منوعات

فقه الأوبئة.. تراث عقلاني تجاهلته مظاهرة الإسكندرية ضد كورونا

علي باب مكتبي لاحظت أن الشاب القادم لأخذ حمولة ما يدخن بشراهة وحين نبهته أن المدخنين هم الأكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا، كان رده مستغرباً بالنسبة لي حين استخف بالأمر برمته قائلاً جملة باتت أشبه بالمحفوظات على لسان كثير من بني وطني من المصريين وهي «خليها علي الله».

المنطق المدهش وراء هذه الجملة العجيبة، أو قل اللامنطقية، هو ذاته الذي دفع بمجموعة من البسطاء في الإسكندرية للخروج فيما أسموه «تظاهرة ضد كورونا» تخللها ابتهال ودعاْء للخالق لرفع البلاء في مخالفة لأبسط القواعد الطبية المفترضة في التعامل مع موقف كهذا، أى تجنب التجمعات ومراعاة المسافة الآمنة من انتقال العدوى.

https://www.facebook.com/YaSsOo1King/videos/1443534775808529/?t=0

هذه الثقافة الكارثية القائمة على فكرة مفادها أنه يحق للفرد أن يهمل في حق نفسه وحق مجتمعه، ولا يخشى العواقب لأنه في النهاية هناك خالق  «يسترها» على تعبير البعض، وهى ثقافة لا تتناقض فقط مع التفكير المنطقي أو العقلاني بل تتناقض مع العقيدة الدينية نفسها التي يدَّعي أصحاب هذا «الفكر»- إن صح حقاً تسميته فكراً- أنهم يمثلونها، فهم لا يدركون أن الخالق يسترها مع الآخذين بالأسباب التي يسرها لهم.

في القرآن والإنجيل

بالرجوع إلى العهد الجديد «الإنجيل»وتحديدا إنجيل لوقا، ثمة قصة ملخصها أن الشيطان كان يسعى لغواية السيد المسيح عن طريق إقناعه أن يقذف بنفسهمن على جبل، ففي النهاية، فإن الرب إلهه سينقذه وسيرسل الملائكة ليتلقفوه وينقذوه إلا ان المسيح رد رداً موجزا وحاسماً في آن واحد حين قال «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ».

لا تختلف الرسالتان المحمدية والمسيحية في هذا الشأن، فكلاهما يُعلي من قدر الحياة البشرية ويسعى للحفاظ عليها وصونها وبالتالي يجرم كل ما من شأنه إزهاقها بغير حق.

والقرآن الكريم يأمر المسلمين بشكل واضح لا لبس فيه ألا يُلقوا بأيديهم – أي بأنفسهم- إلى التهلكة.. «وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» «الآية 195-سورة البقرة» والسنة النبوية حافلة بأمثلة يحذر فيها النبي الكريم أتباعه من أن يسيروا بمحض إرادتهم الى موطن المرض، حيث يروي الترمذي في سننه حديثاً للنبي الكريم يحذر فيه المؤمنين من الطاعون ويوصيهم أنه «إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها»، ولا يملك المرء في هذا العصر إلا أن يري مدي التشابه الذي قد يصل إلى حد التطابق بين هذه الوصايا النبوية وبين ما ينصح به الأطباء في مواجهة فيروس كورونا.

درس الخليفة العادل

   وعلى هذا النهج النبوي سار الصحابة الكرام والمسلمون الأوائل، فالخليفة العادل عمر بن الخطاب حين ابتُليت رعيته بعام الرمادة وكانت على شفير المجاعة، لجأ الى الدعاء والابتهال وصلاة الاستسقاء كما فعل البعض في عصرنا، إلا أن هذا لم يمنعه من اللجوء إلى وسائل عملية لمواجهة الأزمة مثل مناشدة واليه على مصر عمرو بن العاص أن «يغيث أمة محمد» لإدراكه أن مصر بلد زراعي يمكن للفائض فيه أن ينقذ مجتمع صحراوياً مثل الحجاز من مجاعة موشكة.

   وفي مناسبة أخرى، رفض عمر بن الخطاب دخول أرض الشام بعد أن أدرك أن الوباء أصاب أهلها، ونزل الخليفة علي رأي الانصار كما يروي البخاري نقلاً عن عبد الله بن عباس الذين نصحوه ألا يدخلها وهو الرأي الذي أيده عبد الرحمن بن عوف مستشهدا بالحديث النبوي المشار إليه سابقاً.

   هنا واجهت هذه الخطوة من قبل الفاروق عمر معارضة من أنصار القدرية، كما هو الحال اليوم أيضاً٬ وكان في مقدمتهم قائد جيشه الفاتح أبو عبيدة بن الجراح الذي سأله معترضاً «أفرارا من قدر الله يا عمر؟» فأجابه الفاروق بجملته التي صارت مثلاً فيما بعد «نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله». ثم طرح الفاروق علي قائد جنده سؤالا منطقياً : «أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟».

   ويروي الطبري في تاريخه الشهير قصة هذا الوباء فيقول: «ثم دخلت سنة ثماني عشرة؛ ففيها كان طاعون عمواس، فتفانى فيها الناس، فتوفي أبو عبيدة بن الجراح؛ وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف الناس».

  أما عمرو بن العاص فسار علي نهج الفاروق ووجَّه أهل الشام بضرورة التوجه إلى الجبال حيث تقل فرص انتشار المرض ومغادرة المدن وخطب فيهم قائلا: «أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا منه في الجبال».

   وأدرك الفقهاء على اختلاف مدارسهم الفكرية هذا الدرس فأجمعوا أن حفظ النفس هو أول وأهم مقاصد الشريعة الإسلامية، فإن هلكت النفس البشرية فكيف يُحفظ الدين أو يُقام الشرع؟ 

   وأقر السلف  قاعدة أخرى هي أن الضرورات تبيح المحظورات، وهي القاعدة التي يتناساها المتباكون على صلاة الجماعة في المساجد غير مدركين أن الضرورة في هذه الحال وهي حفظ أرواح العباد تبيح الامتناع عن ارتياد المساجد، تماماً كما يحفل التراث بصلوات أقيمت على ظهور الخيل في وقت القتال. 

إن استعادة هذا التراث في كيفية التعامل مع الأزمات يصبح واجباً شرعياً في مواجهة فكر كارثي ابتليت به الأمة لا يقيم للإنسان الذي كرمه الخالق ولا لحياته التي وهبه إياها أي وزن، تلك الثقافة التي تُلخصها جملة «خليها على الله» التي تهين العقيدة أيما إهانة، فلا يمكن للخالق الذي أسمى نفسه العدل أن يبارك في إهمال ولا أن يتغافل عن تسيب أو يرضى عن أي منهما.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock