عرض وترجمة: أحمد بركات
يقول «جون أدامز»، الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأمريكية: إن «الديمقراطية لا تعيش طويلا؛ فهي سرعان ما تتبدد ذاتيا وتقتل نفسها. لا توجد أبدا ديمقراطية لم تنتحر».
جون أدامز
يمتلك كل عصر مجموعة من المعتقدات المهمة، التي ترتفع رويدا إلى مراتب القداسة، حيث تغدو مجرد مناقشتها ضربا من الهرطقة. وفي دول كثيرة في النصف الغربي من العالم بلغت العقائد المسيحية هذه المكانة. لكن على مدى القرون الماضية تراجعت المسيحية، وحلت محلها عقيدة جديدة، حيث سرت في العقل الغربي دوجما الديمقراطية باعتبارها «نهاية التاريخ»، أو الشكل النهائي والأبدي للحكم.
لقد تعلم الأطفال في هذه الدول الغربية منذ نعومة أظفارهم أن الحكم الديمقراطي يفوق بكثير جميع أشكال الحكم السابقة عليه، وأنه منبع الخير الذي يتقلب فيه الغربيون على مدى قرون عديدة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة هو «هل الديمقراطية حقا رائعة كما جعلونا نعتقد؟»
مثالب الديمقراطية
يختبر الفيلسوف وعالم الاقتصاد الأمريكي من أصول ألمانية «هانز هيرمان هوبه» حقيقة ’المجد الديمقراطي‘ في كتابه From Aristocracy to Monarchy to Democracy: A Tale of Moral and Economic Folly and Decay (من الارستقراطية إلى الملكية ثم إلى الديمقراطية: قصة حماقة وانهيار أخلاقي واقتصادي). ويخلص إلى ما يعتبره كثيرون مروعا: «الديمقراطية ليست فقط معيبة، ولكنها أيضا متدنية إذا ما قورنت بالحكم الملكي السابق عليها». في هذا السياق يجب التشديد على أن هوبه لا ينظر إلى الحكم الملكي باعتباره الصيغة الأمثل للحكم، ولا يرغب في أن تعود عقارب الساعة السياسية إلى الوراء عندما كان حكم البلاد رهنا بالملوك والملكات، ولكنه يشير فقط إلى أنه أرقى وأفضل بكثير من الحكم الديمقراطي.
ينتمي هوبه إلى طبقة الرأسماليين الأناركيين (الفوضويين)، ومن ثم فهو يعتقد بأن أفضل صور الحكم هي تلك التي تقوم على حقوق الملكية الخاصة حيث تضطلع السوق الحرة بالأعمال النظامية والقضائية. رغم ذلك، لن نركز في هذا المقال على هذا الملمح من فكر هوبه، وإنما بدرجة أكبر على نقاشاته حول عيوب ومثالب الديمقراطية. أما أولئك المهتمون بمعرفة الطرائق التي تقدم السوق الحرة من خلالها – بحسب هوبه – الخدمات الأمنية فيمكنهم الرجوع إلى كتابه The Private Production of Defence (الصناعة الخاصة للأمن).
قد يرى البعض أن تصور هوبه عن الديمقراطية يمكن رفضه جملة وتفصيلا لأنه على مدى القرون العديدة الماضية، التي ترعرع فيها الغرس الديمقرطي في التربة الغربية، ازدادت الثروات وانتعشت الحالة الاقتصادية على نحو غير مسبوق. ولا ينكر «هوبه» هذه الحقيقة، لكنه يفندها بحقيقة أخرى مفادها أن التزامن لا يعني السببية، وأن هذا الارتفاع غير المسبوق في الثروة لا يجب نسبته إلى الديمقراطية، وإنما إلى عوامل أخرى مثل الثورة الصناعية وانتشار الأسواق الحرة.
في هذا السياق، يقدم كتاب هوبه نقاشا علميا يتعلق بأفضلية النظام الملكي على نظيره الديمقراطي، وذلك من خلال عدد من الانتقادات المنهجية التي يكتفي هذا المقال بعرض ثلاثة منها.
يتمثل أول عيوب الديمقراطية عند هوبه في جانب تنظر إليه الغالبية الغالبة – على سبيل المفارقة – باعتباره إيجابيا، وهو أن الديمقراطية تسمح بالولوج الحر إلى النظام السياسي، وهو عكس الحكم الملكي الذي يقصر هذا الحق على عائلة بعينها، وأولئك الذين تربطهم بالملك علاقات شخصية.
في كتابه، يشرح هوبه الأسباب التي تجعل من هذا ’الولوج الحر‘ ملمحا سلبيا، قائلا:
«المنافسة في إنتاج السلع هي فقط ما يمكن أن يُعد أمرا حميدا. أما التنافس على فرض الضرائب وسن القوانين التمييزية – من بين أشياء أخرى – فلا يمكن أن يكون عملا جيدا على الإطلاق؛ إنه شر محض… الرؤساء ورؤساء الوزراء يصلون إلى مناصبهم ليس بفضل انتمائهم الطبيعي (الوراثي) الأصيل إلى الطبقة الارستقراطية كما كان الحال عند الملوك الإقطاعيين، وإنما بفضل مواهبهم وملكاتهم كديماجوجيين لاأخلاقيين؛ ومن ثم فإن الديمقراطية – على المستوى العملي – تضمن في نهاية المطاف صعود الرجال الخطرين فقط إلى سدة الحكم ومقاعد السلطة».
«إضافة إلى ذلك، في ظل الحكم الديمقراطي يتلاشى التمايز تماما ونهائيا بين الحكام والمحكومين. وقد يبلغ الوهم حد الاعتقاد بأن هذا التمايز غير موجود بالأساس، وأنه في ظل الحكم الديمقراطي لا يحكم أحد أحدا، وإنما يصبح كل فرد حاكما على نفسه. ومن ثم، تضعف المقاومة الشعبية تلقائيا ضد السلطة».
تمثل هذه الضبابية في الفوارق بين الحكام والمحكومين في الديمقراطيات ثاني أكبر العيوب التي يشير إليها هوبه، حيث يؤدي اختفاء التمايز بين هاتين الطبقتين – كما يبين الاقتباس السابق – إلى ضعف المقاومة الشعبية ضد السلطة. وما يزيد الوضع سوءا هو أنه في ظل الحكم الديمقراطي يتوهم المحكومون أنهم المسئولون بالأساس، أو ربما الوحيدون، ومن ثم تصبح قدرتهم على التأثير في الحكومة محدودة للغاية.
في الديمقراطيات أيضا تتشكل طبقة يطلق عليها هوبه «البلوتوقراطيون»، وهم المسيطرون الحقيقيون على السلطة. ويتسم البلوتوقراطيون بأنهم نافذون ولديهم قدرة مطلقة على تنفيذ ما يريدونه لأن الجماهير تكون ثملة بوهم الاعتقاد بأن أصواتهم هي ما يحدد مسار الأحداث. إن القدرة على التصويت في الديمقراطيات عند هوبه تقوم بدور المخدر الذي يمنع الجماهير من توجيه غضبها ضد المسيطرين الحقيقيين على السلطة (البلوتوقراطيون). أما في الأنظمة الملكية فالمسئول الحقيقي معروف وواضح، وعندما يتجاوز الملك أو الملكة حدوده يعلم الشعب جيدا من يحملونه المسئولية.
ويفصل هوبه كيف يعمل هؤلاء البلوتوقراطيون على النحو التالي:
«تفرز الديمقراطية نخبة أو طبقة حاكمة جديدة. ويمثل الرؤساء ورؤساء الوزراء ورؤساء البرلمانات وقادة الأحزاب السياسية جزءا من هذه النخبة … لكن من السذاجة أن نزعم أن هؤلاء هم الطرف الأقوى والأكثر نفوذا من الجميع … إن النخبة الحاكمة الحقيقية – التي تقرر وتتحكم في من ستجعله رئيسا أو رئيسا للوزراء أو قائدا للحزب – هم البلوتوقراطيون».
«البلوتوقراطيون ليسوا ببساطة طبقة ’السوبر ريتش‘ (فاحشو الثراء) من كبار المصرفيين وأصحاب الشركات والمصانع العملاقة، وإنما هم مجرد طبقة فرعية عن هؤلاء. إنهم كبار المصرفيين ورجال الأعمال فاحشو الثراء الذين خبروا الإمكانات الهائلة للدولة كمؤسسة يمكنها فرض الضرائب وتمرير التشريعات التي تخدم مصالحهم وتضمن لهم مستقبلا أكثر ثراء، والذين قرروا – بناء على هذه المعرفة – أن يقحموا أنفسهم في اللعبة السياسية. إنهم يعلمون جيدا أن بإمكان الدولة أن تجعلك أكثر ثراء مما أنت عليه، سواء من خلال دعمك ماليا، أو منحك عقودا للتجارة معها، أو تمرير قوانين تسبغ عليك حمايتها من المنافَسات أو المنافسين الذين قد يضرون بمصالحك الخاصة؛ ولذلك يقررون استخدام ثرواتهم للسيطرة على الدولة وتوظيف السياسة من أجل تحقيق مزيد من الثراء».
الحرب بأقنعة أيدولوجية
أما العيب الثالث في الديمقراطية – من وجهة نظر هوبه – فيرتبط بالتأثير المريع الذي يتركه الحكم الديمقراطي على طبيعة الحروب. كما ذكرنا آنفا، يبادر المدافعون عن الديمقراطية إلى نسبة كل الأشياء الجيدة التي حدثت في الغرب على مدى القرون الماضية إلى صعود الديمقراطية، لكنهم قلما يبحثون التغيرات الجذرية التي طرأت على طبيعة الحروب في الفترة نفسها. في هذا السياق يرى هوبه أن الديمقراطية قد أسهمت في واقع الأمر في ظهور مفهوم الحرب الشاملة التي تُعرّفها «موسوعة بريتانيكا» بأنها «صراع عسكري يبدي فيه المتحاربون استعدادا تاما للتضحية بالأرواح وغيرها من الموارد في سبيل تحقيق انتصار ساحق». ويفسر هوبه ذلك على النحو التالي:
«لقد حولت الديمقراطية – بصورة دراماتيكية – الحروب المحدودة التي كان يشنها الملوك إلى حروب شاملة. فمع اختفاء كل أشكال التمايز بين الحكام والمحكومين، تعزز الديمقراطية حالة التماهي الكامل بين الجماهير والدولة. وبمجرد أن تصبح الدولة ملكا للجميع – كما يروج الديمقراطيون إفكا وزورا – يصبح من الإنصاف أن يقاتل الجميع من أجل دولتهم، ويتم حشد جميع الموارد الاقتصادية للبلاد لخدمة الحروب التي تخوضها الدولة. وبالنظر إلى أن المسئولين في الدولة الديمقراطية لا يمكنهم أن يصرحوا برغبتهم في ضم أراض أجنبية لصالحهم (على عكس ما كان يفعله الملوك)، فإن الدافع إلى الحرب يتقنع بطابع أيديولوجي، ويرفع شعارات رنانة من قبيل المجد القومي والديمقراطية والحرية والإعمار الحضاري والنزعة الإنسانية. وتكتسب أهداف الحرب مزيدا من الهلامية والتضليل، مثل الانتصار للأفكار والاستسلام غير المشروط والتحول الأيديولوجي في جانب الطرف الخاسر (لأن أحدا لا يمكنه التحقق من صدق هذا التحول، فإن تحقيق ذلك الهدف قد يتطلب تنفيذ عمليات قتل جماعي بحق المدنيين). وبالمثل، يختفي أي تمايز بين المحاربين وغير المحاربين في ظل الديمقراطية، وتصبح المشاركة في الحرب الشاملة (الحشد للحرب الشعبية والحرب الاستباقية، وكذلك الأضرار الناجمة عن تلك الحروب) جزءا من الاستراتيجيات العسكرية».
ليس ما سبق سوى نماذج قليلة من الحجج التي ساقها هوبه لتعضيد رأيه حول قصور الديمقراطية مقارنة بالملكية. وبينما قد يرفض كثيرون هذا الرأي فقط بسبب جدته وطبيعته «الابتداعية»، إلا أن التعمق في مدارسة أعمال هوبه قد يدهشهم بما تجود به من أفكار.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا