تتميز نظرتنا – نحن المصريين – إلى المصابين بعجز بدني ما، كالمكفوفين مثلاً، بأمر غريب ربما يندر أن يكون له مثيل في مجتمع آخر، فالمصريون لا يتعاملون مع هولاء بمنطق الشفقة كما يفعل البعض ولا بتعال كما يفعل البعض الآخر وانما يتعاملون معهم بمنطق البركة، حيث يؤمنون -على حد تعبير الكاتب الصحفي الراحل صلاح عيسى – بما يمكن أن يسمى بـ «بركة العجز».
يري عامة المصريين أن الكفيف مثلاً شخص مبارك، ويسعون للتقرب منه والالتفاف حوله علهم ينالون بعضاً من هذه البركة.
ولعل أحد هولاء الـ «مباركين» كان الشيخ سليمان الجوسقي، إمام المكفوفين في الجامع الأزهر إبان الغزو الفرنسي لمصر أواخر القرن الثامن عشر الميلادي والذي قُدر له أن يلعب دوراً محورياً في الأحداث في تلك المرحلة من تاريخ مصر.
شيخ المكفوفين
تولى الشيخ الجوسقي مسؤولية طائفة المكفوفين الأزهريين عقب وفاة سلفه الشيخ الشبراوي.، كما يذكر المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي،
ويبدو جلياً من وصف الجبرتي مدى عناية الجوسقي الذي كان ميسور الحال بأبناء طائفته حيث كان «يعجن في طاحونته الخاصة خبزا لفقراء العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة فى طوافهم آناء الليل وأطراف النهار بالأسواق والأزقة»
لكن الجبرتي، الذي سبق وأن وصف في كتابه من قاموا بثورة القاهرة الأولى ضد نابليون وجنده الفرنسيين بأنهم «زعران» و«حشرات» لا يُخفي موقفه الشخصي من الجوسقي، فيصفه في فقرات تالية بأنه كان يستغل سنوات الغلاء ويبعث أعوانه لكي يأتوه بـ «السفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك» لكي يبيعها بـ «السواحل والرقع بأقصى القيمة».
وبعيداً عن مدى صحة هذا الإدعاء من عدمه فإن الثابت تاريخياً هو أن العميان بقيادة شيخهم الجوسقي لم يحذوا حذو كبار مشايخ الأزهر، حيث لم يرضوا بقرار هؤلاء تسليم نابليون القاهرة بعد هزيمة بكوات المماليك أمامه، كما ساورتهم الريبة وانتابهم الغضب تجاه الإجراءات التي اتخذها هولاء الغزاة كخلع أبواب البيوت والحارات ورأوا فيها اعتداء على حرمة ديارهم.
وزاد السخط في أوساطهم وفي أوساط العامة بشكل عام بسبب الضرائب الباهظة التي فرضها نابليون، وبدأوا ينظمون أنفسهم بشكل سري حتى أتتهم اللحظة المواتية لمواجهة الغزاة فيما عرف باسم «ثورة القاهرة الأولى» في أكتوبر 1798.
كان الجوسقي قد أعد العدة لهذا اليوم، حيث كان قد جهز جيشه الخاص – إذا صح التعبير- من المكفوفين وأمرهم بالانتشار في أرجاء القاهرة ليأتوه بأخبار الغزاة، كما أخرج ما لديه من أموال جمعها من تجارته لشراء السلاح وتوزيعه على العامة.
وبالفعل اشتعلت الثورة، ونشبت معركة قتل فيها الثوار الجنرال ديبوي الحاكم المعين من قبل نابليون على القاهرة، وشملت الثورة معظم أحياء القاهرة ما عدا مصر القديمة وبولاق، ربما لقربهما من معسكرات القوات الفرنسية.
وإتخذ المصريون من الأزهر مركزاً وحصناً للثورة وأقاموا المتاريس في الطرق المؤدية إليه وبلغ عدد المتظاهرين في ثورة القاهرة الأولى أكثر من 50 ألف متظاهر.
وقف الجوسقي في وسط الجموع يخطب مطالباً إياهم بالثبات والصمود ومؤكداً لهم «إنكم بشر مثلكم مثلهم، فاخرجوا إليهم فإما أن تبيدوهم أو يبيدوكم».
صب نابليون نيران مدافعه على الأزهر وعلى الأحياء القريبة منه، وكالعادة أتاه الوجهاء يطلبون منه الصلح في حين كان العامة لا يزالون يحملون السلاح، فما كان رد قائد الفرنسيس إلا أن أمر جنوده باقتحام الأزهر بخيولهم وعكفوا –كما يذكر الجبرتي- على تدنيسه ثلاثة أيام متتالية.
ومع انقشاع غبار المعركة، أسفرت الثورة عن مقتل أكثر من 2500 مصري، وبدأ نابليون في تعقب من كانوا وراء اشتعالها، في الوقت الذي لجأ فيه الجوسقي إلى دار أحد تلاميذه.
لكن وشاية ما دلت الفرنسيين على طريق الشيخ، فاقتيد مع غيره من مشايخ الأزهر المؤيدين للثورة إلى القلعة حيث أعدم ستة منهم كان من بينهم الجوسقي، الذي بدا واضحاً في وصف الجبرتي لوفاته معاداته للثورة من ناحية، وسعيه لتشويه صورة الجوسقي من ناحية أخرى، حين يصفه بأنه «حَمَلَه التفاخر» على «إثارة الفتنة» ثم يكتفي بالقول أنه «قتل فيمن قتل في القلعة» مستكثراً على الشيخ وصف الشهيد.
https://youtu.be/SAiy_rFNB-Y
يد الشعب
لكن وإن كان الجبرتي قد ضن على الجوسقي بوصف الشهيد، فإن المخيلة الشعبية المصرية خلدت الشيخ الكفيف ونسجت حوله عشرات الروايات البطولية من بينها قصة حوار دار بينه وبين نابليون ساومه فيه هذا الأخير على مواقفه وتظاهر الجوسقي بالقبول ومصافحة نابليون لكن بدلاً من مصافحته هوى على وجه الجنرال الفرنسي بصفعة كانت السبب الرئيسي في إعدام الشيخ المناضل.
هذه القصة الشعبية ألهمت عشرات المبدعين الذي تناولوا شخصية وسيرة الجوسقي، ففي فيلمه «وداعاً بونابرت» يقدم المخرج الراحل يوسف شاهين الجوسقي باعتباره قائد تنظيم سري يعد للثورة المسلحة ضد الفرنسيين.
ويُبرز شاهين رفض الجوسقي للثورة المتعجلة التي طالبه بها تلاميذه وحرصه على أن يكتمل الاستعداد المادي والمعنوي قبل أن يطلق نداء الجهاد في أنحاء القاهرة.
وفي مسلسل«نابليون والمحروسة» للمخرج التونسي الراحل شوقي الماجري، يبرز أيضا اسم الشيخ الجوسقي ضمن أحداث المسلسل كقائد لا للمكفوفين فقط وانما للبسطاء من أبناء الأزهر بشكل عام، حيث يلتفون حوله وحول قيادته رافضين القيادات الأزهرية الأخرى التي هادنت الفرنسيين.
لكن التوظيف الأبرز لقصة الجوسقي كان على يد الشاعر والمسرحي الراحل علي أحمد باكثير الذي وظف هذه الأسطورة في مسرحية بعنوان «الدودة والثعبان» تناول فيها جانباً من سنوات الاحتلال الفرنسي الثلاث لمصر.
يأتي مشهد الذروة في مسرحية باكثير في مواجهة بين نابليون والجوسقي في مقر نابليون، حيث يَمثُل الجوسقي أمام القائد الفرنسي متهماً بأنه «قائد الثورة» وهي التهمة التي لا ينكرها الشيخ معتبراً إياها «شرفاً لا يدعيه».
هنا يسعى بونابرت لاستمالة الشيخ واعداً إياه –حسب نص المسرحية- بأنه يُوَلِّيه سلطاناً على مصر، يتظاهر الشيخ بالموافقة أول الأمر ويمد يده للجنرال لكي يعاهده.
هنا تأتي اللطمة من يد الجوسقي على وجه نابليون، ليسخر بعدها الشيخ الكفيف من جلاده قائلاً «معذرة يا بونابرته، هذه ليست يدي، هذه يد الشعب».