر عبر العصور ويرى أنه لابد أن نجابه هذه الظاهرة بالتحليل العلمى لنرى هل هى ظاهرة ظرفية مهما طالت أم هى جزء لايتجزأ من مركبنا الحضارى وفى تحليله لهذه الظاهرة يرى أن النهر لم يبذرفى التربة جرثومة الطغيان وأن ماتكرر فى بعض فترات تاريخنا من طغيان لم يكن إلا انحرافة اجتماعية من صنع الإقطاع لا النيل ولتفصيل ذلك يحلل ما يسمى بـ «أيكولوجية النيل الاجتماعية» فمن المعروف أن مصر بيئة نهرية فيضية والنتيجة المترتبة على ذلك أنه بغير ضبط النهر يتحول النيل إلى شلال محطم، وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلى عملية دموية، ولتلافى هذا يتنازل الجميع طواعية ليخضعوا لسلطة أعلى توزع الماء بين الجميع ومن هذه السلطة المطلقة يكون الانحراف إلى بذرة الطغيان سهلا ويبقى الآن أن نتساءل: هل هذه الظاهرة تشكل الطابع القومي حقا؟ إن الطوابع القومية فكرة متطورة ولهذا لايمكن القول إن الطغيان وظيفة طبيعية للنهر بل إن النظام النهري وايكولوجية النيل تؤهل بطبعها لعنصر كامن أصيل ومناقض للاستبداد وهو «الاشتراكية» وذلك لأن الماء مؤمم بالضرورة كما أن مواجهة أخطار النهر لاتتم إلا بعمل جماعي منسق لكن طغيان الحكم المطلق هو الذى انحرف بهذه الاشتراكية إلى إقطاع الأرض ثم إلى رأسمالية الدولة كما فعل محمد علي. ويبقى بعد ذلك أن تاريخ مصر لم يكن على ذلك الخضوع الدائم فقد سجل انتفاضات عدة على الطغيان منذثورة «ايبور» فى الدولة القديمة حتى العصر الحديث.
–المركزية: ثم تأتى المركزية الصارخة طبيعيا وإداريا لتكون أبرز ملامح الشخصية المصرية، بدءا من التركيبية التى تتمثل فى واد ضئيل داخل شرنقة الصحراء الشاسعة، مرورا بالمركزية السكانية – إن صح التعبير- الممثلة فى نمط توزيع السكان والذى يجعل من القاهرة هدفا لزحف سكانى متصاعد من الشمال والجنوب والمركزية الوظيفية الممثلة فى الجهاز الوظيفي البيروقراطي وما يتحلق حوله من جهاز مالي وبوليسي، ومن اليسير أن نلاحظ هذه المركزية على المستوى الاجتماعي، والذى يتمثل فى قاعدة واسعة وقمة ضيقة، وبين الطرفين تختفى الطبقة الوسطى أو تكاد ومن الطريف أو المؤسف أن هذا الشكل المعوج نفسه يمتد حتى التعليم فقد ثبت أن مصر تكاد تتصدر العالم فى نسبة المتعلمين تعليما عاليا بالنسبة إلى عدد المتعلمين بينما هى من أعلى البلاد فى نسبة الأمية. ومن البداهة أن حمدان لايرجع هذه المركزية إلى الجبر الجغرافي بل يرجعها أساسا إلى الخلل الاجتماعي القائم ورسوخ النظام الطبقى وما يترتب عليه من هذا التفاوت الشاسع.
–العزلة والاحتكاك: في مناقشته لقضية العزلة والاحتكاك يرى حمدان أن كثيرا ممن كتبوا عن مصر يضغطون على العزلة بوصفها ملمحا أساسيا فى شخصيتها وتاريخها، ومن الواضح أن هذا مناقض لحقيقة أخرى مؤكدة وهى أن مصر بالنسبة للعالم بمثابة القلب من الجسم، وهو تعارض على السطح وذلك لأن هذه العزلة المفترضة كانت عزلة «حماية» وليست عزلة «رهبنة» وأنها كانت تجمع بين قدر من العزلة فى غير «تقوقع» وقدر من «الاحتكاك» لايصل إلى درجة التميع وأن عزلتها لم تتحول قط إلى نظرية عنصرية فالوعى الجاد بالذات فى مصر كان إقليميا أكثر منه عنصريا وقد ترتب على هذا الوضع الوسطي نهضة حضارية متميزة وفى العصر الحديث فإن أهم مايميز احتكاكنا الحضارى مع الغرب هو عنصر الاتزان عن طريق الاستعارة الانتخابية والتعايش بين القديم والجديد. ولا شك فى أن هذا التعايش بين القديم والجديد والذى يراه حمدان ملمحا من ملامح شخصية مصر إنما يرجع أساسا – فى نظرنا – إلى التفاوت الاجتماعي الشاسع الذى أشار إليه سابقا وما يترتب عليه من تفاوت درجات الوعى ولهذا لم يكن غريبا أن يصف «ويلسون» هذه الحالة بأنها أقرب إلى «اللوحة السريالية»
–تعدد جوانب الشخصية: ينتقل حمدان إلى ملمح آخر من ملامح شخصية مصر وهو تعدد جوانب هذه الشخصية فيحدد لها أبعادا أربعة فى توجه مصر: الآسيوي والأفريقي على مستوى القارات والنيلي والمتوسطي على المستوى الإقليمى غير أن هذه الأبعاد تتداخل مع بعضها البعض كما يفعل النيلي والإفريقي هذا فضلا عن أن الكل يتداخل مع الإطار العربي الكبير بيد أن الإطار العربي ليس مجرد بعد توجيهي ولكنه خامة الجسم وكيان الجوهر كله فى ذاته أما البعد الأفريقى فمن الواضح أن أرض مصر جزء من جسم أفريقيا وهو يتفق فى معظمه مع المجال العربي ولهذا فليس هناك تناقض بين الوحدة العربية والوحدة الأفريقية فليس المقصود بالوحدة الأفريقية إلا وحدة «عمل» أما الوحدة العربية فوحدة كيان ومصير وهو اختلاف فى النوع لا الدرجة ومن ثم لاتعارض بينهما. أما البعد النيلي فهو أصيل جوهري ازداد عمقا على مر العصور وهو أساس الوجود المصري كله، وبالنسبة للبعد المتوسطي فهو من أبعاد التوجه المصري بلا شك فهو نافذة مصر على الشمال وهو حضاري أكثر منه طبيعيا واقتصادى أكثر منه بشريا وهو تكميلي لايرقى إلى مستوى البعد الأسيوي أو العربي الذى هو أسبق وأثبت ومن هذا يتضح خطأ بعض مثقفينا الذين ودوا يوما أن يجعلونا جزءا من حضارة عالم يتصورونه هو البحر المتوسط بناء على نظرية «وحدة البحر المتوسط» التي حققها الاستعمار الإغريقى ثم الروماني إذ من الواضح أن تلك كانت وحدة قهرية مفروضة من طرف واحد وسلبية من الطرف الآخر كما أن إحياء هذه النظرية فى العصر الحديث على يد بعض الكتاب الاستعماريين إنما كان لأغراض سياسية تسعى إلى ربط مصر وغيرها من دول البحر العربية بعجلة أوروبا السياسية .والحقيقة أننا نرى مبالغة كبيرة من حمدان فى وصف أصحاب هذه الدعوة بأنهم كتاب استعماريون – هل يمكن وصف سلامة موسى وطه حسين وشبلى شميل وغيرهم بهذا الوصف؟- أو أن لهم أغراضا سياسية تؤكد التبعية لسبب بسيط هو أنهم لم يقصدوا من هذه الدعوة أكثر مما يقصده حمدان نفسه من أنها أحد الأبعاد الحضارية المهمة التى تؤكد ثراء الشخصية المصرية دون أن تخل باستقلالها وخصوصيتها
–الاستمرارية: تأتى بعد ذلك تلك الصفة الجامعة المشتركة بين كل جوانب الشخصية الأخرى وهى صفة الاستمرارية التى لا تعنى التكرار بقدر ما تعنى التراكمية، لكن هناك من يبالغ فى هذه الصفة لا ليبرز أصالة ما ولكن ليقلل من جانب الانقطاع بغرض تأكيد البعد الفرعونى فى تاريخنا فيبعدنا بذلك عن العروبة ثم يرتبون على ذلك أن مصر «ليست عربية ولكنها مستعربة» وهو استنتاج زائف لأن العروبة مضمون ثقافى لا جنسى كما أن الاختلاط والانصهار الدموى بين العرب الوافدين والسكان الأصليين حقيقة مؤكدة على أن الذى يكشف خواء المناقشة من أساسها أنه حتى فى عقر دار العرب سنظل نجد «العرب العاربة» و«العرب المستعربة» ولا ندرى إلى أى مدى يمكن المضى فى تجريد جزء آخر من العرب العاربة بدورها من أصالتها ومهما يكن الأمر فلا يمكن تجاهل أكثر من ثلاثة عشر قرنا تجمع الجميع فى إطار واحد كما أن شعوب المنطقة – قبل العرب والإسلام – هم أساسا أقارب انفصلوا جغرافيا فإسماعيل أبو العرب العدنانيين هو ابن إبراهيم العراقي من هاجر المصرية مما يجعل العرب أصلا أنصاف عراقيين أنصاف مصريين وثمة بعد هذا حقيقة لغوية تؤكد علاقة القرابة فقد أثبت البعض اشتراك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين المصرية القديمة والعربية ثم يأتى أخيرا عامل الهجرة فمن الثابت أن عرب الجزيرة لم يكفوا عن الخروج منها والتدفق على مصر ومعنى ذلك أن تعريب مصر سبق فى بدايته الفتح العربى والعصر الإسلامي.