باتت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني دعوة ملحة ومكررة، رسميا ودينيا ونخبويا وعالميا، وليس مصريا أوعربيا فقط، وذلك منذ صعدت تلك القضية بقوة، في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، في إطار ما عُرف حينها بـ«حرب الأفكار»، وما عرف أيضا بـ«تجفيف منابع وروافد الإرهاب».
وتتعدد الأسئلة والمقترحات حول كيفية تجديد الخطاب الديني، وحول دور المؤسسة الدينية فيه؟، وهل لابد من تجديد كليهما معا، (فلا تجديد للخطاب الديني إلا بتجديد المؤسسة الدينية)؟، وصولا إلى الأسئلة الأكثر حدة من قبيل: هل المؤسسسة الدينية هي المنوطة بالتجديد وحدها؟ أم أنها عائقه الأكبر؟ وكيف يكون الرهان والدور والمطلوب منها في سبيل ذلك؟
من المهم في مستهل هذا المقال التأكيد على ضرورة استيعاب ومراجعة كل جهود التجديد الديني السابقة منذ بدايات النهضة، و المحاولات الإصلاحية السابقة والقريبة، والمشابهة سياقا وأزمة وطموحا وبحثا، حتى يمكن تحديد واستيعاب أسباب الفشل والنجاح فيها، وذلك من أجل وضع استراتيجية عامة لتجديد الخطاب الديني يمكن ترجمتها في سياسات ثقافية وعملية تقي -على الأقل -وتعالج وتشتبك مع كل ما لا نقبله من مفاهيم ومعان ومقولات تشكل وعي الناس الديني وخطابهم وممارساتهم المرتبطة به.
نقول بضرورة ذلك، لأن البقاء في الأبجديات منفصلة، لايصنع كلمات، وبالتالي لا يصنع مفاهيم تتسرب إلى حياة الناس، كما أن الجهد الطموح والملح يبقى -بطريقته التعليمية- جامدا غير حي، لا يشتبك مع تنظيمات التطرف ودعوات التشدد وحركاته العنيفة، التي تعمل برسالية عنيفة ومتحفزة في كل فضاء متاح، توظف فيه وعي العوام والفئات المستهدفة لها، وتوظفهم فيما بعد في أجندات عنيفة، أو تجمدهم عند عقليات مغلقة، تهدد كل المختلفين معها، وقد تنفجر فيهم يوما عند أي احتكاك مقصود أو عفوي. مع العلم أن كل الدعوات والتنظيمات والحركات الدينية والدعوية تريد وتسعى وتؤسس نفسها كمؤسسات بديلة للمؤسسة الدينية نفسها، وإن لم تعلن ذلك، وتحتكر الخطاب الديني، كما تدعى أصالتها الوحيدة، كون كل منها -كما يؤمن أتباعها- الطائفة المنصورة والفرقة الناجية وحدها.
ويعد هذا الإلحاح بشأن ضرورة تجديد الخطاب الديني، والموجود ليس داخل مؤسسة واحدة، دينية أو مدنية، بل ربما في كل المؤسسات، وفي كل الدول، تعبيرا عن مطلب مشروع، مع بقاء كل أشكال التطرف والتعصب والعنف والجمود والكراهية التي ترتبط بالوعي الديني، ويتحمل كثير من مصادر الخطاب الديني المتطرف المسؤولية عنها. كان بعض هذه المصادر صوتا محسوبا على مؤسسات دينية في فترات مختلفة، لكن الأغلبية من مصدري هذا الخطاب المشوه والتدين المنقوص، هم رموز وأبناء ومنظري التطرف المعاصر، بمراحله ومحطاته المختلفة.
تجديد الخطاب وإصلاح المؤسسة
ودائما ما يقع السجال والجدال عند طرح قضية تجديد الخطاب الديني، مثلما حدث مؤخرا في المؤتمر العالمي للتجديد في الفكر الاسلامي، والذي عقده الأزهر الشريف بالقاهرة علي مدار يومي 27 و28 يناير الماضي. ففي كثير من مثل هذه المناسبات، تُطرح العلاقة بين تجديد الخطاب الديني وبين إصلاح المؤسسة الدينية، والتي تتمثل في حالتنا، في الأزهر الشريف باعتباره المؤسسة الأكبر والأشهر إسلاميا، والتي تنقسم الآراء حولها، ما بين منتم محتكر لها، أو متحفظ على أدائها، أو متهم لها بأنها تعيق هذا التجديد.
وقد كان هذا الجدال حاضرا في المحاورة والمساجلة التي دارت بين شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وبين رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت بعد أن ألقى الأخير كلمته. فقد طرحت هذه المحاورة وما رافقها وأعقبها من جدل، السؤال مجددا عن العلاقة بين المؤسسات الدينية القائمة وبين مسألة التجديد الديني نفسه، حين أعلن الأستاذ الدكتور الخشت في كلمته أنه لا يرى أملا في هذه المؤسسات لتجديد الخطاب حيث قال: «أؤكد -مجددا- أن المؤسسات التقليدية لا يمكن أن تطور الخطاب الديني لأنها تستخدم اللغة القديمة بكل مفاهيمها، وتعيش في الصَدَفة (القوقعة) من داخلها، وهذه الصَدَفة نفسها لا تنمو». هذا الرأي استدركه -بعد تحفز وتحفظ – شيخ الأزهر، لتأتي التعليقات والمتابعات على ما دار بين الرجلين بشأن هذه العلاقة الإشكالية، كي تحصر مسألة تجديد الخطاب الديني في قضايا ظاهرية، دون أن تصل لمرادها والمأمول منها، وهو ليس فقط تجديد الخطاب الديني، ولكن أنسنة الممارسات الدينية وروحيتها، وتجديد الوعي الديني نفسه وتصفيته مما علق به أمراض.
دور المؤسسسة الدينية
بداية نؤكد على عدد من النقاط الضابطة والرئيسة في قضية تجديد الخطاب، وذلك حتى ينضبط الجدل حول هذه القضية، وبما يفتح افقا مرضيا بشأن المستقبل:
أولا: دور الأزهر أساسي وبدهي: إذ لا يمكن عزل ولا نفي مؤسسسة -أيا كانت هويتها- عن تجديد ومناقشة قضية تتعلق باختصاصها، لاسيما إذا كانت مؤسسة دينية، وهذا الشكل من المؤسسات هو الأقدم في التاريخ العالمي، ويزداد هذا التأكيد حين نذكر مؤسسات بعينها كالأزهر، ذات التاريخ والحضور في بلدان العالم الإسلامي الأخرى، أو وسط الجاليات المسلمة في الغرب.
ثانيا: شراكة المجال الديني: الشأن الديني والخطاب الديني شأن مشترك عام، لا يمكن احتكاره من جهة بعينها، فهو ملك الخاص والعام، الفردوالجماعة، الخطيب والمخاطب، المرأة والرجل، الديني والمدني، ومن هنا فإن محاولة بعض المنسوبين للمؤسسة الدينية- ليس في مصر وحدها- احتكار الحق في التجديد، لا يمكن قبوله ولا منطقته، خاصة وأن العلوم الدينية متاحة لغيرهم، كما أن الظاهرة الدينية ظاهرة اجتماعية ومركبة الأبعاد، ولا يمكن احتكار أحد لها. كما أن دافع الدعوات الراهنة لتجديد الخطاب الديني الذي يستهدف بالأساس مواجهة الحركات المتطرفة وأفكارها المركبة وخطابها، لا يمكن أن يقف أو يختزل في المؤسسسة الدينية التي تحاربها ولا تعترف بها، ولكنه يعني انفتاحا وشراكة بين الجميع، من أجل مواجهة هذا الخطر وتجاوز العطب والتشارك من أجل حماية الإسلام من تشوهات كثير من أبنائه. وهذا بدوره يستدعي الاستفادة من منظومات التراث ومنظومات الواقع، وتنوع المناهج وتكاملها، من أجل إحداث النقلة النوعية المطلوبة.
ثالثا: حدود سلطة المؤسسة الدينية: فالمؤسسة كلفظ وكمفهوم قانوني وحديث ظهر مع الدولة الحديثة، هي تلك التي تستهدف تنظيم الشأن الخاص بمجالها وحماية حقوقه المادية والمعنوية وأملاكه وأصوله وعلاقاته، لكنها في الشأن الديني وفي الإنسانيات عموما لا تملك الإلزام ولا تلزم بتقليد، لأن في هذا مزايدة على الحرية الفردية ووجدان الناس وأفكارهم وقناعاتهم فضلا عن اجتهاداتهم ورؤاهم. ولم يعرف أداء المؤسسة الدينية السنية، شرقا وغربا هذا الألزام أو التقليد، كما حدث مثلا مع المؤسسة الدينية الشيعية، حيث مفهوم المرجعية والتقليد الملزم للإمام المقلد، وحتى في هذه الحالة، فإن المرجعية هنا لا تشمل الشيعة كلهم، فكل مرجعية كبيرة لها أتباعها، وتتعدد داخل المجتمع الواحد المرجعيات ويختلف المقلدون.
لكن ذلك لا ينفي الارتباط بين إمام أو شيخ ومريد له في المجال السني، من داخل المؤسسة أو من خارجها، وكذلك يتأثر بها ولكن يكون خيارا وليس فرضا واضطرارا.
وفي الختام لابد من التأكيد على أن قضية الخطاب الديني، هي قضية نظرية في المقام الأول فضلا عن أنها تطبيق وممارسة أيضا، فنحن لا نتكلم عن نظرية وتطبيق، بل نتكلم عن خطاب يجمع بين النظرية والممارسة. إن قضية تجديد الخطاب الديني ليست مسألة نصوص ولا فتاوى فقط، لكنها الكل الديني باتساعه، بوعيه الاجتماعي والنفسي والإنساني، وبممارساته وسلوكياته، إنه اشتباك نظري ونقدي وتفكيكي عميق لكل ما يطرحه التطرف بأشكاله المختلفة.. القضية كبيرة وآن لنا أن نتجاوز أبجدياتها.