فن

يحيا الفن المنحط.. الدولة وأغاني المهرجانات!

تبدو أغاني المهرجانات والصعود اللافت لنجوم هذا النوع من الفن القادم من الهامش، وما حققوه من مشاهدات ومتابعات مدهشة ومن ثم ثروات طائلة، واحدة من أكثر القضايا التي باتت تشغل اهتمام الناس ووسائل الإعلام، على الشاشات وفي الفضاء الالكتروني، وتثير الجدل والانقسام ما بين مؤيد لهذا النوع من الغناء ومدافع عن وجوده ضمن المشهد الفني العام، وبين معارض ومطالب بمنع ومصادرة هذا الغناء الذي يراه مفسدا للذوق العام للمجتمع.

وتحت عنوان «الدولة العجوز في مواجهة أغاني المهرجانات» أعدت الباحثة سارة رمضان ورقة بحثية حاولت من خلالها تسليط الضوء على ظاهرة أغاني المهرجانات، كظاهرة فنية وموسيقية جديدة على مصر، وموقف السلطة أو الدولة منها، والهجمة التي تتعرض لها من قبل العديد من الجهات الرسمية. كما حاولت تسليط الضوء على ما يتعرض له فنانو ومطربو الهامش من انتهاكات وإقصاء مستمر، وذلك اعتمادا على تحليل البيانات والتصريحات الصادرة عن جهات مثل نقابة المهن الموسيقية وإدارة الرقابة على المصنفات الفنية. كما تستعرض الورقة القوانين المنظِّمة لنقابة المهن الموسيقية وإدارة الرقابة على المصنفات الفنية، بهدف إيضاح البيئة القانونية الناظمة لممارسة الغناء في مصر.

يناير.. وأغاني المهرجانات

تشير الورقة إلى تاريخ نشأة أغاني المهرجانات، والتي ظهرت خارج إطار منظومة الإنتاج التقليدي، أو بمعنى أكثر تحديدًا دون حماية من الأُطر القانونية، التي رسختها الدولة على مدار عقود. لكنها تشير أيضا إلى أن هذا النوع من الغناء قوبل بهجوم واستنكار وإدانة واسعة من قبل العديد من الجهات في الدولة، رغم أنه يعد نوعا من الإبداع لا يجرمه القانون، ولا الدستور الحالي الذي يضمن حزمة من الحقوق والحريات، من بينها حرية التعبير والإبداع الفني. إذ تنص المادة (67) من الدستور على أن: «حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري».

وتتناول الباحثة سارة رمضان، وهي باحثة بمؤسسة حرية الفكر والتعبير في ورقتها، مراحل إنتاج أغاني المهرجانات في مصر، مشيرة إلى أن عملية إنتاج  تلك الأغاني تتم وتنتشر بمعزل عن منظومة الإنتاج التقليدي، حيث تتجاهل المهرجانات الأطر القانونية الناظمة ﻹنتاج الأغاني وتتمرد عليها. كما أن أغاني المهرجانات كانت قد نشأت بعيدًا عن سيطرة شركات الإنتاج التي تملك رأسمالًا كبيرًا.

ونتيجة لهذا التحرر من قيود القانون والإنتاج التقليدي، انتشرت المهرجانات وبات لها جمهور عريض من المصريين، وعلى الأرجح، تحقق هذا الانتشار بفضل الهامش الكبير من الحرية، كون المهرجانات لا تخضع لقيود الدولة، إضافة إلى ذلك، استفادت أغاني المهرجانات من التغيرات التي خلَّفتها ثورة 25 يناير 2011، وتحديدًا ازدياد الاعتماد على الوسائل الرقمية في تلقي الفنون.

عوائق قانونية

وتضيف الورقة أن أغاني المهرجانات، شأنها شأن أي مصنف سمعي آخر عليه أن يلتزم بعدد من القواعد تمر بعدد من المراحل تبدأ أولها من خلال نقابة الموسيقيين، والتي يشترط القانون على الفنان أن يكون مقيدًا بها أو حاصلًا على تصريح مزاولة المهنة لمرة واحدة ويكون هذا التصريح قابلًا للتجديد. كما يلزم القانون أيضًا الحصول على تصريح من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، وهو الجهة الوحيدة المسئولة بشكل قانوني عن المحتوى «كلمات الأغاني» في حالتنا هذه. 

وترصد الورقة العوائق القانونية التي تواجه فن المهرجانات، بما يؤثر على تمتعه بوضع قانوني، يحمي رواده من التنكيل والملاحقة. إذ تنص المادة (178) من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 على: «يُعاقَب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر أو صنع أو حاز بقصد الاتجار أو التوزيع أو الإيجار أو اللصق أو العرض مطبوعات أو مخطوطات أو رسومات أو إعلانات أو صورًا محفورة أو منقوشة أو رسومًا يدوية أو فوتوغرافية أو إشارات رمزية أو غير ذلك من الأشياء أو الصور عامة إذا كانت خادشة للحياء العام».

ولابد من الحصول على موافقة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية أولًا على أي منتج موسيقي أو غنائي، ثم موافقة نقابة الموسيقيين ثانيًا، وإلا أصبح من ينتهك هذين الشرطين معرضًا للحبس لمدة 3 أشهر، وفقًا للقانون رقم 35 لسنة 1978 المنظِّم للنقابات الفنية. ويتمثل دور المصنفات في كونها الجهة الوحيدة المخول لها قانونا الرقابة على الأعمال الفنية، بهدف التأكد من عدم مخالفة المنتج المقدم للآداب العامة، والنظام العام، ومصالح الدولة، وألا يحتوي على دعوات إلحادية أو عبارات بذيئة أو تشجيع على أعمال الرذيلة وتعاطي المخدرات أو ما يخدش الحياء بشكل عام قبل منح الترخيص له.

وتعتبر الورقة أن اشتراطات القيد بنقابة المهن الموسيقية أو الحصول على تصاريح مزاولة المهنة، هي أحد القيود على ممارسة الإبداع، خاصة عندما يتعلق الأمر بأغاني المهرجانات، حيث تتطلب عملية تقديم الطلبات إلى نقابة المهن الموسيقية وجود طلب رسمي من المبدع مرفقًا معه أصل الشهادة الدراسية الخاصة به أو صورة منها مصدقًا عليها من إحدى الكليات أو المعاهد الموسيقية المتخصصة، وصحيفة الحالة الجنائية، إضافة إلى إجادة القراءة والكتابة، واجتياز اختبار لجنة التقييم.

أزمة بيكا

وترى الباحثة أن الدولة من خلال ما تضعه من قيود أمام المبدعين تحاول  ضمان التحكم الكامل في المنتج الفني، إلا أن نموذج الإنتاج الذي اعتمد عليه فن المهرجانات في بعض مراحل تطوره وانتشاره كسر قيود هذه المنظومة وتمرد عليها، وحاول في سبيل تثبيت وجوده الالتفات إلى بدائل أخرى في سبيل الإنتاج والتواجد والانتشار، وهو ما جعل الدولة أكثر شراسة في مواجهته، فعلى سبيل المثال وجهت نقابة المهن الموسيقية، سلسلة من الانتقادات ضد مغني المهرجانات حمو بيكا. وبدأت النقابة حملة ضده، في مطلع نوفمبر 2018، بالتعاون مع الرقابة على المصنفات الفنية، ووزارة الداخلية، ونقابة المهن التمثيلية. وخلال شهر، تمكنت نقابة المهن الموسيقية من منع ست حفلات لبيكا في محافظات مختلفة، وكذلك تحرير محاضر ضده بدعوى إفساد الذوق ومخالفة القوانين، وذلك لعدم حصوله على التصاريح المختلفة. كما تمكنت النقابة  من إصدار قرار بمنع بيكا نهائيًّا من الغناء، ورفضت طلبه في الحصول على عضوية نقابة الموسيقيين.

حمو بيكا

وامتدت أزمة حمو بيكا إلى البرلمان المصري، حيث أحيلت طلبات إحاطة من نوابٍ إلى لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب، بشأن «ظاهرة إفساد الذوق العام والإسفاف والابتذال في الأغاني الشعبية وتأثير ذلك على المجتمع».

ولم تتوقف الهجمة ضد حمو بيكا وما يمثله بالنسبة إلى الدولة عند حد منعه من الغناء لكن تدخلت نقابة المهن التمثيلية بقيادة أشرف زكي لوقف تعاقد شركة السبكي للإنتاج الفني مع حمو بيكا، حيث أرسلت النقابة خطابًا شديد اللهجة إلى الشركة حذرت فيه الشركة من التعاون مع بيكا.

موقف نقابة الموسيقيين من حمو بيكا  يعكس – كما تقول الباحثة – الفلسفة التي تتبناها النقابة والتي تقوم على احتكار عملية الإبداع برمتها، وتضع ضوابط وشروطًا تضمن عدم خروج أي منتج إبداعي، دون تدخل النقابة في عملية إنتاجه. حيث طالب نقيب الموسيقيين هاني شاكر أكثر من مرة بضرورة عودة الضبطية القضائية، والتي كانت قد حصلت النقابة عليها سابقًا وألغيت بحكم المحكمة الدستورية، من أجل الوقوف فى وجه هؤلاء والتصدي لهم.. وهكذا، يتضح أن نقابة المهن الموسيقية تضع معايير أخلاقية ومحافظة للتعامل مع المبدعين بخلاف المعايير القانونية المعلن عنها والمتضمنة في اللوائح والقوانين التي تنظم عمل المهنة، وتنظر النقابة إلى فن المهرجانات والقائمين عليه بنظرة دونية رجعية، وتعمل في خطابها على شيطنته بدعوى تدمير الذوق العام والأخلاق والمجتمع والشباب. 

وترى الباحثة أن هذه النظرة الإقصائية إلى الإبداع تحول دون تلقيه كمُنتَج فني يحاول التعبير عما يجول في خاطر صاحبه، «ويميل هذا الاتجاه إلى تفكيك العمل الفني إلى كلمات يراها تحمل رسائل ضمنية. لذا تشعر الدولة بضرورة مواجهة هذه الرسائل، وتُنصِّب نفسها حكمًا للذوق العام، وتتعامل مع المتلقين كقُصَّر يجب توجيههم في اتجاه الرسائل، التي ترضاها هي سياسيًّا وأخلاقيًّا».

وتوضح الباحثة أنه لايمكن فهم كل هذه الممارسات ضد مغني المهرجانات دون النظر إلى محتوى هذه الأغاني والطريقة التي تخرج بها للجمهور، حيث يقدم بيكا نفسه دون مواربة أو اعتذارية على أنه ينتمي إلى طبقة معدمة، في منطقة عشوائية، بما تعبر عنه من ثقافة، وهو لا يستطيع القراءة أو الكتابة. يظهر حمو بيكا بصورة «فجة» أكثر مما تستطيع الدولة ونقابة الموسيقيين أن تحتمل، وبدرجة لا تقبل معها دمجه ضمن صفوف الفن الرفيع، الذي ترضى عنه الدولة. وربما هي تلك الإشكالية المتجددة حول الفن الذي يأتي من الهامش، وكلما كان هذا الهامش مسكوتا عنه رسميًّا، كانت الدولة أكثر رغبة في إقصائه.

https://www.youtube.com/watch?v=teS8Ze76HDg

لكن كلمات أغاني المهرجانات تمثل إحدى أهم المشكلات عند الموسيقار حلمي بكر وغيره من المعارضين لتلك الأغاني، فهي بحسب ما يقول: «مفردات مش بتاعتنا اخترعتها فئة العشوائيات». يقدم حمو بيكا ومجدي شطة إذًا بحسب حلمي بكر مفردات خلقتها فئة عشوائية، قد يكون مسموحا لها على مضض الظهور ضمن «الأفراح البلدي»، داخل هذه المساحة الضيقة التي أفرزتها فقط، لا أن تتبناها نقابة الموسيقيين أو تخرج لأي مساحات أوسع. ووفقا لرؤية حلمي بكر ومن معه في هذا الموقف، لا يجوز إعطاء أصحاب هذه المفردات صوتًا أو أن تفرد لهم مساحة، «فهم مجرد «ظواهر» غير مفهومة تشير إلى تدني المجتمع وقيمه، ولذلك يجب أن يمايز خطاب الدولة بين هذه المفردات، وبين ما تتبناه الدولة والمهن الموسيقية وترضى عنه من فن». 

ترى الباحثة أنه، وعلى الرغم من تلك النظرة الدونية التقليدية من قبل قنوات الدولة الرسمية والمعبرين عن خطابها، لم يستطع السوق بمنطقه الربحي، تجاهل المهرجانات طويلًا. وسرعان ما تم إدماجها في الإعلانات، ووُظفّت أغاني المهرجانات في الأفلام وتترات المسلسلات.

الفن والحرية

وتشير إلى الجدل والانقسام الراهن حول أغاني المهرجانات وماتقدمه من فن، يعيدنا بالذاكرة إلى ما حدث في مصر في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، حين أصدرت جماعة من الفنانين والمثقفين أطلقت على نفسها  اسم «جماعة الفن والحرية» بيانا عام 1938 بعنوان «يحيا الفن المنحط»، وذلك ردا على محاولات إقصاء ومنع الأشكال الجديدة من الفنون وقد جاء في هذا البيان: «من المعروف أن المجتمع الحاضر ينظر بعين الاشمئزاز إلى كل خلق جديد في الفن والأدب، طالما يهدد النظم الثقافية التي تُثبِّت قَدَم المجتمع، سواء أكان من ناحية التفكير أو من ناحية المعنى. ويظهر هذا الشعور بالاشمئزاز جليًا في البلاد الأوتوقراطية النزعة، وخصوصًا في ألمانيا، حيث يتجسم التعدي الشنيع ضد الفن الحر الذي دعاه هؤلاء الغشم»: «الفن المنحط».

وقد كان هذا البيان – كما تقول الباحثة – تعبيرا عن موقف مضاد للفاشية الصاعدة بقوة، وقيم البرجوازية المحافظة وتقاليد الفن حينها، والتي مثلتها طبقة الأفندية. كما مثل البيان انتصارًا لقيم التجديد في الفن والأدب. غير أن الوضع الحالي – كما ترى الباحثة – هو وضع شديد التأزم بالقدر الذي يجعل الجماعة الثقافية الموجودة في صدارة المشهد خاضعة بدرجة كبيرة للسلطة الحالية وتوجهاتها فيما يخص الإبداع.

وتختتم الباحثة ورقتها بالقول إن حراس الأخلاق والتقاليد لا يدركون أنه على الرغم من التضييقات المتزايدة، فإنهم لن يصبحوا قادرين على الوصاية الأخلاقية على الفن، ولن يستطيعوا استمرار حجبه طويلًا عن الجماهير، التي يبدو أنها راغبة في الوصول إليه. 

*للإطلاع على الدراسة من هنا

شحاتة عوض

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock