ثقافة

بهاء طاهر.. إبداع يتدفق من صفاء ومحبّة

يجلس في هدوء في ركن منزوٍ من مكتبة تقع بجوار داره في القاهرة، يرتشف فنجانا من القهوة، ما أن تقع عيناي عليه حتى أبادر بتحيته ومد يدي للسلام؛ فيرفع رأسه ببطء ويطالعني بابتسامته الوديعة التي تنم عن روح صافية مُحبّة ويرحب بي ويدعوني للجلوس معه. نتبادل أطراف الحديث؛ فأنصت إليه مستمتعا بأدبه الجم وتواضعه المدهش.

هكذا عرفت الأديب المبدع الراحل بهاء طاهر، ذاك الذي بهرني بكلمته حين قرأتها مطبوعة على الورق، وبهرني بشخصيته منذ التقيته لأول مرة.

كانت تجربتي الأولى مع أدب بهاء طاهر من خلال أعماله القصصية.. سواء تلك التي يبحر فيها في بحور التصوف مثل “بالأمس حلمت بك” أو التي يغوص فيها في تاريخ وحضارة مصر القديمة مثل “أنا الملك جئت”.

ثم انتقلت إلى رواياته الطويلة؛ فأدهشتني قدرته على تصوير الحياة اليومية في صعيد مصر والعلاقة بين المسلمين والقبط هناك في “خالتي صفية والدير” والتي أحسب أنه أودع فيها بعضا من طفولته ونشأته في ذلك الركن من أرض مصر.

وفي روايته “قالت ضحى” قدّم طاهر صورة “بانوراميه” لمصر الستينات مبرزا نضال المصريين من أجل الاستقلال قبيل قيام ثورة ١٩٥٢، وما أحدثه فيهم هذا الحدث التاريخي من تغييرات جمّة بما له وما عليه.

قالت ضحى

أما روايته “الحب في المنفى” فتعد امتدادا بشكل أو بآخر لما بدأه طاهر في “قالت ضحى” فنحن بصدد مصري تشرب انتصارات الستينات وانكساراتها على حد سواء، وأجبرته الظروف في ثمانينات القرن العشرين على الخروج إلى “المنفى” في إحدى الدول الاوروبية؛ حيث يتابع عن بُعد التغيرات المدهشة التي جرت على أرض بلاده، من صعودٍ لثقافة التزمُّت والتشدد إلى تراجع الحلم الوطني الجامع.

ومن المدهش أن طاهر يربط ما حدث على أرض الوطن بما حدث لدائرة ما يعرف باسم “العالم الثالث” بشكل عام؛ فتلقي قضية فلسطين ومذابح صبرا وشاتيلا خاصة بظلالها على الأحداث؛ بل يصل الربط الى أمريكا الجنوبية ومأساة تشيلي بلد الشاعر بابلو نيرودا المفضل لدى بطل الرواية، والتي أجهضت التجربة الديمقراطية فيها لصالح نظام فاشي موالٍ لواشنطن.

وتعود القضية الفلسطينية فتفرض نفسها في رواية أخرى لطاهر هي “شرق النخيل” والتي تربط ببراعة بين تلك القضية، وجيل الحركة الطلابية المصرية في مطلع السبعينات قبيل نصر أكتوبر.

أما رواية “واحة الغروب” والتي تُعدُّ آخر أعماله الروائية – فهي مسك الختام، وفيها يعود الكاتب ليبحر في خضم تاريخ مصر، وتحديدا بدايات الاحتلال الإنجليزي للبلاد في القرن التاسع عشر، ليروي مأساة ضابط عاصر انكسار الثورة العرابية عام ١٨٨٢.

واحة الغروب

لم يقتصر عطاء بهاء طاهر لهذا الوطن على الأدب، وإنما كان له السبق في العمل الإذاعي من خلال تأسيسه للبرنامج الثقافي في الإذاعة المصرية الذي أمتع المستمعين في مصر والعالم العربي؛ بعيون الأدب العالمي بأصوات كبار الممثلين.

لم يكن شخص طاهر أقل سحرا من رواياته وأعماله الأدبية، كان الكاتب الخلوق شديد الدماثة يرحب بالجميع.. وكان كل من في حضرته يشعرون بدفء الترحاب؛ خاصة مع قدرته على إشاعة جو من البهجة لكل من حوله.

وهي البهجة التي افتقدها كثيرون – من بينهم كاتب هذه السطور– حين فرض المرض على طاهر الانزواء والبعد عن الأضواء والعمل الأدبي والإعلامي بشكل عام حتى وافته المنية ليرحل عن عالمنا تاركا خلفه عشرات الإبداعات وتراثا أدبيا أغلب ظني أنه سيدرس في الجامعات يوما ما؛ كقسم أصيل لا من الأدب المصري والعربي فحسب؛ بل من الأدب العالمي الإنساني بشكل عام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock