منذ أطلت نادية لطفي علي شاشة السينما المصرية في خريف عام 1958 وحتي رحيلها في الرابع من فبراير عام 2020 بعد رحلة صراع طويل مع المرض وعن عمر يناهز 83 عاما، وهي النجمة الاكثر حضورا بين نجمات جيلها وليس فقط علي الشاشة الفضية.
ليس فقط عبرما قدمته من أدوار، كانت وستظل محفورة في الوجدان، ولكن من خلال مواقفها الانسانية علي أرض الواقع، سواء كفنانة، أو كمواطنة عربية، دافعت عن عروبتها في كثير من المواقف.
وعلي الرغم من علاقتها الجيدة بوسائل الإعلام علي تنوعها، فإن نادية لطفي ظلت حريصة دوما علي تكتم الكثير عن طفولتها، مفضلة ربط تاريخ ميلادها الحقيقي بأول ظهور لها علي الشاشة، فيما احتفت بميلاد أخر لها، حينما حصلت علي لقب «أم أحمد» ابنها الوحيد من زوجها عادل البشاري.
https://www.facebook.com/Aswatonline/videos/1807823536018209/?t=2
طفولة بولا مصطفى
لم يكن في طفولة نادية أو بولا ما تخفيه أو تخجل منه، لكنها كانت أكثر اهتماما بالحديث عن ميلاد الفنانة وصعوبة رحلتها وأهم المحطات التي مرت بها، ما يفسر سر اللغط الذي ارتبط بتاريخ ميلادها.
ولدت بولا محمد مصطفي شفيق في القاهرة في 3 يناير العام 1937، وهو التاريخ المدون في هويتها الرسمية، والتي جددتها وفقا لإعترافاتها للمرة الثانية في صيف عام 1964، لأب كان يعمل محاسبا، و لأم أجنبية هي «ستيلا كون»، وهذا ما يفسر سر تسميتها بـ«بولا»، وهو الإسم الذي ظلت تحتفظ به في أوراقها الرسمية علي الرغم مما حققه اسم نادية من شهره و نجومية.
عاشت بولا طفولتها بين أحياء العباسية وعابدين، تنعم برعاية والديها وجدتها فاطمة، لم تكن وحدتها تقلقها في ظل الاهتمام الذي أحاطتها به أسرتها. أما عن هواياتها فتعددت بين الرسم والقراءة، والسباحة وركوب الدراجات.
من عاصروا نشأتها يؤكدون أن بولا أو نادية لطفي لاحقا، عاشت طفولتها كما يعيش أبناء الذوات، حيث تعلمت في المدرسة الألمانية بالقاهرة، فهي تجيد اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. أما عن العوامل التي ساهمت في تشكيل وعيها كإنسانة وكفنانة وحددت اختياراتها لاحقا. تقول بولا أو نادية في أحد حواراتها إن «البيئة والظروف تفعلان الكثير فينا، بل يمكن القول إنهما تؤديان أكبر دور في تشكيل شخصياتنا ومصائرنا، لذلك لدي ما يشبه اليقين أنني تأثرت في تكويني بالحوادث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عشت في ظلها وأنا طفلة لا تفهم عنها شيئاً.. تأثرت بالتظاهرات الوطنية، وأجواء الحرب العالمية، وثورة الضباط الأحرار، كذلك أثرت الظروف المحيطة بنا في أدق تفاصيل حياتنا».
ممثلة بالصدفة
اللافت، ووفقا لإعترافاتها، فإن التمثيل لم يكن من بين هوايات نادية لطفي وهي طفلة ولا حتي وهي صبية، بل ربما «كرهته» وبات لديها عقده منه بعدما فشلت في تمثيل دورها في مسرحية «البخيل» في إحدي الحفلات المدرسية. أما صاحب الفضل في تقديم الفنانة نادية لطفي الي السينما فهو المنتج جان خوري «والد المخرجة والمنتجة ماريان خوري و المنتج جابي خوري»، حيث كانت بولا من بين المدعوين إلى حفلة في منزله برفقة زوجها، وكان من بين المدعوين رمسيس نجيب المنتج السينمائي المشهور ومكتشف المواهب التي أثرت الساحة الفنية، والذي ظل يمثل لها الرعاية والمشورة من دون وصية أو تدخل. فقد رأي فيها بطلة فيلمه الجديد «سلطان» إلى جانب وحش الشاشة الراحل فريد شوقي، وكان في صدد التحضير له آنذاك، وهكذا دخلت بولا عالم التمثيل بالصدفة. وقد شاركت في فيلم «سلطان»، أول أعمال نادية لطفي، والذي أنتج عام 1958، كوكبة من النجوم، كان من بينهم رشدي أباظة، وبرلنتي عبد الحميد، وتوفيق الدقن، وعدد آخر من نجوم الزمن الجميل، وهو عن قصة لجليل البنداري، كتب له السيناريو مخرجه نيازي مصطفى بالتعاون مع عبد الحي أديب، بينما تصدى السيد بدير لكتابة الحوار.
إلا أن بداية بولا الفنية لم تكن وردية ولا سهلة، حيث عانت من اعتراضات أسرية، ليس من جانب زوجها، ولكن من والديها. وعن ذلك تقول: «أمي كانت امرأة محافظة جداً… بل متطرفة في تحفظها، وكانت لا تقبل إطلاقاً فكرة ذهابي إلى السينما، أو الاحتفاظ بصور النجوم، وقتها كنت أعشق فاتن حمامة بجنون… ووالدي كان وراء هذه التربية، فقد كان يعارض تماماً دخولي مجال العمل السينمائي… والحقيقة أن الفضل الكبير يرجع إلى زوجي القبطان عادل البشاري… كان مثقفاً وقارئاً نهماً… ولم يمانع إطلاقاً فكرة عملي في السينما، ورغم أن زواجنا كان تقليدياً، فإنه كان الحب الأول في حياتي، وعشنا عمراً مديداً، وأنجبنا ابننا الوحيد… وما زالت جسور الود والتفاهم والاحترام بيننا قائمة حتى الآن رغم الانفصال» «من حوار بين نادية لطفي والمخرج عمر زهران – «المصري اليوم» – 27 فبراير 2016».
ميلاد نجمة
على المستوى الفني، لم تكن تجربة البداية السينمائية لنادية لطفي، ناجحة بالصورة التي حلمت بها، لكنها كانت كفيلة بالإعلان عن نجمة جديدة نجحت في ترسيخ مكانتها في خطواتها التالية، بعدما تفرغت – وفقا لإعترافاتها – لإعداد نفسها فنيا ومعرفة خفايا هذا العالم و التدريب الجيد علي يد نخبة من نجوم هذه المرحلة، وفي مقدمتهم السيد بدير و الفنان عبد الوارث عسر أو مدام رطل والتي كان لها الفضل في تصحيح أخطاء الصوت والنطق للعديد من نجوم و نجمات التمثيل في مصر.
وتوالت أعمال بولا وتنوعت، وكانت حريصة دوما ألا تسجن نفسها داخل قالب تفرضه الملامح الشكلية، ولكن تؤكده الموهبة. فمثلا تخلت نادية لطفي عن أنوثتها بإرادتها الحرة لتجسد دور رجل في فيلم «للرجال فقط» مع صديقتها سعاد حسني ومن اخراج محمود ذو الفقار. أيضا دورها في «السمان والخريف»، والذي قدمت خلاله تنويعا في الأداء أمام «غول» التمثيل محمود مرسي، في دور اعتمد علي ترجمة الأحاسيس و المشاعر والتعبير بلغة العيون قبل الحوار، كذلك دورها في «النظاره السوداء» وهما للمخرج حسام الدين مصطفي. حيث نري تحولا في الشخصية التي قدمتها بحرفية عالية، فأقنعت جمهورها بالتحول الذي حدث لشخصيتها.
كذلك في فيلم «بين القصرين» لحسن الإمام، أو في «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين، حتي في «الخطايا» عندما قدمت الفتاة الرومانسيه الخجولة، كانت أيضا مقنعة في احاسيسها و مشاعرها و بعيدا عن جمال الملامح.
https://www.youtube.com/watch?v=gkQA7KmAWXk
ظلّ اسم نادية في مقدمة الشارات على امتداد 30 سنة «من 1958 إلى 1988»، مع استثناءات قليلة، حيث ظهرت في فيلمها الأول، تالية لبطل الفيلم فريد شوقي، ثم لوحة تجمع بين رشدي أباظة وبرلنتي عبد الحميد، ثم أسماء بقية الممثلين. لكنها ظهرت بعد ذلك بطريقة مميزة في لوحة خاصة وبارزة ويسبق اسمها تقديم «مع الوجه الجديد..».
وفي فيلمها الثاني، جاء اسمها بعد أحمد رمزي، وقبل محمود المليجي، وفي الفيلم الثالث، تساوت مع عمر الشريف في بداية الشارة، وبعدهما النجم الكبير كمال الشناوي. وفي «عمالقة البحار»، ورغم دورها الصغير، ظهرت في لوحة خاصة مميزة يسبقها تقديم «بالاشتراك مع…»، بينما تصدّر الأسماء أحمد مظهر، وهو ما حدث أيضاً في فيلمهما التالي «مع الذكريات»، حيث جاء نادية في الترتيب الثالث بعده وبعد مريم فخر الدين، بينما تأخرت إلى الترتيب الخامس في فيلم «لا تطفئ الشمس»، نظراً إلى مشاركة نخبة كبيرة من النجوم تصدرتهم فاتن حمامة منفردة، ثم شكري سرحان، وعماد حمدي، وأحمد رمزي، ثم نادية لطفي، لكن في مساحة منفصلة وبارزة.
وفي «عودي يا أمي»، جاءت بعد شكري سرحان. ثم قفز اسم نادية إلى مقدمة الشارة لأول مرة في «السبع بنات»، باكورة الأعمال القليلة التي جمعت بينها وبين سعاد حسني، التي غاب اسمها عن الملصق المطبوع، رغم وجود صورة لها تعلو على صورة نادية! ونختتم موسم 1961 بظهور نادية على الشاشة البيضاء أقل من دقيقة «57 ثانية فقط»، كضيفة شرف في فيلم «نصف عذراء» من إخراج أستاذها السيد بدير وبطولة زبيدة ثروت ومحرم فؤاد.
الانحياز لقضية فلسطين
لم يتوقف اهتمام النجمة الراحلة بالفن وفقط، بل كانت مهومة دوما بالشأن العام، منحازة لقضايا أمتها العربية، وهو ما يفسر سفرها للبنان أثناء حصار بيروت في العام 1982 لتعيش في صفوف المقاومة الفلسطينية وتصور بعض ما تعرض له الفلسطينيون، وتلتقي الزعيم الراحل ياسر عرفات تحت الحصار. وظلت حتى رحيلها منحازة للقضية الفلسطينية ومناضلة من أجلها بالكلمة والموقف. وقد أعربت مرارا عن مساندتها للمقاومة الفلسطينية، إضافة بالطبع لموقفها المنتصر للشعب الفلسطيني. كما كانت حاضرة في كل المحن والأزمات التي عاشتها مصر وهو ما تجلى في رعايتها واهتمامها بمصابي وجرحى الحروب التي خاضتها مصر منذ العدوان الثلاثي عام 1956. تقول النجمة الشقراء: «لم أفصل يوما بين السينما و الإهتمام بالشأن العام، فقد تربيت علي حب الناس ومن ثم مساعدتهم، وبما أنني أحب بلدي و وطني كان لابد من مد يد العون، باختصار علي كل منا خدمة بلده و وطنه بطريقته، و أي إنسان لا يكون كذلك ما لم ينشغل بهموم غيره».
وأخيرا خلعت نادية لطفي نظارتها السوداء لترحل تاركة وراءها كل هذا الجمال والعطاء الذي سبيقى طويلا مخلدا سيرتها وصورتها.
الفيديو جرافيكس: