ليس هناك أجمل ولا أبدع ولا أكثر إيلاما ووجعا مما كتبه أمير شعراء الرفض أمل دنقل في رثاء رفيق رحلته ودربه المبدع الكبير الجميل النبيل «يحيي الطاهر عبد الله» الذي تحل ذكرى رحيله اليوم:
«ليت أسماء تعرف أن أباها صعد.. لم يمت.. هل يموت الذي كان يحيا.. كأن الحياة أبد.. وكأن الشرب نفد.. وكأن البنات الجميلات يمشين فوق زبد.. عاش منتصباً بينما.. ينحني القلب يبحث عما فقد.. ليت أسماء.. تعرف أن أباها الذي.. حفظ الحب والأصدقاء تصاويره.. وهو يضحك.. وهو يفكر.. وهو يفتش عما يقيم الأولاد.. ليت أسماء تعرف أن البنات الجميلات.. خبأنه بين أوراقهن.. وعلمنه أن يسير.. ولا يلتقي بأحد» من قصيدة «الجنوبي» للشاعر الراحل «أمل دنقل».
«يحيي الطاهر عبد الله» أنشودة الصعيد، الذي قَدِمَ من قريته «الكرنك» إلى القاهرة «أم المدن» كما كان يطلق عليها، غادر يحيي الصعيد ولكن الصعيد لم يفارق مخيلته في كل ما كتب، وكأنه جاء القاهرة فقط ليتمكن من نشر إطار عالم الصعيد بكل مآسيه وأحزانه، بكل آلامه وأماله، بكل طموحاته البسيطة في أن تصبح الحياة أكثر أملا وإشراقا.
روى «يحيي الطاهر عبد الله» عن شجون الصعيد مستعينا بتراثه وطقوسه، أغرق في المحلية، فتُرجِمَت العديد من أعماله لثماني لغات مختلفة. عبر جولة سريعة في كتابات بعض من تناولوا أعماله بالنقد والتحليل يمكننا أن نعرف معالم عالم «يحيي الطاهر عبد الله» الخاص المتفرد.
رواية الطوق والأسورة بلغات أخرى
الطوق والأسورة
رواية «الطوق والأسورة» درة أعمال «يحيي الطاهر عبد الله» التي أهداها: «للشجر المورق العالي، وللريح المغنية، وللإنسان – على الأرض ذات الخير- في قوته وضعفه» والتي تم تحويلها لفيلم يحمل ذات العنوان من إخراج «خيري بشارة» كما تم مسرحتها وتقديمها كعمل مسرحي، تدور أحداثها داخل عالم قرية بصعيد مصر، من خلال أسرة «بخيت البشاري» المكونة من أب مريض «مقعد» عاجز عن العمل، وزوجته «حزينة» وابنته «فهيمة» والأبن «مصطفى» النازح بعيدا بحثا عن لقمة العيش، يموت الأب وتظل الزوجة والأبنة وحيدتين، فتتزوج الأبنة من حداد القرية «العاجز جنسيا» وتحاول الأم الإستعانة بتعاويذ المشايخ السحرية لحل أزمة أبنتها، وتلجأ «فهيمة» إلى معبد الكرنك، بحثا عن سبيل.
الدكتور «طه وادي» يقف عند لحظة ذهاب «فهيمة» لمعبد الكرنك فيشير إلى أنها لحظة تمتزج فيها الخرافة بالحقيقة والأسطورة بالواقع، والتمثال بالإنسان، لتنفك العقدة وتنمو خرافة الأسطورة برحم «فهيمة» فيطلقها زوجها، وحين تضع ثمرتها المحرمة، يعود إليها زوجها يطالبها بالعودة إليه فترفض، فيلجا للزواج بأخرى وتتكرر المأساة.
أما «فهيمة» فبعد أن تضع حملها تصاب بحمى خبيثة، تجعلها تهذي وكأنها أصيبت بلوثة، ويختلط هذيان الحمى بالخرافة والناس والأشباح، فيأتي حلاق الصحة فيحجمها ليتساقط منها الدم الفاسد، فتموت «فهيمة» مخلفة وراءها ابنتها «نبوية» لتعيش مأساة أخرى تصوغها عوامل القهر والبؤس والجهل، في ظل ظروف أكثر قسوة من حياة أمها، ويعود الخال «مصطفى» خالي الوفاض على المستويين الخاص والعام، لقد ناضل في فلسطين، لكنها ضاعت في حرب «1948» وكافح ضد الإنجليز على شواطىء القناة، غير أن كفاحه قد أجهض، فعاد إلى قرية قريبة من الأقصر ليفتح «عشة» لبيع الشاي والمأكولات الشعبية.
يخلو عالم «نبوية» منذ صغرها إلا من ابن الشيخ الفاضل، ونتيجة فقر الحال تنساق الصبية إليه فتُعِيد سيرة الأم، لكن الأم كانت زوجة!، فيضربها الخال بقسوة لتعترف، وحين أصرت على الصمت دفنها بتراب الدار عدا رأسها، ليأتي ابن الخال لينفذ قدرها المشئوم، وتنتهي الرواية بعجز «مصطفى» تعبيرا عن سقوط الفقراء البائسين المكافحين، وإحتلال فلسطين وإستمرار سيطرة الإنجليز على مصر، فيما أصحاب الثروة والنفوذ يمرحون.
دكتور طه وادي وكتابه «دراسات في نقد الرواية»
يواصل دكتور «طه وادي» تحليله للرواية مشيرا إلى أن «يحيي الطاهر» في روايته قد حافظ على الإلتزام «بمنطق» البيئة الإجتماعية التي عمد لتصويرها وفقا لطبيعة الحياة في ريف الصعيد الحزين الذي يكتب عنه، وأن شخصيات الرواية تتخلق من خلال دورها في بناء الحدث وإدارة الحوار تارة، وبالحديث مع النفس أو ما يسمى بالمنولوج الداخلي تارة أخرى.
يضيف وادي أن «المعجم اللغوي» ليحيي الطاهر غاية في القوة والقدرة، إذ تبدو الجملة لديه من حيث السلامة والفصاحة والقدرة التعبيرية باهرة، وهو ما يدل على الثراء الفكري والفني الذي يتمتع به، فلغة الرواية تقترب من لغة الشعر، وهى قدرة لا يتمتع بها إلا قلة من الروائيين.
عالم «الطوق والأسورة» يعكس بوضوح ما يعانيه الإنسان في ريف صعيد مصر من صراعات مختلفة سواء كان ذلك على المستوى القدري الغيبي أم على المستوى الإجتماعي المعاش، كما يعكس مدى تمسك يحيي الطاهر بجذوره وإنحيازه لأصوله الإجتماعية التي نشأ فيها، لكن هذا لا يعني أنه لم يتمكن من التواصل مع مجمل ما يعانيه الإنسان المصري الفقير من صرعات وأزمات، بل على العكس من ذلك «فالطوق والأسورة» تعبر بصدق شديد عن مجمل القيود والأغلال التي تحد من قدرة الإنسان وتعوق سيره نحو عالم أكثر رحابة وإنطلاق.
أنا وهى وزهور العالم
«خلعت نعليها ومدت يدها، صغيرة مبلولة ترتعش، وكنا نطوف حول الشجرة.. قالت: ولكن هل يعرف الشجر الأمومة مثلنا نحن البشر؟.. قلت: للبن طعم.. والدموع مالحة.. قالت: ولكنك لم تجرب.. وقالت: لا أنا ولا أنت.. نجرؤ.. وقالت: يا لها من شجرة.. فصرخت: نعم.. يا لها من شجرة»
تناولت الكاتبة «لطيفة الزيات» بالتحليل المجموعة القصصية «أنا وهى وزهور العالم» التي تتكون من عشرة قصص، مشيرة إلى أن كل قصة من قصص المجموعة عالم فني مستقل، كل قصة تتميز بالتجريب، وتتفرد عن بقية القصص، ويتسم الحكي بالتنوع وانتقاله بين تفاصيل ذات طابع واقعي وتفاصيل «لا واقعية» ويتخذ شكل الخروج على الواقعية صفة الحلم أو الكابوس، وإن لم ينص على أنهما حلم أو كابوس، مستعينا «بفانتازيا العنف القبيح» مستندا على وسط يختلط فيه الواقع بالكابوس.
لطيفة الزيات
يمزج «يحيي الطاهر» فرحته بالحب على المستوى الخاص، بفرحة الحب العام، حب الوطن، فليس غريبا أن نجد الرواي ببعض قصصه حين يعبر عن فرحته بالحب، ينطلق مغردا بأسلوب غنائي منتشيا بالحب والخيال فيحلق متنقلا من الواقع إلى عالم الأسطورة.
وقد جسد «يحيي الطاهر» شخصية «الفهلوي» المصري، الذي يحصل على رزقه «بالفهلوة» وقد رُسِمَت تلك الشخصية بتعاطف وحب ومهارة وأمانة شديدة، فهو الإنسان المطحون الذي يتمتع ببعض الذكاء الإجتماعي الذي يمكنه من بيع كل شيىء، ويظل مع ذلك في دائرة المطحونين.
تتوقف «لطيفة الزيات» عند قصة «الشجرة» مشيرة إلى أن الجميل فيها أنه كان يحاول الإستعانة بوسائل جديدة، ومن ثم قسم «الشجرة» إلى مقطعين، وكلاهما محبوس في طوق أو سجن، أحدهما خضع لما يمكن تسميته «سجن اللغة» والآخر «محبوس» في إطار الزمن الماضي.
استعان في المقطع الأول بإيقاع كلمات مأخوذة عن الأسلوب القرآني، استخدمه كإطار للتعبير عن الرعب من السلطة، وفي المقطع الثاني عاد للماضي كإطار حاكم مستعيدا ذكرى طوافه وحبيبته حول الشجرة، مسترجعين يوم تجرآ على تذوق لبنها، ومن ثم يختلفان فيما إذا كان ما تذوقاه هو اللبن أم الدمع، أنها عودة للماضي لتلك اللحظة التي جرؤ فيها الإنسان على أن يكون ذاك الشخص الذي أراد أن يكونه.
تجمل «لطيفة الزيات» تحليلها للمجموعة القصصية مشيرة إلى أن «يحيي الطاهر» قد خلق عملا إبداعيا متميزا تمكن من خلاله من سطر بانوراما عريضة ذات طابع تاريخي، استعان فيها بأساليب «ألف ليلة وليلة» إلى جانب المأثور الشعبي، مؤكدا مرارا وتكرارا على أن ما يرويه إنما هى حكاية تحدث «هنا والآن».
أبطال الأحلام المحبَطة
قَدمَ الدكتور «عبد الحميد سليمان» تحليلا بديعا لتطور الوعي لدي شخصيات عدد من القصص القصيرة التي كتبها «يحيي الطاهر» مشيرا إلى أن بعض تلك الشخصيات تلجأ إلى عالم أحلام اليقظة في محالة لتحقيق رغباتها المحبطة في الواقع، إنها شخصيات عاجزة عن التكيف السليم مع هذا الواقع، نتيجة الطموح الكبير في مقابل ضعف الإمكانيات، لذلك فهى تلجأ إلى الغرق داخل أحلام اليقظة أو اللجوء إلى السحر والتمائم والتعاويذ والخرافات، ولذا فإن العالم الذي تعيشه تلك الشخصيات هو عالم تحكمه الخرافة ويتغلب فيه المجهول على المعلوم ويضيع فيه الإنسان خوفا من الموت والقهر معا.
د. عبد الحميد سليمان
بذات السياق تأتي شخصية «إسكافي المودة» تلك الشخصية الغارقة في الخمر الهاربة بالإعتماد على معاقرة الكأس وتعاطي أردأ أنواع المخدرات، وخلال حالة الهروب تلك قد تشرق في المخيلة الأحلام وتتحقق الأمنيات ولذلك يظل الوعي لدى مثل تلك الشخصيات وعيا مقيدا.
إن شخصيات قصص «يحيي» القصيرة في عمومها تعرف أهمية الحلم وفائدته سواء كان حلم يقظة أو من أحلام النوم، لكنها دائما ما تخضع لسطوته ومن ثم فهى تستمرؤه، وهى كذلك تعرف فائدة الحكايات في جلب النوم والراحة والهروب، إنها شخصيات متناقضة تخاف الضحك فتبكي، وتخاف البكاء فتضحك، وإذا كان هذا ما يظهر على سطح الشخصية، إلا أن عمقها يموج بالكثير من الإنفعال والتوتر والصراع، ليكتشف القارىء في النهاية أنه أمام مجموعة من الشخصيات التي تتسم بالخصوبة والثراء وتعدد المستويات.
تقاليد قصصية جديدة
فيما لفت «محمد بدوي» النظر إلى أن «يحيي الطاهر» قد عمد إلى خلق تقاليد قصصية جديدة، عبر لغة خاصة، تمتاز بالتكثيف الدال والإعتماد على التكرار والتقديم والتأخير والإتكاء على معجم حسي طامح إلى احتواء غليان «الداخل» وتأججه، والإستجابة لوطأة الخارج وضروراته، ومن ثم تمكن من تضفير لغة خاصة به مشتقة من بلاغة العرب التقليدية مع لغة الحكاية الشعبية وألف ليلة وليلة، وبصفة عامة تضمن المشروع الأدبي «ليحيي الطاهر» طرحا معمقا لعالم فقراء الفلاحين بصعيد مصر، سواء عاشوا في الكرنك، أو القرى أو غادروها إلى القاهرة، أو أصبحوا عمال بناء أو أفندية صغارا، سواء ظلوا فقراء مقهورين أو تحولوا إلى قاهرين.
مر «يحيي الطاهر عبد الله» المولود في «30 إبريل 1938» على الحياة سريعا مرور الشهاب، وتوفى في حادث سيارة على طريق القاهرة الواحات في «يوم الخميس 9 إبريل 1981» فعاد الجثمان ليستقر بقريته «الكرنك».. بكاه رفاق رحلته أدباء الجنوب وأنشدوا فيه الشعر، مثلما فعل «عبد الرحمن الأبنودي» في قصيدته «عدُّودَة.. تحت نعش يحيي الطاهر عبد الله»:
«يا يحيي.. يا عجبان.. يا فصيح.. يا رقصة.. يا زغروتة.. اتمكن الموت من الريح.. وفرغت الحدوته.. كنا شقايق على البعد.. وع القرب.. شأن الشقايق.. أنا كنت راسم على بعد.. وخانتني فيك الدقايق.. حرة كطير البراري.. أسماء.. وعاش المسمى.. دلوقت.. بتنام جواري.. في فرشتك يا ابن عمي.. أبويا.. مات السنة دي.. وأمي.. بتموت وتحيا.. ما مد لي الموت أيادي.. إلا فيك أنت يا يحيي».