عادة ما تدوم الانطباعات السيئة الأولى، بينما لا يكون الأمر كذلك بالنسبة للانطباعات الجيدة. ورغم أننا نسعد بالمديح والمجاملات اللطيفة، إلا أن ما يؤثر فينا بعمق هو النقد، وربما تلفت أنظارنا الأخبار الجيدة، لكننا نهرع خلف السيئة لنعلم ماذا سيحل بنا. وكأن العقل البشري مصمم لكي يركز على الجانب السلبي مهما كان محدودًا، بينما يولي اهتمامًا أقل بكثير تجاه الجوانب الإيجابية.
ولا يعتبر ذلك صحيحًا على المستوى الفردي فقط، وإنما حتى على المستوى الجمعي، وهذا ما لاحظه عالم النفس «روي ف.باومايستر» والصحفي «جون تريني» اللذان ألفا معًا كتابا بعنوان «قوة الأشياء السيئة: وكيفية التغلب عليها» والذي صدر العام الماضي 2019، وطرحا من خلاله وجهة نظر أكثر عمقًا حول مفهوم «التحيز السلبي»، ومدى تأثيره على شتى جوانب الحياة.
جذور التحيز
ترسخ التحيز السلبي داخل نفوس البشر منذ قديم الأزل، حيث كان الإنسان البدائي يسعى لتجنب المخاطر أكثر من الاستمتاع بحياته، فخطأ واحد كان كفيلًا بأن يودي بحياته. لكن مع تطور الزمن أصبحنا اليوم نعيش حياة أكثر أمانًا وثراءً وراحة من أجدادنا، إلا أننا مازلنا نعيش بنفس العقلية البدائية، من خلال اختلاق الأزمات والكوارث، وإصرارنا الدائم على أن اليوم أسوأ من البارحة، وأننا سنفنى قريبًا لامحالة.
الكثير من الجهات تستفيد من هذه الحقيقة النفسية، وذلك من خلال اللعب على هذا الوتر الكامن داخل عقول البشر، ففي السياسة يركز السياسيون على إبراز المخاطر التي يمكنهم التصدي لها والتغلب عليها، أكثر من الإصلاحات والحلول التي سيطبقونها. وفي الإعلام تتسابق القنوات في بث الكوارث والمصائب، لأن الجمهور سيكون متحمسًا لمتابعتها، وحتى في التسويق تعمل الفنادق والشركات على تقليل التقييمات السلبية على المواقع، لأن بإمكان تقييم سلبي واحد أن يحوز على الاهتمام أكثر من كل التقييمات الإيجابية.
قوة الأشياء السيئة
ولعل هذا ما يفسر صعوبة تخطي الأزواج للمشاكل التي أساؤوا لبعضهم البعض فيها لفظيًا، فعلى الرغم من أنهم بلا شك -كثيرًا ما تبادلوا كلامًا مليئًا بالحب على مدى سنوات، إلا أن هذا الموقف السيء يمكن أن يمحو كل ما سبق، لأنه وبشكل تلقائي يعلق في الذاكرة. وحتى بالنسبة للأباء فإن تأثيرهم يكون أقوى على الأبناء في حالة كونهم سيئين، حيث يتركون جروحًا أبدية في نفسية أبنائهم، ربما لا ينجحون أبدًا في تخطيها.
كذلك يظهر هذا التحيز للأشياء السلبية بشكل واضح على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تمتلىء تلك المنصات بشائعات تحذيرية، وأخبار مبالغ فيها عن الأوبئة والأمراض، ونصائح حول الطعام والشراب والهواتف، التي إذا تبعها الناس فغالبًا لن يأكلوا شيئًا أو حتى يتنفسوا، لأن الهواء ملوث والأغذية مسرطنة والهواتف ستدمرنا يومًا ما، ولكن رغم ذلك يشارك الناس تلك الأخبار بشغف أكثر بمراحل من تلك الإيجابية.
توازن الجيد والسيء
المؤكد أن الحياة ليست وردية، ويجب علينا تقبل ما فيها من سيء وجيد، حتى أنه في كثير من الأحيان تدفعنا الأشياء السيئة لنتطور ونصبح أفضل. لكن كتاب «قوة الأشياء السيئة» يركز على تغيير رؤيتنا لتلك الأشياء السيئة، بحيث نتحكم نحن بها بدلًا من أن تتحكم فينا. فبإدراكنا لهذا الانحياز ناحية الأشياء السلبية يصبح بإمكاننا تقييم الأمور تقييمًا موضوعيًا، وبالتالي نرى ما في الحياة من سيء وجيد بقدر متوازن دون هيمنة لما هو سيء.
ويوضح الكتاب أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال موالاة الأحداث السيئة بأخرى جيدة، فوفقًا للأبحاث العلمية يجب إتباع كل حدث سلبي بأربعة أحداث إيجابية حتى نتجاوز الأثر السلبي لهذا الحدث. ومن الأشياء التي تساهم في تلك العملية أيضا، أن نتذكر باستمرار النعم التي ننعم بها في حياتنا، وأن ندرك أن لكل شيء جوانب إيجابية وسلبية. فبدلًا من التذمر من التكنولوجيا وكيف أنها أفسدت حياتنا وجعلتها أكثر تعقيدًا، ربما يجب أن نقر بمزاياها التي نتج عنها تطور هائل في شتى مناحي الحياة، وجعلها أكثر يسرًا وسلاسة.
اختيار الجيد
ولأن معظم ما نتعرض له في حياتنا اختياري، ينصحنا مؤلفا الكتاب بتقليل تأثير التحيز السلبي في حياتنا إلى أقل قدر ممكن، من خلال تجنب مشاهدة القنوات التي تبث أخبارا سلبية طوال الوقت، وإختيار الحسابات التي نرى أن أصحابها ينشرون أخبارًا مفيدة وإيجابية لكي نتبعها، مع تجاهل الأخبار السلبية، خاصة إذا كانت قراءتها أو رؤيتها لن تفيد أو تغير الواقع في شيء.
ربما كان للإنسان الأول مبرر في خوفه من الأشياء السيئة وربما تنجح تلك الطريقة عند التعرض لخطر جسيم، لكن التعامل اليومي مع الحياة بهذه العقلية يفقد الإنسان سلامه النفسي وتركيزه، ويجعلنا ننسى كل الأشياء الجميلة والجيدة في حياتنا فقط لأن هناك جزءًا محدودًا من الكدر والشقاء، الذي رغم وجوده إلا أن الإنسان مازال يستطيع الاستمتاع بحياته، دون أن يدع ذلك الجانب السيء يتحكم في حياته، وإنما يتحكم هو به ليدفعه للأمام ويتجاوز أثره المؤلم على نفسه.