عرض وترجمة: أحمد بركات
مرة أخرى، ربما يتهيأ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للانتفاض والتعافي من هزيمته في قواعده الأصلية في العراق وسوريا. لكن، لحسن الحظ، لا يزال بالإمكان وأد هذه الانتفاضة في مهدها.
ففي العراق يشن تنظيم الدولة الإسلامية حربا نشطة ومميتة، لكنها تفتقد إلى القدرات التي كان يتمتع بها في أوج قوته في بداية عام 2015، كما أنها أقل بكثير من الحملة طويلة الأمد التي سبقت الصعود السريع واللافت للتنظيم في عام 2014، حيث تنحصر هذه الحرب بدرجة كبيرة في الهامش الريفي للبلاد، وتأتي في الوقت الذي يتسم فيه الأداء الأمني العراقي بالتطور وبكفاءة تفوق ما كان عليه منذ سنوات (إذا استثنينا العنف ضد المحتجين الذي عكر صفو حالة الهدوء النسبي التي سادت مؤخرا).
معاقل وعرة وعنف غير مكلف
ينشط تنظيم الدولة الإسلامية في الوقت الراهن بصورة أساسية بطول الشريط الريفي الذي يمتد عبر الثلث الشمالي للعراق من جنوب نينوى إلى شمال ديالى، بما في ذلك جبال حمرين ومخول. كما ينشط أيضا في صحاري الجزيرة والأنبار في الغرب، وفي جيوب متناثرة في أماكن أخرى من البلاد. وقد اتخذت وحدات التنظيم من أكثر الأماكن وعورة ملاذات لها، بما في ذلك الجبال والكهوف والصحاري النائية والحقول وبساتين الأنهار والجزر، إلى جانب القرى المدمَرة والمهجورة، حيث توفر هذه المناطق غطاء طبيعيا يسمح لمقاتلي التنظيم بالاختفاء نهارا والتحرك ليلا في مجموعات صغيرة، سواء سيرا على الأقدام أو باستخدام الدراجات النارية. ويعتمد أعضاء التنظيم في الإعاشة والتسليح على مخابئ للأغذية والأسلحة، بالإضافة إلى المؤن التي تصل إليهم من بعض المتعاونين. وفي الصحاري تختفي عناصر التنظيم في قواعد تحت الأرض، وتفيد تقارير أن بعض المسلحين يقطعون مساحات شاسعة في هيئة رعاة أغنام.
تتسم هذه المناطق بوعورة سطحها؛ مما لا يسمح لمركبات قوات الأمن باجتيازها، كما أن بعضها مكشوف إلى درجة لا تسمح لهذه القوات بالاقتراب دون أن ينتبه إليها المتمردون من مسافات بعيدة. ولا تخضع هذه المناطق لسيطرة القوات العراقية، وإنما فقط قد تكون محل مراقبة ومرور منتظم من قبل الدوريات الأمنية بهدف تمشيطها وتطهيرها.
وبسبب هذه الصعوبات التضاريسية، يتحول السكان المحليون إلى فريسة سائغة لوحدات تنظيم الدولة، التي عادة ما تتألف من خمسة إلى عشرة أفراد ينشطون في اختطاف أو ابتزاز المدنيين ليلا. «إنها مجموعات صغيرة لا تتعدى عشرة أفراد يعملون كقطاع طرق، حيث يقتلون السكان وينهبون الأموال من أجل دعم أنفسهم»، وفقا لمسئول أمني في محافظة نينوى. ورغم أن تنظيم الدولة لديه أموال طائلة تمكن من جمعها خلال الفترة التي بسط فيها هيمنته على هذه المدن، وأن بعض هذه الأموال مخبأ ٌسواء في داخل العراق أو خارجها، إلا أن الجماعة لا تبدو على الأرجح في حاجة إلى هذه الأموال في الوقت الراهن، حيث يبدو مستوى العنف الذي تمارسه غير مكلف ويمكن تمويله ذاتيا.
رسالة سياسية
وإضافة إلى أعمال السلب والنهب، تنحرط وحدات تنظيم الدولة أيضا في أعمال عنف تتخذ شكلا سياسيا، حيث يقوم أعضاؤها بتنفيذ عمليات قتل منهجية ضد ممثلي الولايات المحلية، بما في ذلك «المختارون» (رؤساء القرى) وأفراد قوات الأمن، وغيرهم. يبدو أن الهدف من هذه العمليات هو بالأساس إرهاب السكان المحليين، وحملهم على عدم التعاون مع قوات الأمن العراقية. كما يهاجم المسلحون الداعشيون أيضا نقاط التفتيش الحكومية، ويستهدفون عناصر قوات الأمن عن طريق القنابل التي يتم زرعها على جانب الطريق والأكمنة والقناصة.
وتأتي هجمات تنظيم الدولة في الغالب ضمن ما يطلق عليه «دعاية الفعل»، حيث ينطوي عنفهم على رسالة سياسية تستهدف فئات متعددة. فمن ناحية، تمثل اغتيالات «المختارين» نموذجا للعمليات التي تحمل قيمة وظيفية وأدائية. فالمختارون مسئولون عن معرفة سكان الحي أو البلدة، وإدارة تعاملاتهم مع الحكومة. كما أنهم يقومون أيضا بدور حلقة وصل رئيسة بين السكان وأجهزة الأمن العراقية، بما يعطي هذه الأجهزة رؤى ثاقبة لما يجري في داخل كل بلدة. ومن ثم، فإن قتل هؤلاء المختارين يمثل قتلا لعيون الدولة، وإرهابا للمدنيين. ومن ناحية أخرى، عمدت الجماعة إلى ’تضخيم‘ تأثير هذا القتل من خلال النشرات الإعلامية التي تبث أخبار هذه الحوادث، وتضمينها في أكثر من مناسبة لقطات مصورة لهذه العمليات، لتضمن بذلك ’مشاهدة‘ واسعة «للغزوات الليلية التي يضطلع بها مقاتلوها في الريف العراقي من قبل «الجماهير»، سواء في داخل العراق أو خارجها، بمن فيهم أعضاء تنظيم الدولة ومؤيديه».
ومنذ عام 2017، نفذ تنظيم الدولة عددا من العمليات المعقدة متعددة المراحل، مثل تفجيرات السيارات والهجمات التي تسفر عن إصابات جماعية واسعة النطاق، وغيرها من العمليات التي تتطلب شبكات لوجستية متطورة. وقد يشير إحجام الجماعة عن التضحية برجالها في الهجمات الانتحارية إلى محافظتها على قوتها البشرية.
ويبدو أن العديد من مقاتلي تنظيم الدولة النشطين مواطنون عراقيون، وعلى الأرجح من سكان المناطق التي ينفذون فيها عملياتهم. كما أن هناك عددا قليلا من الأجانب تبقوا في صفوف التنظيم وموجودون في العراق، إلا أن هؤلاء لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة بسهولة. أما المحليون فتتوافر لهم أسباب التكيف مع البيئة الطبيعية والبشرية، والدراية التامة بكل تفاصيلها مما يساعدهم على معرفة الأفراد الذين يمكنهم اللجوء إليهم وقت الحاجة، وأماكن الهروب والاختباء.
ويعتقد كثيرمن العراقيين الذين تم استطلاع آراءهم من قبل باحثي «مجموعة الأزمة» أن تنظيم الدولة يعاني في الوقت الراهن من حالة عجز شديد في ضم عناصر جديدة إلى صفوفه، رغم أن بعضهم أشار إلى المحاولات الدؤوبة التي يبذلها أعضاء التنظيم لهذا الغرض. وفي السياق ذاته أكد أحد المسئولين الأمنيين في كركوك أن خلايا تنظيم الدولة «لم تشهد فيما يبدو أي عمليات تجديد دماء بعد الغارات الجوية التي شنتها قوات التحالف»، ويعزو ذلك جزئيا إلى أنهم «لا يجندون، ولا يمكنهم بسهولة جلب تعزيزات من أماكن أخرى». وأضاف: «المجموعات التي تعرضت للقصف الجوي رحلت بهدوء. لقد عادوا، لكن ليس كما كانوا». كما يتكبد مسلحو تنظيم الدولة صعوبات بالغة في السفر لمسافات طويلة في الخفاء، رغم أنهم ربما يتمتعون بحرية حركة أكبر في الصحاري المفتوحة. وقد نجح بعضهم في التسلل إلى العراق عبر حدودها الصحراوية مع سوريا. ويبدو أن وحدات التنظيم على اتصال دائم وتنسيق فعال مع بعضها البعض، وتتبع تعليمات وإرشادات تأتي إليها من مستويات عليا؛ وتعد عمليات اغتيال المختارين نموذجا صارخا على ذلك. رغم ذلك، فهي تعمل بصورة مستقلة إلى حد كبير.
في انتظار اللحظة المناسبة
يستفيد تنظيم الدولة أيضا من فشل خصومه في التنسيق فيما بينهم، بما في ذلك بطول الحدود الداخلية المتنازع عليها بين بغداد الواقعة تحت السيطرة العراقية من جانب والمنطقة الكردية من جانب آخر. ويستغل التنظيم المساحات التي لا تخضع للحراسة بين القوات العراقية والكردية المتخاصمتين، وينطلق منها لشن هجماته في كلا الجانبين. وقد حافظت القوات الفيدرالية العراقية والكردية على بعض التنسيق فيما بينهما منذ أن قامت الأولى بطرد الثانية من المناطق المتنازع عليها في أكتوبر عام 2017، ومع ذلك فإن حالة انعدام الثقة لا يزال يتفاقم بقوة بين الجانبين، حيث يتهم المسئولون الأكراد بغداد بالسماح لتنظيم الدولة بنشر الفوضى في المناطق التي كانت مستقرة في السابق، بينما يقول بعض العرب والتركمان أن الأكراد هم من عمدوا إلى زعزعة الاستقرار في هذه المناطق لتبرير عودة قوات الأمن الكردية.
ومنذ عام 2017، بدا تنظيم الدولة غير قادر على التسلل إلى المدن العراقية الكبرى، بما في ذلك بغداد والمدن الأصغر مثل الفلوجة. ولا يعني هذا أن التنظيم قد توقف عن المحاولة؛ إذ يؤكد مسئولون أنهم أحبطوا العديد من المخططات التي تستهدف المناطق الحضرية. ومن الصعب نسبة العنف الذي وقع في المدن إلى تنظيم الدولة، بما في ذلك العديد من التفجيرات التي لم تعلن أي جهة مسئوليتها عنها في كل من الموصل وكركوك. ويشك كثيرون في أن منفذي هذه العمليات لا ينتمون إلى تنظيم الدولة، وإنما دفعهم إلى ذلك إرتكاب أعمال جنائية أو من قبيل التنافس السياسي المحلي. فالمدن العراقية مكدسة بالفاعلين المسلحين، وجميعهم قد يلجأ إلى العنف لأسباب مختلفة. وقد يهتم البعض بتضخيم دور تنظيم الدولة لأنه يمثل كبش فداء مقنع يمكنه أن يتخفى وراءه. رغم ذلك، توجد مخاوف ملحة من أن خلايا تنظيم الدولة تكمن في جميع أنحاء البلاد في انتظار اللحظة المناسبة.
(يُتبع)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا