نقلا عن: صفحة الكاتب على الفيسبوك
تواجه الإنسانية في كل أنحاء العالم ولأول مرة أزمة حقيقية تتلخص في الخوف من شبح الموت الذي يحيط بالبشر من كل جانب. والشعور العام السائد علي كوكب الأرض يتمثل في وجود خطر من عدو لا نراه بأعيننا ومطلوب منا، بلغة العلم الحديث، أن نصدق وجوده وأن نعتقد يقينا في قوته وقدرته الهائلة علي اصطياد أرواحنا دون أن ندري. يحدث ذلك في أجواء تذكرنا بما كانت عليه حياة أجدادنا حين كانت حياتهم مرهونة بالانصياع والخوف الوجودي وسعيهم الدؤب لاسترضاء سكان العالم الغيبي من الآلهة والعفاريت والجن.
اليوم يعود من جديد الخوف الأسطوري الذي سيطر علي الحياة البدائية قديما، ولكن الجديد هذه المرة هو الخوف من كائنات جديدة يطلق عليها الفيروسات. هذه الكائنات لا نراها وعلينا أن نخشاها علي نحو يشبه الخوف من الكائنات الخرافية القديمة التي امتلأت بها الأساطير والحكايات الشعبية الخرافية. وكما كانت العقلية الأسطورية فيما مضي ترتب درجة الشعور بالخوف بحسب قوة ومنزلة الكائنات الخرافية في نفوس الناس الضعفاء،فإننا اليوم أصبحنا محاصرين بالهلع الأسطوري من أكثر الفيروسات فتكا بالبشر، فيما يعرف بكرونا، ذلك المارد الجديد، الذي حول حياتنا إلي سجن كبير، دون أن نعرف كيف نتغلب عليه، ولا السبيل الي النجاة منه سوي العزلة والكف عن كل صور التفاعل الإنساني الحي والمباشر، والوقوع في غابة من الشك والحذر والوساوس القهرية. ونظل كالفئران مختبئين بين جدران بيوتنا انتظارا للمجهول والتماسا لزوال الغمة. إنه انتظار المحنة الوجودية، والوقوع في لحظة شعورية سائلة وحلقة مفرغة من القلق علي الحياة لانهاية لها. وبقدر ما يمكن لظروف الخوف السائدة أن تشكل فرصة حقيقية لدي بعض الأمم لمزيد من الاهتمام بالعلم وإعادة ترتيب الأولويات لحماية الحياة وتحقيق السعادة الإنسانية، يمكن لفوبيا الخوف من المجهول أيضا أن تكون سببا في مزيد من التعاسة الإنسانية لدي أمم أخري.
و في ظل أجواء الخوف من الموت يتحول كثير من البشر إلي كائنات هشة وضعيفة مهيئة للتطرف في الأحكام والاستعداد للتنازل عن أي شئ في سبيل البقاء والتشبث بالحياة بأي ثمن والتماس أي بارقة أمل في الليقين و الشعور بالأمن، وهذه الحالة تغري كثيرا بعض البشر ممن يقتاتون علي الأزمات ويجنون ثمارها باستثمار حالة الخوف الي أقصي حد في سبيل تحقيق مآرب اجتماعية واقتصادية وسياسية لا حصر لها. ذلك أن إشاعة الهلع تمثل فرصة كبيرة لبعض القوي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمضي قدما نحو مزيد من التحكم في كثير من البشر الخائفين وإحكام مزيد من القبضة عليهم ومقايضة بقائهم بحقوقهم الإنسانية وممتلكاتهم وحرياتهم واستقلالهم.
ومع استمرار حالة الهلع، التي يتساوي فيها الجميع أمام الخطر من المجهول، يمكن أن يمثل ذلك فرصة حقيقية لانتعاش كل قوي التسلط والاستغلال في هذا العالم وامتلاكها مساحة أكبر في التأثير علي حياة الناس، الان وفي المستقبل القريب، ويمكن للخوف أن يمثل تربة خصبة لإحياء ونمو الخرافة والدجل في التراث الشعبي وتوظيفها بعباءات علمية في بث الطمأنينة لدي كثير من الناس، والمضي في إطلاق الشائعات والتهويل بنظريات المؤامرة علي أوسع نطاق. ويبقي التهكم من الأزمة والسخرية من مشاعر الخوف لدي البعض منا بمثابة الإنكار لحقيقة وجود الخطر والتهوين منه، ونلمح في الأفق حالة من القدرية تنمو بصورة متصاعدة تعزز من جديد روح التدين في ظل تفاقم واستمرار مناخ الخوف الوجودي السائد. ومن شأن ذلك أن يعطي قبلة الحياة لتيارات الاسلام السياسي وكل من يعملون بالشأن الديني في كل مكان وفي كل الديانات، لاستعادة مصداقيتهم في نفوس الناس، ومحاولة السيطرة علي وجدانهم ومشاعرهم، باستدعاء خطاب الموت والقيامة والحساب وعذاب القبر، ومنح صكوك الجنة. هذا علي الرغم من أهمية الشعور الديني في مواجهة الأزمات خاصة حين يستدعي خطاب ديني نابض بالحياة، يعطي الأولوية للدنيا، ويمنح الثقة والشعور بالأمل والسعادة في الحياة.
وفي مقابل كل ذلك تظل روح العطاء الإنساني هي مصدر الأمان الحقيقي من أي خوف، و الضمان الوحيد للحياة، وجوهر الشعور النبيل بالمواطنة الإنسانية، هذه الروح تمثل السند الأكبر في مواجهة المحن، خاصة إذا كان العطاء، بالمال والخدمات والرعاية والمعرفة والوعي، صادقا ومنزها عن أي غرض سوي الحفاظ علي الحياة الإنسانية العادلة لكل البشر، في كل مكان بلا أي تمييز.