كيرت كامبل – الرئيس والمدير التنفيذي لمجموعة آسيا، والمساعد الأسبق لوزير الخارجية الأمريكي لشئون شرق آسيا والمحيط الهادئ من 2009 إلى 2013
روش دوشي – مدير مبادرة استراتيجية الصينفي معهد بروكينجز، وزميل في مركز بول تساي الصين التابع لكلية الحقوق بجامعة ييل
عرض وترجمة: أحمد بركات
بينما يلجأ مئات الملايين في جميع أنحاء العالم إلى عزل أنفسهم، يتحول وباء «كورونا» الجديد إلى حدث عالمي بكل معنى الكلمة، وبينما يتعين اعتبار التداعيات الجيوسياسية لهذا الوباء أمرا ثانويا قياسا على الأمور المتعلقة بالصحة والسلامة، إلا أن هذه التداعيات قد تثبت – على المدى الطويل – أنها لا تقل جوهرية وأهمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بمكانة الولايات المتحدة على عرش العالم، فالأنظمة العالمية تميل عادة إلى تغير تدريجي وهادئ في البداية يتبعه تغير سريع ومفاجئ في مرحلة لاحقة، حدث ذلك في عام 1956، عندما أماط التدخل الفاشل في السويس اللثام عن تدهور القوة البريطانية، وهو ما مثَّل نهاية حقبة التربع البريطاني على عرش العالم. واليوم، يجب أن يدرك صانع السياسة الأمريكية أنه ما لم ترتق واشنطن إلى مستوى اللحظة الراهنة، فإن تفشي وباء كورونا قد يمثل «لحظة سويس» أخرى في تاريخ الولايات المتحدة تشبه تلك التي نحَّت بريطانيا عن عرش العالم.
فشل في الإختبار
لقد بات واضحا الآن للجميع، ربما باستثناء الحزبيين الأكثر تعصبا، أن الاستجابة الأولية التي أبدتها واشنطن لهذا التحدي قد باءت بالفشل. وقوضت أخطاء المؤسسات الكبرى – بدءا من البيت الأبيض ووزارة الداخلية، ووصولا إلى مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها – الثقة في قدرة وكفاءة الحوكمة الأمريكية. وأسهمت البيانات العامة الصادرة عن الرئيس دونالد ترامب، سواء من خلال خطاباته التي يلقيها من مكتبه البيضاوي، أو تغريداته التي يشاركها كل يوم في الصباح الباكر، في نشر حالة من البلبلة وعدم اليقين. وأثبت كل من القطاعين العام والخاص فقرهما في إنتاج وتوزيع الأدوات الضرورية لاختبار الوباء ومواجهته. وعلى الصعيد الدولي، أدى الوباء إلى تضخيم غرائز ترامب لخوض التحدي بمفرده، وكشف عن مدى فقر واشنطن في حشد مواجهة عالمية، وقيادتها.
الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب»
إن مكانة الولايات المتحدة كقائد للعالم على مدى العقود السبعة الماضية لم تقم فقط على الثروة والقوة، وإنما أيضا، وبنفس الدرجة، على الشرعية التي انبثقت عن حوكمتها المحلية، وقدرتها على توفير السلع والخدمات العامة العالمية، وريادتها في حشد وتنسيق استجابة عالمية في مواجهة الأزمات. وتختبر جائحة كورونا في الوقت الراهن هذه العناصر الثلاثة للقيادة الأمريكية.وحتى الآن، تواصل واشنطن الإخفاق في أداء الاختبار.
وفي الوقت الذي تتعثر فيه واشنطن، تتقدم بكين بسرعة وبراعة للاستفادة من الصدع الذي خلفته الأخطاء الأمريكية، وتسعى إلى ملء الفراغ عن طريق إعادة موضعة نفسها كزعيم جديد للعالم في مواجهة الوباء. وتعمل حثيثا على الترويج لمنظومتها الخاصة، وتقديم مساعدات مادية للدول الأخرى، بل وتنسيق جهود حكوماتها. رغم ذلك، من الصعب المبالغة في الخطوات الهائلة التي قطعتها الصين على هذا الطريق، إذ تبقى أخطاء بكين – وبخاصة جهودها في البداية لإخفاء حدة وتفشي الوباء – هي المسئول الأول عن نشوب هذه الأزمة التي تجتاح معظم أرجاء العالم اليوم. ومع ذلك، فإن بكين تعي تماما أنه في حال نظر إليها العالم كقائد، وإلى واشنطن باعتبارها غير قادرة، أو غير راغبة في القيام بهذا الدور، فإن هذا التصور يمكن أن يغير بشكل أساسي وضع الولايات المتحدة في السياسة العالمية، وشكل المنافسة على قيادة العالم في القرن الحادي والعشرين.
الصين.. وسردية «اللاعب الأساسي»
في أعقاب تفشي فيروس كورونا الجديد، ألقت أخطاء الزعماء الصينيين بظلالها على مكانة بلدهم العالمية. فقد تم اكتشاف الفيروس لأول مرة في نوفمبر 2019، في مدينة ووهان، إلا أن المسئولين أخفوا هذه الحقيقة لعدة أشهر، بل وعاقبوا الأطباء الذين قاموا بالإبلاغ عنها لأول مرة، مما أدى إلى تبديد وقت ثمين لاتخاذ التدابير اللازمة لتوعية المواطنين، وحظر السفر بين المدن، وتمكين الاختبارات على نطاق واسع لمدة خمسة أسابيع على الأقل. وحتى مع ظهور الأزمة على كامل نطاقها، أحكمت بكين حجب المعلومات، وتجنبت المساعدات القادمة من «مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها» الأمريكية، كما قلصت عدد أعضاء بعثة منظمة الصحة العالمية المتجهة إلى ووهان، وأخفت الأرقام الحقيقية لعدد الإصابات والوفيات، وغيرت مرارا وتكرارا معايير تسجيل حالات «كوفيد – 19» الجديدة، – ربما عن عمد – للتلاعب في الأعداد الرسمية للحالات.
ومع استفحال الأزمة في شهري يناير وفبراير 2020، توقع بعض المراقبين أن الفيروس قد يؤدي إلى تقويض قيادة الحزب الشيوعي في الصين. وأُطلق على ووهان «تشيرنوبل» الصينية، وشُبِّه د. «لي وين ليانغ» – الطبيب الشاب الذي حذر من الوباء، وأسكتته الحكومة، واستسلم لاحقا لمضاعفات مرض «كوفيد – 19» – بـ «رجل الدبابة» الشهير في ميدان تيانانمن في عام 1989.
ومع ذلك، وبحلول شهر مارس، زعمت الصين أنها حققت نصرا مؤزرا. ونُسب الفضل إلى إجراءات الحجر الصحي الجماعي، وحظر السفر، والإلغاء الكامل لأغلب مظاهر الحياة اليومية في جميع أنحاء البلاد في وقف المد الوبائي. وأفادت الإحصاءات الرسمية أن أعداد الحالات اليومية الجديدة قد تراجعت إلى مربع الأرقام أحادية في منتصف مارس بعد أن كانت بالمئات في بداية فبراير. وفي مفاجأة مدوية لأغلب المراقبين، شرع الرئيس الصيني «شي جين بينغ» – الذي كان مختفيا- على غير عادته- في الأسابيع الأولى من الأزمة – في وضع نفسه مباشرة في قلب الحدث. وقام في هذا الشهر بزيارة مدينة ووهان.
الرئيس الصيني شي جين بينغ يزور مستشفى في ووهان
ورغم أن الحياة في الصين لم تعد بعد إلى سابق عهدها، وبغض النظر عن علامات الاستفهام التي لا تفتأ تحيط بدقة الإحصاءات الصينية، تسعى بكين بكامل طاقتها إلى تحويل هذه المؤشرات المبكرة على النجاح إلى سردية أكبر تبثها في جميع أنحاء العالم لتجعل من الصين اللاعب الأساسي – أو ربما الوحيد – في أي تعاف عالمي مستقبلي، ولتنفض عن نفسها غبار أي إخفاق في المراحل الأولى من الأزمة.
ويشكل النجاح المفترض للصين في محاربة هذا الفيروس جزءا مهما من هذه السردية. ويروج تيار مستمر من المقالات الدعائية والتغريدات والرسائل العامة، بالعديد من اللغات، للمنجز الصيني، ويبرز فعالية نموذج بكين في الحوكمة المحلية. في هذا السياق، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية، «تشاو ليجيان» أن «التفرد الصيني في القوة والفعالية والسرعة في خوض هذه المعركة قد حظي بتقدير واسع النطاق»، وأضاف :أن الصين قد أرست «معايير جديدة لجهود مكافحة الأوبئة في العالم». وقد فرضت السلطات المركزية رقابة وانضباطا إعلاميا صارميْن على أجهزة الدولة لمنع ظهور أي روايات مناقضة.
المتحدث باسم وزارة الخارجية «تشاو ليجيان»
وتحظى هذه الرسائل باستقبال لافت في الغرب بالتزامن مع إدراك كامل لفشل واشنطن في إجراء الاختبار على عدد كاف من المجموعات (بما يعني أن الولايات المتحدة قد اختبرت أعدادا قليلة نسبيا مقارنة بعدد السكان)، أو التفكيك المستمر الذي تمارسه إدارة ترامب ضد البنية التحتية لقدرة الحكومة الأمريكية على التصدي للأوبئة. وقد انتهزت بكين فرصة السردية التي خلقتها حالة الفوضى في الولايات المتحدة، وروجت لها وسائل الإعلام الأمريكية الرسمية والدبلوماسيون الأمريكيون، والتي ذكَّرت الجماهير في جميع أنحاء العالم بصورة ممنهجة بتفوق الجهود الصينية، ووجهت انتقادات حادة إلى «اللامسئولية، وانعدام الكفاءة» من جانب «من يطلقون على أنفسهم النخبة السياسية في واشنطن»، كما وصفتها «وكالة أنباء شينخوا» التابعة للدولة في افتتاحيتها.
وبرغم الأدلة الدامغة على خروج فيروس كورونا من الصين، يصر المسئولون الصينيون ووسائل الإعلام الحكومية على إنكار ذلك تفاديا لتحمل مسئولية تفشيه عالميا. ويتقاطع هذا الجهد في تفاصيل كثيرة مع حملة تضليل على النمط الروسي، خاصة بعد أن قام المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وأكثر من عشرة دبلوماسيين بنشر مقالات من مصادر فقيرة تتهم الجيش الأمريكي بنشر فيروس كورونا في ووهان. لكن هذه الإجراءات- إلى جانب عمليات الطرد الجماعي غير المسبوقة التي مارستها الصين بحق صحافيين من ثلاث صحف أمريكية كبرى – تضر كثيرا بإدعاءات الصين بقيادة العالم.
التصنيع الصيني.. يتفوق
يعي الرئيس الصيني «شي جين بينغ» جيدا أن توفير السلع والخدمات العالمية يمكن أن يصك أوراق اعتماد قيادة القوة الصاعدة. وقد أمضى «شي» السنوات العديدة الماضية في الدفع بقوة بماكينة السياسة الخارجية الصينية نحو التفكير بمزيد من الجدية في تقديم إصلاحات رائدة لحوكمة العالم. ويقدم فيروس كورونا اليوم فرصة سانحة لوضع هذه النظرية موضع التطبيق. لنفكر مليا في العروض الصينية التي يجري الترويج لها الآن على قدم وساق لتقديم مساعدات مادية، بما في ذلك الأقنعة (الكمامات)، وأجهزة التنفس الصناعي، وأجهزة التهوية، والأدوية. في بداية الأزمة، قامت الصين بشراء وإنتاج (وتلقي كمساعدات) كميات هائلة من هذه السلع؛ واليوم صارت في وضع يمكنها من تقديمها للآخرين.
وفي الوقت الذي تقاعست فيه جميع الدول الأوربية عن تلبية مطالب إيطاليا بتوفير معدات طبية وأدوات وقاية، أعلنت الصين التزامها بإرسال 1000 جهاز تهوية، ومليوني قناع، و100 ألف جهاز تنفس، و20 ألف بدلة واقية، و50 ألف طاقم اختبار. كما أرسلت بكين أيضا فرقا طبية، و250 ألف قناع إلى إيران، وبعض الإمدادات الطبية إلى صربيا التي وصف رئيسها التضامن الأوربي بأنه «قصة خرافية» وأعلن أن «الدولة الوحيدة القادرة على مساعدتنا هي الصين». وتعهد «جاك ما»، مؤسس شركة «علي بابا» الصينية العملاقة للتكنولولجيا بإرسال كميات كبيرة من أطقم الاختبارات والأقنعة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب 20 ألف طاقم اختبار، و100 ألف قناع إلى كل دولة من دول أفريقيا البالغ عددها 54 دولة.
«جاك ما» مؤسس شركة «علي بابا» الصينية العملاقة للتكنولولجيا
وتتعزز قدرة بكين على تقديم مساعدات مادية بحقيقة بسيطة مفادها أن كثيرا مما يعتمد عليه العالم في محاربة فيروس كورونا يتم تصنيعه فعليا في الصين. لقد كانت بكين المنتج الرئيسي في العالم للأقنعة المستخدمة في الجراحات. والآن، من خلال التعبئة الصناعية الشبيهة بأوقات الحروب، حققت بكين طفرة في إنتاج هذه الأقنعة بزيادة تتجاوز 10 أضعاف ما كانت تنتجه من قبل، وهو ما يمنحها القدرة على توفيرها لجميع دول العالم. وتنتج الصين أيضا حوالي نصف الإنتاج العالمي من أجهزة التنفس N95 الضرورية لحماية العاملين في مجال الصحة، وقد أجبرت الحكومة الصينية المصانع الأجنبية الموجودة على أرضها على صناعة هذه الأجهزة وبيعها مباشرة إليها، بما يمنحها أداة جديدة من أدوات السياسة الخارجية في شكل معدات طبية. في الوقت نفسه، تمثل المضادات الحيوية مادة حاسمة في معالجة الالتهابات الثانوية الناشئة عن «كوفيد – 19»، وتضطلع الصين بإنتاج أغلب المكونات الدوائية النشطة اللازمة لصناعة هذه المضادات.
وعلى النقيض، تفتقر الولايات المتحدة إلى المواد والقدرات اللازمة لمواجهة الكثير من احتياجاتها الخاصة، ناهيك عن تقديم المساعدات في مناطق الأزمات في أماكن أخرى من العالم. وتبدو الصورة أشد قتامة، إذ يُعتقد أن الاحتياطي الوطني الاستراتيجي الأمريكي – وهو احتياطي البلاد من الإمدادات الطبية الحرجة – لا يغطي سوى 1% فقط من احتياجاتها من الأقنعة وأجهزة التنفس، و10% فقط من أجهزة التهوية اللازمة للتعامل مع الوباء. ويتعين تعويض النسب الباقية من الواردات الصينية، أو بزيادة معدلات التصنيع المحلي على وجه السرعة. وبالمثل، تبلغ حصة الصين في سوق المضادات الحيوية الأمريكية أكثر من 95%، فضلا عن أن أغلب مكونات هذه المضادات لا يمكن تصنيعها محليا. وبرغم أن أمريكا عرضت تقديم مساعدات للصين ودول أخرى في بداية الأزمة، إلا أنها تبدو اليوم أقل قدرة على القيام بذلك، خاصة في ظل تزايد احتياجاتها الخاصة. في المقابل، لا تُقدم بكين على تقديم المساعدات إلا عندما تبلغ الاحتياجات العالمية أقصى درجاتها.
ومع ذلك، فإن مواجهة الأزمة لا تنحصر فقط في السلع والخدمات المادية. ففي أثناء أزمة إيبولا في 2014 – 2015، قادت الولايات المتحدة تحالفا ضم عشرات الدول لمكافحة انتشار المرض. وحتى الآن تتخاذل إدارة ترامب عن بذل جهود مماثلة لمواجهة فيروس كورونا، بما في ذلك التنسيق مع الحلفاء، إذ يبدو أن واشنطن، على سبيل المثال، لم تمنح حلفاءها الأوربيين أي إشعار مسبق قبل قيامها بفرض حظر على السفر من أوربا.
وعلى النقيض، دشنت الصين حملة دبلوماسية قوية لحشد عشرات الدول ومئات المسئولين، من خلال مؤتمرات عبر الفيديو لتبادل المعلومات حول الوباء ومشاركة الدروس المستفادة من التجربة الصينية في محاربة المرض. وعلى غرار أغلب العمل الدبلوماسي الصيني، فإن هذه الجهود تتم على المستوى الإقليمي، أو من خلال هيئات إقليمية، وتشمل إجراء محادثات مع دول شرق ووسط أوربا من خلال آلية «17 + 1»، ومع أمانة «منظمة شنغهاي للتعاون»، ومع الدول العشرة في جزر المحيط الهادي، ومع مجموعات أخرى في أفريقيا وأوربا وآسيا. وتعمل الصين بجد لنشر مثل هذه المبادرات. وتمثل جميع الأخبار على الصفحات الأولى للماكينة الدعائية الموجهة نحو الخارج إعلانا عن جهود الصين لمساعدة عدد من الدول بالسلع والخدمات والمعلومات، مع التأكيد على تفوق نهج بكين في محاربة المرض.
منظمة شنغهاي للتعاون
واشنطن.. ما زالت الفرصة قائمة
تتمثل الأصول الرئيسية التي تمتلكها الصين في سعيها نحو قيادة العالم – سواء عبر مواجهة فيروس كورونا، أو على نطاق أوسع من أزمة الفيروس الخطير – في قصور السياسة الأمريكية، وتركيزها على الداخل. وبالتالي فإن النجاح النهائي للمساعي الصينية سيعتمد على ما يحدث في واشنطن بنفس قدر اعتماده على ما يحدث في بكين. ومن ثم، فإن الأزمة الراهنة لا تزال تمنح واشنطن فرصة تحويل المد باتجاهها إذا أثبتت قدرتها على القيام بدور القائد، والذي يشمل إدارة الأزمة محليا، وتوفير مواد وخدمات عامة عالميا، وتنسيق مواجهة عالمية.
وتعد المهمة الأولى في هذه المهام الثلاثة – وهي وقف انتشار المرض وحماية القطاعات السكانية الأكثر عرضة للخطر داخل الولايات المتحدة – الأهم والأكثر إلحاحا على الإطلاق، وتتعلق إلى حد كبير بالحوكمة الداخلية أكثر منها بالسياسة الجغرافية (الجيوبوليتيكس). لكن الطريقة التي ستخوض بها واشنطن هذا التحدي ستؤدي بلا شك إلى تداعيات جيوسياسية لن تتوقف عند مجرد استعادة، أو عدم استعادة، الثقة في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، إذا كانت الحكومة الفيدرالية تدعم وتمول التوسع في إنتاج الأقنعة وأجهزة التنفس وأجهزة التهوية محليا – وهي طريقة تتلاءم مع ضرورات مواجهة هذا الوباء – فإن هذا سيساعد في إنقاذ حياة الأمريكيين من ناحية، وسيساعد الآخرين في جميع أنحاء العالم عن طريق الحد من أزمة ندرة الإمدادات العالمية من الناحية الأخرى.
وبينما تعجز الولايات المتحدة في الوقت الراهن عن تلبية متطلباتها المادية الملحة، فإن ريادتها العالمية في علوم الحياة والتكنولوجيا الحيوية يمكن أن تلعب دورا محوريا في التوصل إلى حل جذري لهذه الأزمة، والذي يتمثل في اكتشاف لقاح مضاد. كما تستطيع الحكومة الأمريكية أيضا المساعدة عن طريق تقديم محفزات إلى المختبرات والشركات الأمريكية للعمل على «مشروع مانهاتن» الطبي لاكتشاف لقاح، واختباره سريعا عبر تجارب سريرية، وإنتاجه بكميات هائلة. ولأن هذه الجهود مكلفة وتتطلب استثمارات باهظة الثمن، فإن التمويل والمكافآت الحكومية السخية لإنتاج لقاح ناجح قد يحدثان الفارق. وتجدر الإشارة إلى أنه برغم سوء الإدارة الذي تعاني منه واشنطن، إلا أن حكومات الولايات، والمنظمات غير الربحية والدينية، والجامعات، والشركات لا ينتظرون جميعا تحرك الحكومة الفيدرالية قبل اتخاذ إجراءات خاصة بهم. وقد قطعت بالفعل الشركات والباحثون الذين تمولهم الولايات المتحدة شوطا كبيرا نحو اكتشاف لقاح، رغم أنه – في أفضل الأحوال – سيمر بعض الوقت قبل أن يصبح ثم لقاح جاهز للاستخدام على نطاق واسع.
لكن، حتى مع تركيزها على الجهود في الداخل، فإن واشنطن لا يمكنها ببساطة تجاهل الحاجة إلى مواجهة عالمية منسقة. وتستطيع القيادة القوية وحدها دون غيرها أن تحل مشكلات التنسيق العالمي المرتبطة بحظر السفر، ومشاركة المعلومات، وتدفق السلع المهمة. وقد قدمت الولايات المتحدة هذا النمط من القيادة الناجحة على مدى عقود من الزمان، وعليها أن تفعل ذلك مجددا.
ستتطلب هذه القيادة أيضا تعاونا فعالا مع الصين، بدلا من الإغراق في حرب سرديات حول الأفضل. إن التأكيد مرارا وتكرارا على أصول فيروس كورونا – وهي معروفة فعليا على نطاق واسع برغم الدعاية الصينية – أو الانخراط في تبادل البيانات والخطابات لن يفيد كثيرا. وكما اتهم المسئولون الصينيون الجيش الأمريكي بنشر الفيروس وهاجموا الجهود الأمريكية، فإن واشنطن بإمكانها الرد عند الضرورة دون أن تضع الصين في قلب رسائلها عن فيروس كورونا. إن أغلب الدول التي ستخوض غمار هذه المعركة تفضل أن ترى رسالة عامة تؤكد على خطورة هذا التحدي العالمي المشترك، والسبل المحتملة للمضي قدما (بما في ذلك النماذج الناجحة لمواجهة فيروس كورونا في المجتمعات الديمقراطية، مثل تايوان وكوريا الجنوبية). ويوجد الكثير مما تستطيع واشنطن وبكين تقديمه معا لفائدة العالم، مثل تنسيق بحوث اللقاحات والتجارب السريرية، بالإضافة إلى التحفيز المالي، ومشاركة المعلومات، والتعاون في التعبئة الصناعية لإنتاج مكونات أجهزة التنفس أو أجهزة التهوية، ضمن منتجات عديدة، وتقديم مساعدات مشتركة للآخرين.
وأخيرا، قد يمثل فيروس كورونا جرس إنذار للحث على المضي قدما في مجابهة التحديات العالمية الأخرى التي تتطلب تعاونا أمريكيا صينيا، وعلى رأسها التغير المناخي. ولا يجب النظر إلى خطوة كهذه على أنها تراجع امريكي أمام القوة الصينية، وإنما خطوة على طريق استعادة الثقة في مستقبل القيادة الأمريكية. في الأزمة الحالية – كما هو الحال في قضايا ’الجيوبوليتكس‘ بوجه عام – تستطيع الولايات المتحدة أن تقوم بعمل جيد إذا قامت أو استطاعت أن تقوم بإسداء الخير إلى الإنسانية في جميع أنحاء العالم.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا