يطرأ على النظام العالمي تغيرات جذرية كلما ظهرت معطيات جديدة في معادلة الحياة، وكما تغير العالم بعد الحروب والأسلحة النووية وتطور التكنولوجيا، يتشكل الآن عالم جديد بسبب فيروس كورونا، الذي يبدو أنه جاء ليبقى، فعلى الرغم من الأمنيات المتفائلة بأن انتشار المرض مجرد مرحلة عابرة مؤقتة، إلا أن تجاوز عدد الحالات على مستوى العالم لما يقرب من 900 ألف مصاب، وتزايد الوفيات إلى ما يقرب من 45 ألفا حتي اليوم الخميس الثاني من أبريل وانتشار الوباء بين سياسيين وقادة ومشاهير، يجعلنا جميعًا نستعد لعالم ما بعد كورونا، حيث التباعد الاجتماعي، والتعقيم الهيستيري لكل شيء، والعمل داخل المنزل، وهو ما يعيد تشكيل الروابط الأسرية والشبكات الاجتماعية من جديد.
الأمير تشارلز ويلز وولي عهد المملكة المتحدة وزوجته كاميلا أصيبا بفيروس كورونا
أسرة بدوام كامل
استقرت الأوضاع الأسرية في العالم المعاصر على انشغال الأب معظم اليوم بعمله، وانشغال الأم إما بوظيفتها إن كانت تعمل أو أنشطتها الاجتماعية مع أولادها ودائرتها المقربة، وانشغال الأبناء بمدارسهم وأصدقائهم وأنشطتهم الخاصة، وبالتالي مع الوقت صار لدينا ما يمكن أن نسميه «أسرة بدوام جزئي»، وفيها يلتقي أعضاء الأسرة ولكن لأوقات محدودة، بينما يدور الجزء الأكبر من الحياة خارج المنزل، وهو ما كان يجعل الأمور أسهل للجميع، والمشاكل أقل، أما الآن ومع الحجر المنزلي والحظر وغلق المدارس وأماكن الترفيه والاضطرار للعمل داخل المنزل، تحولت الأسر فجأة إلى نظام الدوام الكامل، وهو ما لم يعتده أحد.
عقاب أم فرصة؟
مع إجبار كورونا للجميع في كل أنحاء العالم على البقاء رهن بيوتهم اعتبر بعض الأزواج العمل من المنزل والبقاء طوال اليوم معًا عقابًا، أدركوا فيه اختلافاتهم الحادة التي كانت محتملة سابقًا، و وصل الأمر إلى العنف المنزلي والضرب، بل واكتشاف الخيانات الزوجية، ما أدى إلى ارتفاع نسب الطلاق في دول مثل الصين، حيث اكتمل حجز مواعيد الطلاق في مكاتب الزواج بمجرد فتحها آواخر فبراير الماضي، ورغم محاولات الحكومة للحد من ارتفاع مستويات الطلاق وتقليل عدد المواعيد المتاحة لتوثيق إجراءاته، إلا أن البقاء في العزل لمدة شهرين على ما يبدو كان أكثر من كاف لإنهاء العديد من علاقات الزواج الهشة، وهو اتجاه يبدو أنه سيستمر في دول أخرى.
على الجانب الآخر وبالمقابل اتخذ بعض المرتبطين بعلاقات زوجية أو عاطفية وهم يعيشون في أماكن مختلفة بعيدة عن بعضها – قرار الانتقال للبقاء معًا، حتى تمر الأزمة، كما عدل بعض الأزواج عن فكرة الطلاق ونجحوا في إعادة توجيه علاقاتهم في المسار الصحيح خلال فترة العزل، إضافة إلى التوقعات بظهور طفرة في أعداد المواليد خلال الفترة المقبلة، حيث تشير الأبحاث إلى أن فترات الخوف والتوتر تُقرِّب ما بين الناس، وتُنحِّي الخلافات جانبًا إذا كانت العلاقة مبنية بالفعل على أسس سليمة.
وقت أطول ومشاركة أكثر
أما عن واحدة من أهم تبعات تفشي الوباء على الحياة الاجتماعية، فهي إغلاق المؤسسات التعليمية، وهو ما يعتبر كابوسا حقيقيا – ليس فقط للأبناء المعرضين لضياع سنة دراسية كاملة – وإنما أيضًا لآبائهم وتحديدًا الأمهات، حيث يقضي الأبناء أكثر من نصف يومهم في المدارس والجامعات، أما الآن فعلى المنزل أن يقوم بدور المدْرسة أيضًا، وعلى الآباء أن يقضوا مع أبنائهم أكثر من ضعف الوقت المعتاد داخل المنزل، وهو ما قد يعتبره البعض فرصة ذهبية لتمضية المزيد من الوقت مع أبنائهم، بينما تعتبر مأساة حقيقية لآخرين.
ولأن الوقت المتاح صار أطول مع إغلاق كل أماكن الترفيه الخارجية، وحتى النوادي والمدراس والجامعات، تشهد تطبيقات مثل «تيك توك» و«يوتيوب» و«إنستجرام» قفزة في عدد المشاهدات والتفاعل، لتصبح وسائل التواصل الاجتماعي المتنفس البديل للجميع وليس فقط الشباب، حيث تطوعت الفرق الموسيقية للعزف أونلاين، وصار الناس يشاركون إبداعاتهم، كما يستخدم الناس خاصية الاتصال بالفيديو أكثر من أي وقت مضى للتواصل مع أصدقائهم وأحبائهم، أو حتى لإنجاز أعمالهم واجتماعاتهم.
https://www.youtube.com/watch?v=Wtbw8SOB2lo
عالم جديد
في عالم ما بعد كورونا، سوف يكتشف الناس أن نصف مشاويرهم التي تُكدّس الشوارع زحامًا، يمكن إجراءها بسهولة من المنزل دون الحاجة لصرف المال على البنزين، أو إهدار وقت وجهد بلا طائل، أو حتى تلويث البيئة بعوادم السيارات، كما سيُجبَر العديد من الناس على تبسيط حياتهم حماية لأنفسهم، تمامًا كما يحدث الآن من حفلات زفاف بسيطة وعائلية، دون مبالغة في التكاليف، وربما أيضًا تعيد الكثير من المؤسسات التفكير مرة أخرى فيما إذا كان هناك داع لأن يذهب جميع الموظفين إلى العمل، حيث أثبتت التجربة أن عددا كبيرا من الوظائف يمكن إنجازها بسهولة وكفاءة من المنزل، إضافة إلى مراجعة الناس لأنماطهم الغذائية وعاداتهم الصحية الخاطئة.
أثناء هذه الأزمة بات الجميع يدركون أن أنصاف العلاقات لا تصمد تحت سقف واحد لمدة طويلة، كما لن تكون المنازل ملجأ للنوم والأكل فقط، وإنما مساحة لأفراد الأسرة يشاركون فيها اهتماماتهم وأفكارهم وحتى أعمالهم، وربما حتى يتجه بعض الآباء إلى التعليم المنزلي أو التعليم عن بعد حماية لأطفالهم، وبالطبع سوف تخفت أصوات الدفاع عن الفردية المطلقة، حيث أثبتت التجربة أن العالم كله متصل، فما تفعله مجموعة محدودة في سوق من أسواق الصين يمكن أن يقلب العالم كله رأسًا على عقب، والأهم من ذلك أن في العالم الجديد سوف يدرك الإنسان قيمة أسرته ودائرته الاجتماعية المقربة التي حتى وإن واجهه وباء في ظلها، يمكنه أن يصمد طالما أنهم معًا.
مراجع إضافية للقراءة على هذا الموضوع:
1. بعض ثنائيات شيكاغو يروون فيروس كورونا كمتسبب إما في زيادة عدد الأطفال أو حالات الطلاق – دانيال براف – شيكاغو تريبيون.
2. كيف يمكن لوباء كورونا أن يعيد تشكيل التعليم بثلاث طرق مختلفة – جلوريا تام وديانا الأزار- وي فورم.
3. ارتفاع استخدام وسائل التوصل الاجتماعي في ظل تفشي فيروس كورونا – نينا أغاديانيان- ايه ليست دايلي.