رؤى

من حرب أكتوبر لفيروس كورونا: خمسة عقود من الأزمات في سوق العمل المصري (١-٣) 

مر سوق العمل المصري بعدة صدمات داخلية وخارجية، أثرت على جودة أدائه بشكل ملحوظ. فقد تأثر سوق العمل وسياسات التشغيل، بالصدمات المحلية والعالمية، التي اختلفت حدتها وأهميتها وفقًا للمرحلة الزمنية. كظهور المديونية الخارجية في أوائل الثمانينيات وحرب الخليج في أوائل التسعينيات، تليها الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ثم ثورة 25يناير2011 وأخيرًا جائحة كورونا. وقد تفاوتت حدة أثر كل منها على معدلات التشغيل والبطالة، خلال هذه الأزمات وفقًا لطبيعتها ومداها الزمني، ونطاق تأثيرها.

مع قدوم السبعينيات، ومع تبني سياسات الانفتاح، حدثت تحولات هامة. فقد أدى الانتعاش المالي المؤقت في السبعينيات حيث وصل معدل النمو في الفترة من 1974 إلى 1984 إلى 9% في المتوسط سنويًا – وهو الانتعاش الذي مولته تحويلات العاملين بالدول النفطية والديون الخارجية للدولة – وقد أدى هذا الانتعاش إلى التغير في طبيعة سوق العمل.

فمن ناحية أولى توسع الطلب في طفرة هائلة، عكست الفوران المالي المقترن بالسعي إلى المضاربة العقارية وبالتوسع في المشروعات الإسكانية، لتلبية طلب الفئات الطبقية المتوسطة العاملة في دول النفط. فزاد حجم العمالة في هذا القطاع بـنسبة 57% سنويًا في الفترة من 1976 إلى 1986. ومن ناحية ثانية توسع الطلب الخارجي على العمالة المصرية في نفس هذه الفترة، حتى أنه في نقطة ذروته كان مسئولًا عن توظيف 10% من العمالة المصرية. ومن ناحية ثالثة تراجع التوظيف في تلك الفترة في القطاعات الإنتاجية الأساسية وخاصة الزراعة (معدل التراجع في العمالة الزراعية في الفترة من 1976 إلى 1986 كان 7% سنويًا في المتوسط)، نتيجة للأزمة الخانقة التي ألمت بالقطاع الزراعي ونتيجة لتطور الميكنة نسبيًا.

وبرغم التوسع في قطاعي المقاولات والهجرة الخارجية، فإن التردي الحادث في القطاعات الإنتاجية، وخاصة التدهور الحادث في الريف الطارد لسكانه، قد أدى إلى تزايد معدلات البطالة بحوالي 0.5% سنويًا في الفترة من منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات. ومع نهاية حقبة الانتعاش المالي في منتصف الثمانينيات، برزت مشكلة البطالة.

فقد طردت الدول الخليجية النفطية معظم العاملين لديها، ولفظ قطاع المقاولات – بقدوم الركود – نسبة عالية من العاملين به، هذا إلى جانب توقف الدولة عن الالتزام بتعيين الخريجين في محاولة لحل أزماتها المالية. في هذه الأثناء – بدءًا من منتصف الثمانينيات – أصبحت مشكلة البطالة مشكلة كبيرة، مع عدم القدرة على استيعاب فائض السكان الذي يلفظه الريف، تسريح عمال عدد من الصناعات والخدمات (من منتصف الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات.)

لقد ساهم في هذه الأزمات عدد من العوامل، أهمها انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي في أعقاب حرب أكتوبر وصدور قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي عام 1974، في سياق التمهيد لانسحاب الدولة من التدخل في النشاط الاقتصادي، والتراخي في إجراءات الصيانة والإحلال والتجديد لخطوط الإنتاج، وتأثير سياسات سعر الصرف والسياسة الجمركية على واردات قطع الغيار مما أضعف خطوط الإنتاج وجعل تشغيل العمال عبءً على الاقتصاد القومي. إضافة إلى أن التوسع في الدين الخارجي في السبعينيات – رغم تزايد هجرة العاملين إلى دول النفط وتدفق تحويلاتهم وعودة حقول البترول والسياحة – دفع الحكومة للذهاب الأول لصندوق النقد الدولي لتسويته، وكان ذلك عام 1976. وما ترتب على تطبيق إجراءاته الانكماشية من انتفاضة يناير 1977.

استمرت مشكلة النقد الأجنبي وخدمة الدين في الثمانينيات، وتوقفت الدولة عن اتباع سياسة تعيين الخريجين، ثم اضطرت الحكومة للذهاب لنادي باريس عام 1987، وظلت تتفاوض حول شروط جدولة الدين، حتى وقعت حرب الخليج عام 1990، وما ترتب من الذهاب الثاني لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وعقد اتفاق تحت عنوان برنامج التكيف الهيكلي عام 1991 الذي تضمن برنامج للخصخصة

سجل العقد الأخير من القرن العشرين1991 – 2000 ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات البطالة ارتبط بتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي آنذاك، وما صاحبه من تنفيذ برامج الخصخصة. وتمثل هذه الفترة بداية التحول الديناميكي لسوق العمل وانقلاب موازين العرض والطلب على العمالة، وقع أكبر تغير نسبي في معدل البطالة، مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، حين انتهجت الحكومة المصرية برنامج ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي عام 1991، والذي ارتكز على تحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد حر يعتمد على آليات السوق ويتبنى سياسة التحرير في كافة المجالات.

وقد حدث إثر ذلك أزمة ركود؛ نظرًا للطبيعة الانكماشية لبرنامج الإصلاح، وعجز الاستثمارات الخاصة المطلوبة لتعويض النقص في الاستثمارات العامة، أو لتوفير فرص عمل جديدة. فقد اتسمت السياسات الاستثمارية في تلك المرحلة بعدم الكفاءة، حيث أدت عملية الخصخصة إلى تخفيض الموارد المتاحة للاستثمار، والتي تم توجيه نسبة مرتفعة منها (أغلبها من المدخرات المحلية أو التسهيلات الائتمانية للحكومة المصرية) نحو تمويل مشروعات إنتاجية قائمة بالفعل، وليس بناء قدرات إنتاجية جديدة. كما لم تُضخ حصيلة الخصخصة في الاقتصاد القومي من جديد، بل تم استخدامها في تمويل المعاش المبكر أو سد عجز الموازنة للدولة.

حسني كحلة

باحث في الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock