كأنما تأبى القدس إلا أن تكون جٌرحنا الدامي، وعذابنا المقيم، تمّثل أمام أعيننا صفحة متجددة من هزائم وانتكاسات تاريحنا الطويل، ورغم ذلك تبقى هي عنوان هويتنا، وعروس عروبتنا التي أضحت سليبة ضائعة وسط همم كلة، وعزائم خائرة.
لكن التاريخ القريب والبعيد، يعلمنا أن الغزاة والمحتلين مهما قويت شوكتهم، فإن بقاءهم لا يدوم، ويبدو أن عدونا أكثر منا إيمانا بتلك الحقيقة، والتي انعكست على سياسات الكيان الصهيوني الغاصب، الذي عمد على مدار القرن الماضي إلى المراوغة والتلاعب، لا في محافل السياسة والعلاقات الدولية فحسب، وإنما بإختلاق وإغراق العالم في فوضى من الأكاذيب والأساطير والخرافات الدينية حول تاريخ هذه البقعة المباركة، كمأوى لليهود قديما ونبوءة لأرض الميعاد مستقبلا.
لم يكن ذلك مصادفة وإنما هدفوا من ورائه إلى زعزعة عقيدة أجيالنا العربية حول حقيقة العلاقة التاريخية بين اليهود والمدينة المقدسة، بالإضافة إلى إرباك هيئات العالم ومنظماته السياسية والقانونية والإنسانية بفوضى إدعاءات حقوق تاريخية مكذوبة أو متوهمة. بحيث أصبحت مكاتب ووزارات الخارجية في العالم تتكدس بما يناظر صفحات التلمود من ملفات حول قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
ولأن الإنتصار يبدأ من فضح الزيف وكشف الأغاليط، وإثبات حقوقنا التاريخية والدينية في المدينة المقدسة التي هي (مدينة الله) لا (مدينة داوود)، فقد بات من الواجب أن نستعرض حقيقة العلاقة التاريخية التي ربطت ما بين العرب أرضا وشعبا وبين مدينتهم المقدسة.
https://youtu.be/-9wkjMGZ9n8?t=28
القدس في التاريخ
بقيت القدس على مدار تاريخ الإنسانية واحدة من أقدم مدن العالم وجودا، وأكثرها أهمية، مرت عليها العديد من الحضارات، وشهدت العديد من المعارك والصراعات، فما من قوة بازغة في تاريح الإنسانية إلا سعت لبسط سلطانها على المدينة التاريخية وأضافت إليها من صبغتها معبدا، أو ديرا، أو كنيسة أو مسجدا ،فاستوعبتها كما استوعبت سابقيها، واتخذت دون غيرها العديد من الأسماء من (يبوس) إلى (أورسالم) إلى (مدينة السلام) إلى (مدينة داوود) إلى (أورشليم) إلى (القدس وبيت المقدس).. فأين يبدأ تاريخها.. وإلى أين ينتهي؟ وما حقيقة كونها مدينة اليهود والصهاينة؟
يظهر البحث الدقيق في كتابات الباحثين والمؤرخين العرب أنهم سايروا في التاريخ المعتمد لديهم لمدينة القدس، إلى حد كبير- استنتاجات وكشوف الباحثين الغربيين واليهود، على الرغم من أن هذه المحاولات الاستكشافية إنما كانت تتم بتوجيه وبوصاية رجال اللاهوت اليهود. وقد تعاملوا مع التوراة باعتبارها كتابا للتاريخ، وتوجهت أغلب جهودهم إلى اختلاق إسرائيل القديمة، وطمس المعالم العربية والفلسطينية للمدينة.
لكن حقائق التاريخ تؤكد أنه قبل خمسة آلاف عام شيد اليبوسيون العرب مدينتهم في واحدة من أجمل بقاع الدنيا فوق هضبة القدس التي تقع فوق سلسلة من التلال التي تنحدر من الغرب في اتجاه الشرق، وترتفع فوق سطح البحر ما بين سبعمائة وعشرين مترا، وثمانمائة وثلاثين مترا، في موقع يفصلها عن البحر المتوسط غربا خمسين كيلو مترا،وهو البحر الذي كان مركزا لقيام وصراع الحضارات القديمة والوسطى والحديثة (المصرية والآشورية، والفينيقية واليونانية، والعربية الإسلامية)، وقد حملت مياه البحر المتوسط إليها الكثير من الأقوام والأمم زوارا وحجاجا وتجارا وغزاة ومستوطنين، ورحالة ومغامرين… وعلى بعد مائتين وخمسين كيلو مترا من البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية، ومن هذا الطريق جاءها الفرس غزاة ومحاربين، وجاءها العرب المسلمون فاتحين، وعندها تلتقي طرق السفر والتجارة البرية.
في الألف الثالثة قبل الميلاد- أي قبل خمسة ألاف سنة، وفي عهد ما قبل نزول الأديان السماوية- أقام اليبوسيون القادمون برفقة الكنعانيين من شبه الجزيرة العربية فوق تلك الهضبة ليؤسسوا مدينة (يبوس) العامرة، باتت المدينة آهلة بالسكان الذين عاشوا يزرعون العنب والزيتون، ويستخدمون النحاس والبرونز في صناعة أدواتهم، ثم في مرحلة تالية أطلق عليها اليبوسيون إلى جانب اسمها (يبوس)- (أورسالم) أي (مدينة سالم) وهو أحد ألهة الكنعانيين قبل آلاف السنين، وقد وصفتها التوراة بمدينة اليبوسيين، وقد بنيت المدينة على أربعة تلال يحيط بها سوران منيعان، كما حفر اليبوسيون نفقا يصل بينها وبين أم الدرج، بنى العرب في تلك المدينة حضارة عرفت بالحضارة الكنعانية، ومن ملوك اليبوسيين العظماء كان (ملكي صادق) وهو أول من اختطها وبناها، وقد اشتهر بالتقوى وحب السلام حتى اشتهرت بمدينة السلام، ثم جاء من بعده (سالم اليبوسي) وقد زاد في بنائها وشيد برجا على جبل صهيون للدفاع عنها، وقد ظلت مدينة يبوس التي سادت فيها اللغة الكنعانية تحت سيادة الكنعانيين.
زيارة إبراهيم
وفي عام 1850 ق.م زار نبي الله ابراهيم القدس، وصلى في رحابها، في المكان الذي أصبح منذ ذلك الحين المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله، وعاش من نسله في المدينة نفسها ابنه يعقوب وأبناؤه، ومنهم يوسف الذي اصطحبته قافلة العناية الإلهية إلى مصر، ثم حدثت هجرة يعقوب وأبنائه (بني إسرائيل) إلى مصر ليعيشوا فيها نحو أربعة قرون ونصف. وفي تلك الأثناء وُلد نبي الله موسى الذي وقع بينه وبين فرعون مصر الصدام على إثر جهره بدعوته للتوحيد، ففر موسى وأتباعه من اليهود من مصر إلى شبه جزيرة سيناء التي عاشوا فيها مئات السنين وانقلبوا فيها على التوحيد، وعبدوا العجل وعاشوا حياة البداوة الشاقة بعدما كانوا يعيشون في وادي النيل حياة الحضر، وهي الفترة المعروفة ب (التيه)، وكانت أجيالهم آنذاك من البدو الرحل.
ثم هاجر بنو اسرائيل من سيناء إلى صحراء النقب وأسسوا في جنوبها مجتمعا من الرعاة الرحل عرفوا بالعبرانيين، وقد استغل هؤلاء حالة من الضعف العسكري لمدينة اليبوسيين، وحاولوا مرارا وتكرار احتلالها، وتشير ألواح تل العمارنة إلى أن حاكم المدينة (عبد حيبا) أرسل يطلب العون من فرعون مصر تحتمس الثالث (1550 ق.م)، لما عرف عن هؤلاء العبرانيين من قسوة فكلما احتلوا مدينة اعملوا فيها السيف والنار، لكن الفراعنة المصريين بسطوا حمايتهم على المدينة، وخضعت خضوعا تاما منذ عهد (تحتمس الثالث (1479ق.م)، وامنحوتب الثالث 1413 ق.م، وإخناتون 1375ق.م، وتوت عنخ أمون، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني، ولم يستطيع العبرانيون السيطرة على المدينة إلا على يد نبي الله داوود في القرن الثالث عشر، وبحسب روايات تاريخية أخرى في القرن الحادي عشر قبل ميلاد المسيح، أي ما يعني بعد مرور أربعة ألاف عام على تأسيس العرب الكنعانيين لمدينتهم.
بنو إسرائيل في مصر؛ بريشة ادوارد بوينتر (1867)
أما كيف ومتى تشكلت العلاقة التاريخية لليهود ديانة وشعبا في فلسطين؟
حسب المصادر التاريخية فإنه في عام (1049قبل الميلاد، مٌسح (رٌسم) داوود ملكا على بني اسرائيل، وكان حينئذ يقيم في حبرون (وهي مدينة خليل الرحمن إبراهيم)، وتقع على الطريق القديم المؤدّي إلى بئر سبع وتبعد عن مدينة القدس (40) كيلومترًا جنوبًا)، فزحف إلى يبوس بجيش قوامه 30 ألف مقاتل، وواجه (البلستيين)، وهي الفترة التي سيظهر بها مصطلح فلسطين بحسب هيرودوت.
ويذهب البعض إلى أن هؤلاء البلستينيين كانوا أول زحف أوروبي إلى تلك الأرض وبالتحديد من جزيرة كريت، وقد اضطروا إلى البقاء في تلك البقعة بعدما صدهم رمسيس الثالث عن الأراضي المصرية –بحسب بعض الروايات التاريخية-، بينما يتجه آخرون إلى أن هؤلاء البلستينيين هم الكنعانيون العرب.
داوود وجالوت
وأيا ما يكون الأمر فقد نجح داوود في احتلال يبوس وقد نسج اليهود العديد من الأساطير حول قوة داوود الذي قضى على بطل فلسطيني عملاق هو «جالوت»، كما نجحت الدعاية الصهيونية في الترويج لتلك الواقعة الأسطورية كتدليل على قدرة وإمكانية دولة إسرائيل- رغم صغر حجمها- على هزيمة العرب رغم ضخامة الأمة العربية باستخدام العقل، كما نجح داوود وهو القائد الطبيعي في هزيمة جالوت الأسطوري الذي بلغ طوله تسعة أقدام.
كانت «يبوس» قبل احتلالها ذات حضارة، وبها مساكن شملت الكثير من وسائل الراحة، وعندما دخل اليها العبرانيون تركوا الخيام، وسكنوا بيوت كتلك التي بناها الكنعانيون، وخلعوا ما كانوا يلبسونه من جلود ولبسوا ثيابا من الصوف، واتخذت المدينة اسم «مدينة داوود»، وحرف اليهود اسمها القديم من (أورسالم إلى أورشاليم)، ولما مات داوود تولى ابنه الملك الحكيم سليمان الذي أراد أن يبني معبدا يضع فيه تابوت العهد، وهو التابوت الذي يحوي ألواح الوصايا العشر التي أنزلها الله على نبيه موسى، وكان قبل ذلك يوضع في خيمة ينقلونها معهم كلما استقر بهم المقام في أرض، مقلدا في ذلك العديد من المعابد التي تضمها أسوار المدينة، ولأنهم كانوا أهل بداوة فقد طلب مساعدة ملك مدينة «صور» في لبنان الذي أرسل له آلاف العمال والمهندسين، وأطلقوا على اسم هذا المعبد (الهيكل) أو (هيكل بني اسرائيل)، وكان هذا أول عهد للمدينة ببني اسرائيل، وأصبح هذا الهيكل المزعوم يرادف في مخيلة اليهود المريضة القدس ذاتها، ونسجت حول موضعه آلاف الأساطير.
بعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى دولتين، إحداهما في الشمال (إسرائيل) عاصمتها نابلس ضمت خمس عشرة قبيلة يهودية، والأخرى في الجنوب وعاصمتها القدس سكنتها قبيلتان فقط من اليهود وأهلها من العرب الكنعانيين، وقد أطلق على المدينة من قبل الشماليين العديد من الشتائم والاتهامات التي نقلتها التوراة في حق المدينة المقدسة كـ «قاتلة الأنبياء»، وتعرضت مملكة الجنوب ولاسيما أورشليم للخراب والدمار على يد ملك مملكة الشمال وملكها الذي استولى على ما بالهيكل من أواني الذهب والفضة، ونهب قصر سليمان..
وقد ظلت المدينة المقدسة تتعرض للهجمات من قبل الفراعنة المصريين، ومملكة اليهود في الشمال، ثم ظهر خطر الأشوريين في بلاد العراق وفارس إلى أن نجح الملك «بوختنصر» ملك بابل عام (588ق.م) في هدم أسوارها وتخريبها، وهدم ما عرف بهيكل سليمان، وأسر جميع من في المدينة من اليهود حيث اقتيدوا إلى بابل فيما عرف «بالأسر البابلي»، وهو ما يدل على قلة أعداد من كانوا بالمدينة من اليهود، وبقي اليهود في الأسر البابلي لنحو سبعين سنة إلى أن نجح الامبراطور الفارسي «كورش» في القضاء على البابليين وكافأ اليهود على لعبهم دور الطابور الخامس أثناء الصراع، فسمح لهم بالعودة وإعادة بناء هيكلهم المزعوم.
وفي عام 332 ق.م احتل الاسكندر فلسطين وظلت أورشاليم تحت حكم اليونانيين سواء البطالمة أو السلوقيين، وقد قام اليهود خلال تلك الفترة بالعديد من الخيانات للفريقين عوقبوا عليها بالقتل والسبي. حتى زحف القيصر الرومانى بومبي على فلسطين واحتلها سنة 66ق.م، وقيل أنه قتل من اليهود الذين كانوا يحرقون المدينة كي لا ينتفع بها محتلوها قرابة 12 ألف، وقد ظلت المدينة تحت الحكم الفعلي للرومان على الرغم من تنازع بعض الأمراء اليهود المكابيين على تحصيل أموال الضرائب والزكاة، ثم حكمها هيرودوس الآدومي تحت سلطة الرومان، وكان اليهود لا يكفون طوال تلك الفترة عن إثارة الفتن والاضطرابات، ومناوشة حامية الرومان داخل المدينة، وكان على رأس هذه الفتن ما قام به كهنوت اليهود أثناء دعوة اليهود والتي انتهت بواقعة صلب المسيح عليه السلام، فقد حرض اليهود الرومان على الانتقام من المسيح عليه السلام، وألبسوه تاجا من الشوك بدلا من التاج الذي قالوا أنه يريد أن يرتديه حتى يصير ملكا لهم.
صورة متخيلة للملك «بوختنصر» ملك بابل عام (588ق.م)
القدس تحت حكم الرومان
ظل اليهود يختلقون المشاكل للرومان حتى ضاق بهم الامبراطور الروماني، فتم تخريب المدينة سنة 70 ميلادية وأجلي جميع اليهود عنها وتشريدهم في البلاد، وهو السبي الثاني الذي سيظل اليهود في خضمه حتى عام 1948 حين يعلن حاييم وايزمان قيام اسرائيل، وعلى الرغم من جهود الامبراطور الروماني في منع وجود اليهود بالمدينة، إلا أن من بقي منهم لم يكف عن المؤامرة والتمرد حتى استطاع أحد الصهاينة القدامى في عام 136 ميلاديا قيادة حركة مسلحة حققت بعض النجاح في البداية، لكن ما لبث أن استوعيها الامبراطور الروماني ايليوس هدريان، وقام بحصار المدينة وهدمها بشكل كامل، ووضع مكان الهيكل معبدا لجوبيتر وغير كل شىء حتى صار اسمها (إيليا كابتولينا)، وظل دخول اليهود الى القدس محظورا لزمن طويل، وعقاب من يخالف منهم الموت، ثم سمح لهم بدخولها مرة واحدة في العام يقفون فيه عند جزء من حائط المبكي يعود في تاريخه إلى عهد هيرودس يذرفون فيه الدمع ويطلبون الغفران والتطهر من الذنب الذي أدى إلى تدمير مدينتهم المزعومة وطردهم مرتين.
وقد استمر المنع في عهد البيزنطيين الذين استولوا على المدينة من الحكم الروماني، أما عن المسيحية فقد انتشرت في المدينة بفضل اعتناق الامبراطور البيزنطي قسطنطين وأمه للمسيحية في القرن الرابع بعد الميلاد، وحيث قامت الأم ببناء كنيسة القيامة في الموضع الذي قيل أن المسيح صلب فيه، وأعادت القديسة هيلانة اسمها القديم كمدينة السلام، وقد نجح البيزنطيون في رد الهجوم الفارسي عن مدينة السلام، واستطاع الامبراطور هرقل استعادة الصليب المقدس من الفرس، لكنهم على الجانب الآخر أوغلوا في اضطهاد المسيحيين الشرقيين والذين كان من بينهم العرب الكنعانيون لخلافات مذهبية، وقد ظل المسيحيون الأرثوذكس يعانون الاضطهاد وفرض الضرائب حتى شاع الخبر عن فاتحين جدد يقال لهم المسلمون.
القدس الشريف في ظل الحكم الاسلامي
ظلت «إيلينا كابتولينا» محرمة على دخول اليهود إلا سحابة نهار حتى ظهر الإسلام، واستولت جيوش عمر بن الخطاب على القدس بقيادة خالد بن الوليد، وعبيدة بن الجراج في سنة 637 ميلاديا، بعدما حاصروها وقد رفضت حاميتها بقيادة البطريرك الرومي «صفرنيوس» تسليم المدينة إلا لرجل جاء وصفه في الكتاب المقدس هو خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، الذي تسلمها في سلام، وأجرى ما عرف بالعهده العمرية، والتي أقر فيها للمسيحيين حقوقهم بممارسة شعائرهم الدينية في سلام، ولكنه رفض اشتراط منع اليهود من دخولها باعتبارهم أهل كتاب.
لم تكن القدس العظيمة بغريبة عن المسلمين فقد جاء وصف المسجد الأقصى الذي أُسرى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم إليه، وكانت قبلتهم الأولى قبل التحول إلى الكعبة الشريفة بمكة، ومن ثم كان السلام وكان الوقار في دخولهم المدينة إلى الحد الذي جعل خليفتهم يرفض الصلاة في كنيسة القيامة بدعوة من البطريرك حتى لا يتخذها المسلمون من بعده سنة ويضيق على المسيحيين، وقد أزال عمر بكفيه الشريفتين ما لحق بموضع حادثة الإسراء من قاذروات واختط ما عرف بالمسجد العمري.
حافظت المدينة منذ ذلك الحين على طابعها الروحي العالمي باعتبارها مدينة لكل الأديان، وعرفت حالة من التعايش في ظل الإسلام ما بين أصحاب الأديان الثلاث، وانتشر الإسلام ما بين ساكنيها حتى صار المسلمون هم الغالبية، وانتشرت لغة الحضارة الإسلامية العربية، وعرفت المدينة بمدينة القدس، وببيت المقدس، ومن دلائل هذا التعايش أن أسرة مسلمة تولت رعاية كنيسة القيامة والحفاظ عليها على مدى عدة قرون.
تعاقبت على حكم القدس الدول الإسلامية، التي تعاقبت على غيرها من دور الإسلام، من الخلافة الأموية التي أقيم خلالها المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، إلى العباسيين، إلى المماليك ثم العثمانيين..وقد اتسمت خلال تلك العهود الطويلة بحالة من التعايش والإخاء الإنساني، وفتح المدينة للحجاج والزائرين والتجار من مختلف أصقاع الأرض، ولم يعكر صفو تلك الحالة سوى تلك المحاولات الخبيثة التي تواكبت مع الأطماع الاستعمارية للبابوية في أوروبا مع نهاية القرن الحادي عشر، ورغبة التوسع في البلاد التي تفيض لبنا وعسلا فيما عرف بالحروب الصليبية، والتي استمرت لنحو مائتي عام، قاموا خلالها بمذابح وجرائم وصفها المؤرخ الصليبي المعاصر لها (دي شارتر) بمذابح (يندى لها الجبين) انتهت بإجلائهم لا عن القدس وحدها وإنما عن المشرق الإسلامي كله.
ومع أواخر عهد الدولة العثمانية بدأت التحركات في أوروبا من قِبل بعض متطرفي اليهود لاكتشاف ما عُرف بإسرائيل القديمة، كانت البداية بحملات بحثية منذ إنشاء «صندوق إكتشاف فلسطين 1865» بعد 25 عام من افتتاح أول قنصلية بريطانية في القدس، وبدأ حلم العودة إلى الأرض الموعودة التي أُجلوا عنها قبل ألفي سنة، وكان الغرض البحثي هو إثبات التراث التوراتي بشكل علمي، وهكذا سادت الرؤية التوراتية للتراث الفلسطيني، واحتكر التراث العربي لفلسطين لصالح إسرائيل المزعومة، ثم بدأت حملات الهجرة اليهودية إلى فلسطين بإشراف وتمويل من الغرب الاستعماري الأوروبي ولاسيما البريطاني الذي منح حلم وطن قومي لليهود فيما عرف بوعد بلفور، وتوالت الأحداث من إعلان قيام دولة اسرائيل 1948، ثم هزيمة العرب في 1967 والتوسع الاستيطاني في القدس إلى إعلان ترامب الأخرق للقدس كعاصمة للكيان الصهيوني الآثم.
رسالة رئيس الوزراء البريطاني «آرثر جيمس بلفور» إلى اللورد اليهودي «والتر دي روتشيلد»