مختارات

الحلوة دي قامت تعجن

في دردشة صباحية مع صديقة عزيزة، وهى أستاذة جامعية مرموقة، قالت لي إن جدولها اليومي يبدأ في الخامسة والنصف صباحًا وإن «الخبيز» يحتل بنداً ثابتًا فيه، أخبريني ماذا تخبزين بالضبط؟ تركتني صديقتي أذهب يميناً وشمالًا وفي كل اتجاه، من الكيك إلى البراوني ومن الكبكيك إلى البانكيك، ثم انتهت إلى القول: باخبز عيش، ومضت خطوة أبعد فاقترحت عليّ أن أدخل على صفحة breadtopia لتعلم صناعة العيش بمنتهى السهولة كما قالت. اندهشتُ بعض الشئ من كلام صديقتي، فما معنى إذن المثل الشهير الذي يقول «إدي العيش لخبازه ولو ياكل 3/4» إذا كان خبيز العيش بهذه السهولة وفي متناول كل أحد؟ التفسير المنطقي الوحيد هو أن من اخترع المثل إياه لم يكن يحسب حساب الإمكانيات الهائلة للإنترنت، فهذه الإمكانيات الإنترنتية الجبارة قادرة حتى على نقل خبرة صناعة السلاح والمفرقعات لمن يريد فهل يصعب عليها إذن نقل خبرة الخبيز للنساء؟ على أية حال شاءت الظروف في خلال الأسبوع الأول من حظر التجول أن أُحَدّث أربع نساء في محيطي الضيق فأسمع أنهن إما خضن تجربة خبيز العِيش أو أنهن تفكرن في خوضها، أربع نساء من أعمار مختلفة، جميعهن ينتمي للطبقة الوسطى، وكلهن يعمل في وظائف كبيرة بمؤسسات مصرية وأجنبية ومن الوجوه المعروفة في المجتمع، فما حكاية الخبيز هذه معهن؟

أعلم جيداً أن الإجازة الإجبارية التي أخذتها النساء العاملات تحت شعار «العمل من المنزل» قد أتاحت لهن قضاء وقت أطول في المطبخ، ومن يدخل على الفيسبوك في أيام حظر التجول سيشعر كما لو كان يشم الروائح الزكية وهى تفوح من طواجن الخضر باللحم وصواني المكرونة بالبشاميل التي تنشر صورَها النساءُ ومن تحتها عبارة: اتفضلوا معانا، فإذا بألف هنا تنهال عليهن ومعها لايكات كثيرة وقلوب. نعم هذا معلوم، وتكاد لا توجد امرأة إلا وصالت وربما جالت أيضاً في مجال الطبيخ، سواء من باب التجربة أو حتى بحكم الأمر الواقع، لكن خبيز العيش مسألة أخرى. عجبتُ لك يا زمن، المرأة في الريف لم تعد تخبز عيشها وتجلبه من المركز، وفي آخر زيارة قمتُ بها لقريتي الصغيرة قبل سنوات لم أجد شيئًا مما ارتبطت به في بيتنا القديم، وأكثر ما ارتبطت به ذلك الفرن البلدي الذي كان يقبع في نهاية ممر طويل تتناثر على جانبه الأيسر غرفٌ بها كل أنواع الطيور، وكانت متعتي بلا مدى في صباحات الإجازة الصيفية عندما أفتح الغرف المغلقة وأحرر الطيور الحبيسة ليتعالى صياحها فيما عمتي تخبز عيش الفطور. لم تعد امرأة الريف تخبز فهل تخبز امرأة المدينة؟ نعم حدث هذا، وهل مسألة الإقبال على الخبيز هذه وليدة أزمة كورونا أم أنها تسبقها؟ إنها تسبقها لكن يمكن القول إنها انتشرت معها، فلا أحد يدري ما تخبئه الأيام.

يقولون إنك حين تعجن فإنك تتخلص من بعض الطاقة السلبية في داخلك، وكثيرون من بيننا يُنَفّسون عن غضبهم حين يضغطون على/ يعتصرون كرة إسفنجية صغيرة، العجين إذن شأنه شأن الكرة يهدئ الخواطر ويُرخِي الأعصاب ويمتص التوتر، لكن يوجد فارق بل وفارق كبير بين الحالتين، في الحالة الأولى تظل الكرة على حالها أما في الحالة الثانية فإن العجين يتحول إلى شكل هندسي له رائحة ونكهة ومذاق. صُنع العيش فن لا يتأتى لكل من يخبز، ففرنسا بلد اللوڤر وبرج إيفل وكنيسة النوتردام والحي اللاتيني والأوبرا، هى أيضا بلد العيش الباجيت الذي يتشارك هو والنبيذ مع كل هذه المعالم الأثرية في صناعة شهرتها، يتأبطه المارة كل مساء فلا يبلغون مقصدهم إلا وقد أتوا عليه أو كادوا. ترى هل تجرّأَت واحدة من نساء العائلة على صنع الباجيت الفرنسي؟ نعم توجد منهن من تجرأت وتفننت وتفوقت، ثم أن منهن من خبزت عيشا بدون جلوتن لأنه يؤذي الجهاز الهضمي، ومنهن من صنعت عيش الكيتو لأنها تتبع حمية غذائية قائمة على البروتين، ومنهن من خلطت عجينتها بالأعشاب أو الزيتون أو الثوم أو باللب الأسمر، ومنهن من أتقنت العيش السوري تماماً كأهل الشام. عندما تصنع خبزك بنفسك فأنت تملك قرارك وتكون حرًا في تشكيله على هواك، هل هذا كلام في الاقتصاد السياسي أم هذا كلام في الطبيخ؟ هو مزيج من هذا وذاك، وعندما كان يهتف المتظاهرون في الساحات العربية: عيش/ حرية /عدالة اجتماعية فإنهم كانوا يربطون تماما بين العيش والتحرر، ومع أنهم أحيانا كانوا يضعون الكرامة الإنسانية بدلاً من العدالة الاجتماعية إلا أن العيش والحرية كانا موجودَيْن دائما ومتلازمَيْن أبداً.

الحلوة دي قامت تعجن في البدرية والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية، آه من بديع خيري وسيد درويش اللذين أبدعا لنا أغنية مُعمِرة لكنها طازجة، تمر عليها الأعوام فتبدو كما لو كانت هذه الأعوام عبارة عن صاجات الفرن التي تحمل العيش الصابح من جيل لجيل وتنقل الكلمات الذهبية من حنجرة لأخرى، وها نحن بعد ما يقرب من قرن على عجين الحلوة في البدرية نجد حلوات كثيرات يعجنّ في الصبحية وكأن العجين هو دورة الحياة التي لا تنتهي أبداً إلا بنهاية الخليقة نفسها. فيا أيها الكورونا اللعينة سنقاومك نحن نساء الأرض بخبزنا وعجيننا وطحيننا وبحبنا للحياة، سنصنع عيشًا يقاوم الموت ويُحرِر من الخوف ويجدد الأمل، وسنظل نوقظ العالم على صوت الديك حين يدن كوكو كوكو في ألف غد وغد.

نقلا عن: الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock