من هو الآخر في عقلية المتصوفة؟ كيف تشكلت صورته تاريخيًا؟ كيف يتعاطى المتصوفة معه؟ وما هي القوى الاجتماعية التي ينحاز لها المتصوفة في مواجهة هذا الآخر؟ ولماذا تلك القوى بالذات؟
إن التجربة الذاتية للمتصوف تجعل من جمع كل المتصوفة في بوتقة فكرية وإيديولوجية واحدة تؤلف بين جماعاتها وأفرادها عبثًا لاطائل منه. لقد كان للظروف والمراحل التاريخية السياسية المختلفة، فضلًا عن الكارزمة الشخصية لأقطاب التصوف ورجالاته الفضل في وجود تمايزات فكرية وعقدية وإيديولوجية بين المتصوفة.
إذا كانت التراكمات التاريخية للممارسات الطقسية والتجارب الذاتية والذوقية لرواد التصوف وأتباعه، قد أفرزت في السابق تعرجات واختلافات عقدية وفكرية بين الطرق الصوفية وداخل الطريقة الواحدة، فإن الواقع المعاش – تاريخيًا – وفقا لمفهوم الفعل العقلاني الغائي لدى فيبر – يشهد بأن المصالح الشخصية الضيقة لمشايخ التصوف وقادته قد أملت الاختلاف والتمايز بين المتصوفة علي الساحة المصرية.
الآخر عند الصوفية
لم تؤد تلك التراكمات التاريخانية والممارسات الطقسية والتجارب الذاتانية للمتصوفة فقط إلى التشظي الفكري الذي مُنيت به الحركة الصوفية تاريخيًا، ولكنها أيضًا أدت إلى تغيير البنية الذهنية لاتباعها ومريديها فيما يتصل بصورة الآخر لديهم، وتحديد هذا الآخر، وطرق تعاطيهم معه.
ومن هنا فقد خضعت صورة الآخر عند المتصوفة للعديد من أشكال التفاعل والتذبذب والتنوع بين القبول والرفض، وتأثرت بالظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية التي عايشتها المجتمعات التي عاشوا في كنفها، فلم تكن تلك الصورة ثابتة وموحدة نتيجة لاختلاف هذا الآخر وتباين طرق وأساليب تعامله مع الذات الصوفية.
وحسب ذلك، فإن هذا الآخر هو ما اتخذته الذات الصوفية باعتباره مخالفاً لها فكريًا أو إيديولوجيًا أو عقديًا، ومن ثم فالآخر هنا بحسب تأويلنا هو الجماعات الإسلامية الحركية أو ما يدعي بالإسلام الحركي، وكذلك الجماعة الشيعية أو المذهب الشيعي، فضلًا عن الجماعة المسيحية في مصر، ناهيك عن الجماعات والطرق الصوفية الأخرى.
لقد اختلفت وتباينت المواقف التي اتخذتها الصوفية مع هذه الجماعات وفقا لطرق تعامل هذه الجماعات معها، فتارة تتخذ مواقف متشددة ورافضة لهذه الجماعات وتارة تؤيدها وتساندها وتتصالح معها.
وعن علاقة المتصوفة بالآخر الإسلامي (أقصد الجماعات والأحزاب السياسية ذات الجذور الإسلامية خاصة الإخوان المسلمين والسلفيين والجماعة الإسلامية وتمظهراتهم السياسية)، فإن الخطاب الذي تطرحه الصوفية ما هو إلا دفاع عن الذات وإقصاء للآخر الإسلامي الذي يشاركها الأصل والمنشأ أو قل يشاركها الرأسمالي الثقافي أو الرمزي الإسلامي.
يحاول هذا الآخر إنتاج تأويلات مناهضة لأسس التصوف وتعاليمه خاصة ما يتعلق منها بالفلسفة الصوفية القديمة للمتصوفة الأُول، مستخدما في ذلك النصوص الإسلامية المقدسة (القرآن والسنة) أي الرأسمال الثقافي الإسلامي نفسه لنفي التصوف وإقصائه، ومن ثم محاولة احتكار المجال الديني، فضلاً عن الرأسمال الرمزي والثقافي الإسلامي.
إنه حسب ذلك، فإن الاستغلال الإيديولوجي للرأسمال الرمزي يُمكِّن الجماعات التي تمتلكه من إدماج الوعي الجمعي للمواطنين في نسقها، وبالتالي تحويله إلي رأسمال اجتماعي يدعم مشروعيتها في التحكم في مقدرات المجتمع، أو قل أن احتكار مجال المقدس يعد مدخلا نحو الانفراد بحق الهيمنة الدينية ومن ثم السياسية باعتبار أن السلطة الدينية والسياسية توأمان ملتصقان.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن المتصوفة بدخولهم الصراع السياسي خصوصًا في الآونة الأخيرة، يحاولون ممارسة نفس الفعل المتمثل في محاولة إنتاج تأويلات مناهضة للآخر الإسلامي مستخدمين نفس المصادر المقدسة أو قل إنهم يمارسون عنفًا رمزيًا – بمفهوم بورديو- موجهًا بصورة مباشرة نحو الآخر من أجل الهيمنة علي مقدرات وجوده وإبعاده إلي دائرة الصمت.
إن نتائج هذا العنف الرمزي السياسية تقود حتماً إلي حالة من التمترس الثقافي وشيوع حالة من المذهبية والطائفية في المجتمع، ذلك ما قد ينجم عنه مشاعر الحقد والكره والنقمة التي تقود حتماً إلي العنف المادي بغرض إنهاء الآخر وإهلاكه.
إنه حسب ما سبق، فإن تأمل الاستخدامات العملية للعقائد والطقوس والرموز من قبل الجماعات الدينية- كما يُشير محمد امباركي في مقاله حول الدين السياسي ونقد الفكر الديني – يشير إلي مجموعة التحالفات والصراعات التي تمارسها تلك الجماعات ضد معارضيها أو مع حلفائها. إذن فإن الصراع حول مشروعية الانتماء أو لا مشروعية الانتماء إلي المقدس واحتكاره يعبر في جوهره عن ممارسات سياسية لصراع سياسي محوره السلطة السياسية، أو قل إنه تديين للخطاب السياسي بهدف كسب دعم شعبي وقوة مادية وروحية ضاغطة، لأن في منطق هذه الممارسات المسكوت عنه – الادعاء بأحقية الوصاية علي المقدس. ومن ثم فالأمر بمثابة تدشين لوصاية علي المجتمع بأسره وهيمنة مطلقة عليه، ومن ثم يسعي كل من المتصوفة ورواد الجماعات الإسلامية إلي محاولة احتكار المقدس ونفي الآخر المشارك له فيه.
اقرأ أيضا:
كيف وُظّفت الصوفيةُ سياسيا في الصراعات الدولية؟
أشكال من التقارب
وإذا كان ذلك هو موقف الصوفية من الجماعات الإسلامية علي الساحة السياسية المصرية، فإن علاقتهم بكل من الشيعة والأقباط وكذلك القوى الليبرالية والعلمانية تقوم علي أساس التسامح والتصالح والقبول والإسناد كل منهم للآخر.
فعن علاقة التصوف بالشيعة والمذهب الشيعي، أثبتت دراسة ميدانية -أجراها الكاتب عام 2015- وجود علاقات قوية تربط المتصوفة بالشيعة سواء في مصر أو في إيران، تقوم علي الدعم والتأييد، ذلك ما أثبتته -كذلك- بعض التقارير والإحصاءات الأمنية، حيث تشير إلي وجود أنشطة موسعة لأقطاب المذهب الشيعي في مصر، مثل أحمد راسم النفيس والطاهر الهاشمي أمين مشيخة الطريقة الهاشمية بمحافظة البحيرة، تستهدف الترويج للمذهب الشيعي، وذلك تحت ستار حزب التحرير وهو حزب شيعي تحت التأسيس بقيادة راسم النفيس الشيعي المعروف.
أحمد راسم النفيس، الطاهر الهاشمي
ربما يمكننا إسناد هذه العلاقة وهذا التأييد والمساندة بين التصوف والتشيع إلى التشابه بينهما في العقائد والأفكار، حيث يشتركان في أفكار مثل فكرة الإمامة عند الشيعة والولاية عند الصوفية وكذلك في معتقدات الاتحاد والحلول ووحدة الوجود وغيرها، وهذا ما تؤيده دراسة فلاح بن إسماعيل بن أحمد المعنونة بـ «العلاقة بين التصوف والتشيع».
وربما كانت محاولة إيران إعادة المجد للإمبراطورية الفارسية من خلال المد الشيعي داخل المنطقة العربية والإسلامية، هي ما جعلتها تلتقي بحليف قديم وهو التصوف في مصر، ومن ثم حاولت استقطابه وتجنيده لتحقيق أهدافها في السيطرة علي المنطقة وعلى أكبر دولة عربية سنية وهي مصر، من خلال زرع نواة لها فيها تستطيع تحريكها كيفما شاءت.
وإذا كانت العلاقة بين التصوف والتشيع جاءت مدفوعة بالمبادئ والمعتقدات المشتركة بينهما وكذلك برغبة الدولة الإيرانية في خلق حليف لها في مصر -كما في دول عربية أخرى- فإن العلاقة بين التصوف والأقباط في مصر قائمة هي الأخرى علي التحالف والدعم القائم علي وجود بعض المعتقدات والعادات المشتركة بينهم أيضًا؛ أهمها فكرة التثليث عند ابن عربي، ولبس الصوف الخشن ونظرية الحب الإلهي، وعلي ذلك كان الدعم الصوفي للأقباط في مصر باعتبارهم أقلية وتمثل هذا الدعم في إقامة الرابطة المصرية بهدف الدفاع عن حقوق الأقباط بعد تعرضهم للعنف والتحرش السياسي من قبل بعض الجماعات الإسلامية المتشددة.
يتفق تحليلنا هذا مع ما طرحه صابر سويسي في دراسته «صورة الآخر في التراث الصوفي» حول أشكال التقارب بين المتصوفة والآخر المخالف، حيث يري أن التصوف ينفتح علي نصوص الآخر -كما على الآخر أيضًا- ويستثمرها، وكأنه بذلك يسعي إلي امتصاص العداوة وتخفيف حدتها وإذابة الفوارق باستدعاء النصوص المشتركة وتأكيد وحدة المعبود وإعلان القطع مع الرسوم وإثبات أوجه الشبه، ومن ثم كان الآخر المخالف عنصرًا أساسيًا في وعي الصوفي بذاته وإدراكه لموقعة ودوره في الوجود.
أما إذا ما انتقلنا إلي علاقة التصوف بالقوي الليبرالية والعلمانية والاشتراكية علي الساحة السياسية المصرية، سنجدها علاقة ناعمة تشير إلي قدرة التصوف علي الاحتواء، وكذلك دعمه المتواصل لهذه القوي. تمثلت قدرة التصوف على احتواء الآخر المختلف وغير المتجانس في تجميع هذه القوي معًا في إقامة فاعلية سياسية إبان أحداث ثورة 25 يناير 2011، وكانت هذه الفاعلية هي جمعة في حب مصر في 12 أغسطس 2011، والتي شارك فيها ثلاثون حركة وحزب سياسيا شملت كافة الاتجاهات السياسية في المجتمع، فضلًا عن دعم التصوف لهذه القوي وتأييد مواقفها ضد ما يُدعي بالإسلام السياسي غداة الثورة.
نفي واستبعاد
أما عن العلاقات الصوفية الصوفية علي الساحتين السياسية والدينية فهي امتداد للعلاقات الصوفية الإسلامية، فإذا كانت الأخيرة تقوم علي الإقصاء والإبعاد من خلال تأويل مغاير للنصوص المُقدسة، فإن الأولي تقوم هي الأخرى علي النفي والاستبعاد، حيث تحاول كل قوة من القوي الصوفية (سواء أكانت حزباً أو طريقة) نفي الآخر، علي اعتبار إنها تمثل الطريق الأوحد إلي الله، ومن ثم تُعين نفسها وصية عليه، ومن ثم تحاول كل من الطرق الصوفية أن تطرح ذاتها بديلاً للآخر، محاولة بذلك الاستئثار بالرأسمال الرمزي الصوفي وتعيين ذاتها حارسًا له ومدافعاً عنه؛ إنها لعبة المصالح.
إن ما مُنيت به الحركة الصوفية في مصر -خصوصًا عقب يناير 2011- يكشف عن حالة من الانشطار والتشظي أصابت تلك الحركة تمثلت في نشوء ثلاثة أحزاب سياسية ذات مرجعية صوفية، ناهيك عن ظهور العديد من الدعوات علي شبكات التواصل الاجتماعي لتأسيس أحزاب وائتلافات وحركات سياسية أو قل طرق صوفية افتراضية، ومن ثم يمكننا القول بأن الصوفية قد انفرط عقدها مُشَكِّلةً قوي متباينة ومتناحرة علي احتكار المجال الصوفي.