رؤى

الأشرف خليل.. سقوط أسطورة عكا

في أواخر شهر شوال من عام ٦٨٩ للهجرة (١٢٩٠ ميلاديه) وفي خيمة نُصبت في معسكر خارج القاهره٫ التف أمراء المماليك وقادة الجيش حول سلطانهم المنصور قلاوون الذي ادركوا انه يُحتضر.

كان السلطان المنصور قد سار طيلة مدة حكمه التي امتدت أحد عشر عاماً على نهج سلفه السلطان الظاهر بيبرس في تطهير ساحل الشام من الوجود الصليبي والمغولي على حد سواء واتم قبيل وفاته تحرير مدينة طرابلس الساحلية من الصليبيين ومع سقوط تلك المدينة لم يبق في حوزة الصليبيين سوى مدينة عكا.

أدرك حكام عكا عزم المنصور على مهاجمتهم ايضاً ولجأوا الى البابا لانقاذ المدينة من جيشه وبالفعل وجه البابا استغاثة لملوك اوروبا لإنقاذ اخر معقل صليبي في الشرق إلا أن استغاثته لم تلق استجابة لانشغال ملوك أوروبا بصراعاتهم الداخلية.

لم يلب دعوة البابا سوى بعض فلاحي ايطاليا والذي توافدوا على عكا٫ الا ان حكامها سرعان ما ادركوا أن هؤلاء الايطاليين هم عبء على المدينة وليسوا سنداً لها٫ خاصة بعد أن وقعت مشادة بين بعضهم وكانوا سكارى وبين عدد من مسلمي المدينة٫ انطلق الإيطاليون على اثرها واعملوا السيف في مسلمي البلد وقتلوا كل من صادفوه منهم ولم يسلم منهم المسيحيون الشرقيون ايضاً.

هنا أدرك السلطان المنصور أن الوقت قد حان ليطهر المدينة من الغزاة وبدأ يعد العدة بالفعل لذلك إلا أن المنية وافته قبل أن يزحف بجيشه الى هناك.

لكن حلم التحرير لم ينتهي بوفاة المنصور٫ إذ سرعان ما تولى السلطة بعده ولده ابنه خليل وتلقب بلقب الاشرف وعلى عكس أولاد السلاطين السابقين لم يكن خليل طفلاً بل شاباً في اواخر العشرينات من عمره مما جعله موهلاً لخلافة ابيه وهو ما اتفق عليه أمراء المماليك.

وبعد أن تمكن الأشرف خليل من توطيد سلطته في الداخل وإبعاد أمراء أبيه الكبار الذي شعر أنهم قد يشكلون تهديداً لعرشه٫ سار على نهج أبيه واستعد ليتم ما بدأه من تحرير عكا.

واعد الاشرف لهذا الغرض كافه الاسلحه المصممه للنفاذ إلى مدينة محصنة٫ فجهز مجموعه متنوعه من المجانيق كما التحق بجيشه “المهندسين والبنائين والحجارين” كما يذكر المؤرخون اضافة الى عدد كبير من المتطوعين مثل المؤرخ أبو الفداء.

ومع اكتمال التجهيزات أعلن الاشرف النفير العام في كل من الديار المصرية والشامية حتى اجتمعت حول عكا أسوارها قوه تقدر ب١٦٠ ألف مقاتل وفي اليوم التالي لوصوله إلى عكا٫ نصب الاشرف المجانيق على أسوار المدينة وبدأ في فرض حصار عليها بداية من الخامس من شهر أبريل من عام ١٢٩١ للميلاد.

وخلال الحصار أمر الاشرف المجانيق الا تكف عن قصف المدينة بشكل يومي وأمر الرماة أن يمطروا المدينة بالسهام٫ وفي محاولة من الصليبيين لتخفيف الحصار٫ خرج فرسانهم من الأبواب يطلبون جنود المسلمين للقتال٫ إلا أن الجنود فوتوا عليهم تلك الفرصة ولم تنجح محاولات استدراجهم.

ومع تشديد السلطان الحصار٫ استمات فرسان الصليبيين في الدفاع عن المدينة ادراكاً منهم أن سقوطها يعني بالضرورة نهاية وجودهم في الشرق.

الا ان هذه المقاومة المستميتة بدأت تنهار رويداً رويداً خاصة بعد نجاح المجانيق المملوكية في تخريب حصون المدينة وأبراجها العسكرية.

وبعد ٤٤ يوماً من الحصار٫ أدرك الاشرف ان المدينة باتت آيلة للسقوط فآمر بشن هجوم شامل عليها وبالفعل هاجم المماليك الأبواب وسقط في أيديهم البرج المعروف باسم “البرج الملعون” ومع تساقط أنحاء المدينة في يد الجيش المملوكي٫ سادت الفوضى في أوساط الصليبيين وفر كل من الملك هنري الثاني واخوه الى المرفأ طلباً للنجاة تاركين فرسانهم لمصيرهم.

استمر القتال حتى اليوم التالي٫ وفيه طلب الفرسان الأمان لأنفسهم ولسكان المدينة من الأوروبيين فأمنهم السلطان الأشرف واستمر تحرير ابراج المدينة واحداً تلو الآخر على مدار ١٢ يوماً.

ومع اكتمال سيطرة الجيش المملوكي على المدينة صار الصليبيون “ما بين قتيل أو أسير او غريق” بل إن بعض سفنهم التي سعت للهروب غرقت بسبب الأعداد الهائلة التي كانت على متنها في حين تمكنت بعضها من الوصول الى قبرص.

أما من بقي من الصليبيين في المشرق فقد منحهم السلطان الأمان وبذلك انتهى الوجود الصليبي الذي استمر في المشرق لمدة قرنين من الزمان٫ خاصة مع قرار السلطان الأشرف بهدم اسوار عكا كي لا يستخدمها الاوروبيين في اي عدوان مستقبلاً.

وعمت الاحتفالات بهذه المناسبه كافة انحاء السلطنه٫ فدخل الاشرف دمشق في مايو من عام ١٢٩١ دخول الفاتحين وبسط أهلها الحرير أمام موكبه ثم وصل السلطان وجيشه القاهرة في أغسطس من نفس العام وكانت المدينة قد زينت لاستقبال الجيش المظفر وخرج سكانها من كافة الفئات لملاقاته في موكب ضخم.

أثبتت معركة عكا ان اصرار الامه على التحرير يثمر انتصاراًِ وإن طال الزمن وآن معركة استرداد الأرض والكرامة لا تنتهي بزوال جيل بعينه بل تتوارثها الاجيال حتى تحقيق مُراد الامه.

المصادر:

هاني حمزه – مصر المملوكيه – دار العين – القاهرة- ٢٠١٢

فلسطين تيسير الجندي – “الأشرف خليل بن قلاوون وسياسته الداخلية والخارجية”- رسالة ماجستير- جامعة الخليل- فلسطين- ٢٠١٣

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock