رؤى

المسجد الإبراهيمي.. أثر له تاريخ ومزار ديني متنازع عليه

ليس فقط مسجدًا أثريًّا تقام فيه الصلاة فيُسمَع صدى الشهادتين في أرجاء الخليل وبلدتها القديمة؛ ولكنه ذلك الحرم الآمن الذي أدى التنازع عليه في العصر الحديث إلى تقسيمه بين مسلمي فلسطين المحتلة ويهود الاحتلال الإسرائيلي. فمنذ أن بدأ الاحتلال الصهيوني، والعمل على تقسيم المسجد الإبراهيمي لا يتوقف، ففي عام 1972م تم الاستيلاء على الحضرة الإبراهيمية، واعتبارها كنيسًا يهوديًّا كما تم ضم “اليعقوبية” إليها لتكون مكانًا لصلاة اليهود. هذا بالإضافة إلى السماح لليهود باستخدام جميع أجزاء المسجد في أعياد اليهود الرسمية. وعقب مذبحة عام 1994م تم تحويل جزء من المسجد الإبراهيمي إلى كنيس يهودي بشكل رسمي لأول مرة في تاريخه، فأصبح 60% من مساحته لليهود.

 

جنود الاحتلال الإسرائيلي يدنسون صحن المسجد الإبراهيمي
جنود الاحتلال الإسرائيلي يدنسون صحن المسجد الإبراهيمي

ولقد تم تدنيس المسجد الإبراهيمي في الخليل، والذي يعد ثاني أهم الآثار الإسلامية في فلسطين بعد المسجد الأقصى في القدس، في منتصف شهر رمضان المبارك عام 1414هـ في فجر يوم الجمعة الموافق 25 فبراير عام 1994م، إذ ارتكب المستوطن اليهودي “باروخ جولدشتاين” على مرأى ومسمع من القوات الإسرائيلية، التي كانت تقوم بحراسة المسجد مذبحته الشنيعة التي راح ضحيتها 29 فلسطينيًّا، وأصيب فيها أكثر من 150 آخرين بجروح. وعلى أثر تقرير لجنة لتقصي الحقائق شكلتها إسرائيل تمت إدانة تلك المجزرة، ووصفها بالعمل الإجرامي بينما تمت تبرئة الحكومة والجيش الإسرائيليين، ما أسفر عن إقامة الشرطة الإسرائيلية لنقطة تفتيش وبوابات حديدية للتفتيش عند دخول المسجد.

نقطة التفتيش والبوابات الحديدية التي أقامتها الشرطة الإسرائيلية عقب مجزرة عام 1994م
نقطة التفتيش والبوابات الحديدية التي أقامتها الشرطة الإسرائيلية عقب مجزرة عام 1994م

بُني المسجد الابراهيمي على آثار كنيسة رومانية تمت إقامتها على مغارة تحوي قبر النبي إبراهيم-عليه السلام- وزوجته وأبنائه، وهدمها الفرس عام 614م.. اهتم المسلمون بهذا المسجد منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام في عهد الخليفة “عمر بن الخطاب” إذ سيطر المسلمون بقيادة “عمرو بن العاص” على منطقة الخليل عام 634م بعد معركة أجنادين ضد البيزنطيين، وفي تلك الفترة لم تكن الخليل ذات أهميّة؛ حيث أزال الفرس منها مظاهر الحضارة، وكان المسجد الإبراهيمي مُجرّد سور مُهمَل. ومع الفتح الإسلامي، وبعد اعتناق الأهالي الإسلام، اعتبروا الحيز مكانًا محميًّا مُقدَّسًا، فجعلوه مسجدًا يزورونه ويُصلّون فيه، ويقيمون المساكن حوله، ولكن لا يُعلَم بالتحديد شكل البناء الإسلامي الأول.

وفي العهد الأموي تم تشييد السقف الحالي للمسجد والقباب التي تعلو مراقد الأنبياء التي يقدسها المسلمون والمسيحيون واليهود. وتم بناء المشاهد فوق الأضرحة، إذ كان الخلفاء الأمويون يتقربون إلى الله بما يهبون إلى هذه المقامات من النذور والصدقات.

المسجد الإبراهيمي من الداخل
المسجد الإبراهيمي من الداخل

وفي العصر العباسي فتح الخليفة “المهدي” [158-169هـ/775-786م] ثالث خلفاء الدولة العباسية بابًا في السور الشمالي الشرقي إذ لم يكن لمشهد الخليل باب، وكان دخوله مستحيلًا، بل كان الناس يزورونه من الإيوان في الخارج، كما بُنيت له المراقي الجميلة من ناحيتي الشمال والجنوب. وفي عهد الخليفة العباسي “المقتدر بالله” [295-317هـ/908-932م] بُنيت القبة التي على الضريح المنسوب للنبي يوسف.

وفي عهد الخلافة الفاطمية [909-1171م] تطورت عمارة المسجد في ظل سيطرة الفاطميين على الشام ومدن فلسطين ومنها الخليل عام 972م فبنيت القباب على قبري إبراهيم وزوجته سارة في عام 985م.

مقام النبي إبراهيم الخليل في المسجد الإبراهيمي
مقام النبي إبراهيم الخليل في المسجد الإبراهيمي

وعندما وقعت مدينة الخليل في أيدي الصليبيين في عام 1099م اُستهداف المسجد الإبراهيمي واستوليَّ على كل النفائس الموجودة بداخله. كما حوَّل الصليبيون المسجد إلى كنيسة أطلقوا عليها اسم “كنيسة القدّيس أبراهام” واتخذوا منها مركزًا دينيًّا لكل المناطق المجاورة. وفي عام 1119م اُكتشفت المغارة التي تضم قبور الأنبياء، أسفل المسجد وبها رفات كل من النبي إبراهيم وولده إسحق وولد ولده يعقوب، و حُملت الرفات بعد فتح المغارة وطِيْفَ بها في شوارع الخليل، ثم أُعيدت إلى المغارة التي أغلق مدخلها لاحقا.

كان غير القادرين على الحج إلى مكة من المسلمين من أهالي فلسطين والبلاد المجاورة، قبل الغزو الصليبي، يزورون المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي ويوزعون الأضاحي على الفقراء ويقيمون الصلوات والاحتفالات ويزورون قبر النبي إبراهيم، ولقد ذكر الفقيه والمؤرخ “ابن الجوزي” [510-597هـ/ 1116-1201م] آداب تلك الزيارة.

وبالنسبة لليهود.. فإن المغارة أسفل المسجد الإبراهيمي، تعتبر أقدم موقع يهودي يقصده الحجيج اليهود منذ القدم، وثاني أقدس الأماكن عندهم بعد جبل الهيكل؛ وذلك لاعتقادهم بأن النبي إبراهيم، وهو الأب الأكبر للسلالة العبرانية، والأب الروحي للشعب اليهودي، وزوجته سارة وأبناءه دُفِنوا في هذه المغارة وفقًا لما ورد في سفر التكوين. وبالتالي فإن مدينة الخليل –وفقًا لما يقوله “دافيد بن غوريون” [1886-1973هـ] أول رئيس وزراء لإسرائيل– تعتبر مدينة مقدسة باعتبارها مدينة الآباء والأجداد وأن تاريخ بني إسرائيل قد بدأ فيها مما يجعلها في نظر بعض الحاخامات أكثر قدسية حتى من مدينة القدس.

قبر النبي يعقوب (إسرائيل) والد الأسباط الاثنى عشر
قبر النبي يعقوب (إسرائيل) والد الأسباط الاثنى عشر

وفي عصر الدولة الأيوبية استطاع “صلاح الدين الأيوبي” في عام 1187م أن يعيد مدن فلسطين إلى المسلمين بعد معركة حطين، ومع استعادة المسجد الإبراهيمي تم تحويل الكنيسة إلى مسجد من جديد، كما قام بوضع منبر من عسقلان عام 1191م داخل المسجد يعد تحفة فنية نادرة.

منبر المسجد الإبراهيمي

وفي عصر المماليك جدد “الظاهر بيبرس” القبة الرئيسية في المسجد عام 1268م، ومنع اليهود والمسيحيين من الدخول إلى ضريح النبي إبراهيم؛ حيث كانوا من قبل يدخلون إليه لقاء أجر على ذلك. وفي عام 1287م أمر السلطان “المنصور قلاوون” بتجديد المسجد وتغطية أجزاء واسعة منه بالرخام، وفي عهد ابنه “الناصر محمد بن قلاوون” بنى الأمير علم الدين سنجر الجاولي مسجد الجاولية عام 1320م وأصبح بينه وبين المسجد الإبراهيمي دهليز.

وفي عهد الدولة العثمانية دخلت الخليل تحت سيطرة العثمانيين بعد معركة مرج دابق عام 1516م، وبعد أن أصبح للمسجد أربع مآذن منذ العهد المملوكي؛ زُين بالكتابات والآيات، كما وُضِعَ الحجر الرخامي لبئر الغار، وجُدد شباك قبر سارة، ووضعت ستائر حريرية على الأضرحة.

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى دخلت القوات البريطانية مدينة الخليل بعد انسحاب الجيش العثماني منها في عام 1917م وأسسوا فيها إدارة عسكرية استمرت لعام 1920م لتصبح بعدها تحت الانتداب البريطاني [1920-1948م]. وبعد انسحاب بريطانيا من فلسطين عام 1948م خضعت الخليل رسميًّا لحكم الأردن [1950-1967م] بعد قرار وحدة الضفتين الذي جعل الضفة الغربية جزءًا من المملكة الأردنية. وفي تلك الأثناء تمت عدة إصلاحات في المسجد الإبراهيمي منها إعمار وترميم حائط مقام يوسف، وإصلاح قبة مقام يعقوب.

المسجد الإبراهيمي عام 1913م قبيل عهد الانتداب البريطاني على فلسطين
المسجد الإبراهيمي عام 1913م قبيل عهد الانتداب البريطاني على فلسطين

وخلال حرب الأيام الستة عام 1967م، استولى الصهاينة على كامل الضفة الغربية المحتلة، وبعد ذلك قُسمَ المبنى إلى كنيس ومسجد. وبدأت الاعتداءات على المسجد الإبراهيمي من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين منذ اليوم الأول لاحتلال الخليل، وذلك بهدف تحويله إلى معبد يهودي، فمنع رفع الآذان، وشُوشَ على المصلين، ومنعت إقامة الصلاة، ومُزقت المصاحف، وتم تفتيش المصلين وأطلق الرصاص عليهم، ووضعت مواد كيميائية حارقة في مياه الوضوء. كما رُفع علم الاحتلال على المسجد وأُقيمت الشعائر الدينية والصلوات اليهودية بداخله.

وفي 21 فبراير عام 2010م أعلنت إسرائيل ضم المسجد الإبراهيمي إلى قائمة التراث اليهودي، لكن اليونسكو في أكتوبر من نفس العام صوَّت بأغلبية الأعضاء على أن المسجد الإبراهيمي جزء أصيل من التراث الفلسطيني الإنساني؛ مطالبة إسرائيل بشطبه من قائمة التراث اليهودي، ولكن إسرائيل رفضت الانصياع لقرارات اليونسكو واعتبرتها منحازة للفلسطينيين.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock