كنت كلما هممت بالخروج من نفق الجلاء، والاقتراب من شقة الكبير الراحل نجيب محفوظ قبل مستشفي الشرطة، أفكر في تلك التسمية التي دائمًا ما تحيرني «العجوزة». وكثيرًا ما تساءلت عن سبب التسمية، ولكم انجذبت إلى أسماء الشوارع، أشعر أثناء ترديد أسمائها، بنوع من الألفة، والحنين، شوارع طَيّبة ولكن تم خنقها بالزحام والباعة والجراجات. وناطحات السحاب، وبالطبع لم نعد نرى النيل بسبب الإشغالات التي أخذت شاطئه لحسابها.
قبل بيت أستاذنا الكبير محفوظ، أرى ذلك المسجد الذي يطل على النيل، بينما شجرة ضخمة تجاوره، وكأنهما يستندان على بعضهما، ويستظلان ببعضهما أيضا. هذا المسجد بمأذنته العالية، هو سبب تسمية «العجوزة» وهي حكاية في حد ذاتها تستحق أن تروى.
مسجد النيل بحي العجوزة
الأميرة العاشقة
العجوزة ليست اسما أطلق على سيدة بلغت من العمر أرذله وحسب، بل هي حكاية وسيرة لامرأة عاشقة ومحبة كبيرة. وللتوضيح تعود تسمية حي العجوزة إلى الأميرة نازلي هانم ابنة سليمان باشا الفرنساوي، القائد الشهير ومؤسس الجيش المصري الذي استعان به محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة.. لكن كيف؟.. لهذا حكاية طويلة.. فقد تزوجت الأميرة نازلي من رئيس الوزراء المصري الشهير «محمد شريف باشا» الذي أُطلق اسمه على شارع شريف بمنطقة وسط البلد، والذي تولي رئاسة الوزراء أربع مرات، وهو مؤسس الدستور المصري، وقد أشرف على صياغة التشريعات في مصر.
الأميرة نازلي هانم بصحبة والدها سليمان باشا الفرنساوي
شغل «شريف باشا» الكثير من المناصب، وعندما عين ناظرًا للأشغال العمومية والداخلية عام 1866، قام النظام الدستوري في مصر، وأنشي مجلس شوري النواب، وفي عام 1877 كان ناظرًا للخارجية ووقع عن الحكومة المصرية معاهدة إبطال تجارة الرقيق. وفي عهد توليه الوزارة عام 1879 أكملت سلطة مجلس النواب بتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمامه، حيث قدم دستور 1879، وهو أول دستور وضع في مصر على أحدث المبادئ.
ومن أهم أعمال شريف باشا إدخال الكتاتيب في الهيكل التعليمي حينما كان ناظرا لديوان المدارس، وجعل معرفة القراءة والكتابة شرطاً أساسيا لتعيين أعضاء مجلس شورى النواب مما شجع على نشر التعليم وشكل الرجل «مجلس المعارف» لإعداد المشورة في أمور التعليم ووضع له لائحة خاصة. كما أنشئت في عهده مدرسة المهندسخانة (الهندسة) 1866، والمدرسة التجهيزية بالقاهرة (المدرسة الخديوية) عام 1868، ومدرسة الحقوق في العام نفسه. وافتتح المحاكم الأهلية عام 1883.
https://www.facebook.com/dmctveg/videos/2752190895008105/?t=218
وعندما توفي في جراتس بالنمسا في إبريل من العام 1887 شيع من قبل الألوف من محبيه.
أنجب محمد شريف باشا من زوجته «نازلي»، ابنا هو محمد شريف باشا -على اسم والده- وعمل وكيلا لوزارة الخارجية، وابنتين الأولي تزوجت من محرم شاهين باشا، صاحب الحي الشهير بالإسكندرية، والابنه الأخري وهي توفيقة هانم تزوجت من عبد الرحيم صبري باشا وأنجبت نازلي على اسم جدتها وهي التي كانت زوجة الخديوي فؤاد ووالدة الملك فاروق، وصاحبه العلاقات الغرامية الكثيرة خاصة مع أحمد حسانين باشا رئيس الديوان الملكي. كما أنجبت نوال التي رحلت طفلة صغيرة.
نعود لزوجة شريف باشا، تلك المرأة الوفية والتي أحبت زوجها حبا كبيرا ملك عليها كل حياتها، فقد ظلت وفية له في حياته لكن وفاءها لزوجها بعد رحيله كان كبيرا وعظيما، فقد كان شريف باشا يريد بعد سنوات من عمله في السياسة والتجارة وتأسيس الكثير من المؤسسات في الدولة أن يستريح. خاصة أنه من أعيان مصر ومن أثريائها أيضًا، وكان يمتلك حوالي 30 فدانا على النيل، وكانت أمنيته أن يبني مسجدا على النيل في تلك الأرض.
لكن شريف باشا توفي قبل تحقيق تلك الأمينة، فقررت زوجته الوفية «نازلي هانم» أن تحقق أمنية زوجها الراحل، لتدخل هذه السيدة التاريخ من هذا الباب، رغم عدم ظهورها أثناء حياة زوجها الحافلة، كانت نازلي قد تجاوزت التسعين من عمرها حين قررت تحقيق أمنية زوجها وبناء المسجد الذي تمناه، وكانت تعاني وتكابد و هي تتابع العمال وهم يبنون المسجد، وتشرف بنفسها على كل كبيرة وصغيرة، وكان يشاركها المتابعة أصدقاء زوجها مثل الشيخ محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني. ليتم الانتهاء من بناء هذا المسجد الذي يطلق عليه الآن «مسجد النيل».
محمد شريف باشا
وكان الأهالي كلما مروا وشاهدوا السيدة العجوز تجلس تتابع العمال، يدهشون من وجودها، ويتناقلون سيرة هذه السيدة المسنة التي لا تكل ولا تمل من متابعة بناء المسجد حتى اكتمل، ولكثرة ترديدهم كلمة «العجوزة وصلت والعجوزة ذهبت» أصبحوا يطلقوا علي المكان العجوزة، و ومن ثم تسمت المنطقة كلها بهذا الاسم.
وربما ساهم الخديوي توفيق في إطلاق الاسم بنصيب، فيذكر إنه كان يسير على النيل برفقه بعض الأجانب، وعندما سألوه عن هذا المسجد قال لهم ده جامع العجوزة، ويذكر أن شاطئ النيل أمام هذا الجامع كان عبارة عن مصيف للفلاحين والفقراء من الجيزة، حيث كان المكان عبارة عن منطقة زراعية وبها الكثير من القري الريفية، حتى ستينيات القرن الماضي. عندما وقعت حادثة شهيرة وهي سقوط «تروللي باص» بركابه في النيل، وراح ضحية الحادث 88 شخصا. ومنذ ذلك الحادث، تم قطع الأشجار التي كانت على شاطي النيل. ليتحول إلى شارع الكورنيش بالجيزة ممتدا من المنيب حتى الوراق.
الحفيدة «نوال»
ومن العجيب وكأن القدر قد اختار للسيدة العجوز نازلي أن يمتد ذكرها في حفيدتها، فإنه بجوار الجامع الذي أنشأته مباشرة يقع شارع «نوال» الشهير. وأما نوال هذه فهي حفيدة الأميرة نازلي من ابنتها توفيقة هانم، تلك الحفيدة التي توفيت مبكرًا، في السادسة من عمرها، وحزن عليها والدها عبد الرحيم صبري حزنا شديدا فأطلق اسمها على السرايا التي كانت تسكنها الأسرة ليطلق اسمها بعد ذلك على الشارع الذي تقع به السرايا.
وبعد مسجد العجوزة مباشرة وقبل شارع نوال تقع شقة أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ، التي يبدو أنه استلهم من الجلوس في شرفتها ومشاهدة العوامات في النيل رائعته الجميلة رواية «ثرثرة فوق النيل».. وهكذا كانت الأميرة العجوز نازلي وحفيدتها الملاك البرىء نوال، وكاتبنا العالمي نجيب محفوظ شهودا على حكاية حي بديع اسمه «العجوزة».