نقلا عن: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
تشكل لحظة انتشار الأوبئة، مثل فيروس (كورونا المستجد)، بيئة خصبة لتصاعد التفكير التآمري، ربما أكثر حدة مقارنة بأوقات الأزمات والتغيرات التاريخية الكبرى، كأحداث 11 سبتمبر والثورات العربية، لا سيما وأن أخطار البقاء تصبح أكثر ضغطًا على ذهنيات بعض الأفراد والجماعات وحتى مسؤولي الدول، حيث قد تدفعهم للميل أكثر إلى تبني أفكار وتصورات يغلب عليها التبسيط والاختزال، والقفز السريع للنتائج دون فحصٍ كافٍ للمقدمات.
صحيح أن العلماء والمؤسسات الصحية في العالم يعملون على بناء خطاب عقلاني مضاد يشير إلى مسببات علمية محددة لنشوء تلك الأوبئة، كأن يشيروا إلى أن فيروس (كورونا المستجد) ليس إلا تطورًا طبيعيًّا لدورة حياة فيروسات، مثل السارس. لكن مع ذلك، فإن استمرار غياب لقاح أو دواء فعال، حتى اللحظة الراهنة، قد يجعل التفكير التآمري وسردياته التفسيرية المختلفة منتشرًا، وعابرًا للحدود والثقافات والمجتمعات بطريقة قد لا تقلّ عن حدة الوباء ذاته.
وتزداد فرص ذلك الانتشار مع وجود حواضن للمؤامرة، كالتضليل المعلوماتي في الفضاء الإلكتروني، والاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة حول المسؤولية عن نشر الفيروس، بخلاف الصراع العالمي بين شركات الأدوية حول إنتاج لقاح أو دواء للوباء. الأهم، تصاعد معدلات الإصابات والوفيات، وسط غموض حول متى ستتهي تلك الأزمة الوبائية. فكيف يمكن فهم دوافع وسرديات أنصار المؤامرة حول تلك الأزمة؟.
تطور الأوبئة وأفكار المؤامرة
شهد العالم على مدار حِقَبِه المختلفة سرديات تآمرية لكل أزمة وبائية مر بها، فأجواء الخوف من المجهول واللا يقين والفوضى التي تنذر بها هكذا أزمات، تدفع أنصار المؤامرة إلى البحث عن ذلك الطرف الخفيّ أو حتى المعلن الذي يقف خلفها (من المستفيد؟)، كي يتم نسج رواية تفسيرية تخلق لهم معنى لما يجري من أحداث وتفاعلات يومية في زمن الأوبئة، والتي قد تستعصي إما على الفهم العلمي، أو لا تسمح قدراتهم بمواجهة تعقيداتها وتداعياتها المحتملة.
تنزع تلك السردية التآمرية في صياغة حبكتها، إما لبناء تفسير غيبي أو أسطوري، أو حتى تعمد إلى المغالطة المنطقية عند طرح التفسيرات للأزمة، عبر الربط السببي الزائف بين أحداث متزامنة أو متعاقبة، دون إثبات دليل مشترك بينها، أو تتجه لاستنتاجات مبسطة تربط الأوبئة بالسياقات الصراعية التي تنشأ فيها، دون إيلاء أهمية للتطور الطبيعي لأي حدث، فالمؤامرة في مضمونها تنظر لتفاعلات العالم على أنها تتم بفعل فاعل.
فمثلًا، راجت تفسيرات تآمرية حول أن الألمان خلقوا الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918، كسلاح بيولوجي. وبالمثل، انتشر ادعاء تآمري بأن الولايات المتحدة خلقت الإيدز في مختبراتها في الثمانينيات. كما تكرر الأمر مع الإيبولا في إفريقيا خلال التسعينيات، والسارس في جنوب شرق آسيا عام 2002. بل إن سرديات المؤامرة تمددت لتربط بين إدارة «أوباما» وإنفلونزا الخنازير في عام 2009، إذ زعم البعض أنه فيروس مخلّق لدعم موقف تلك الإدارة إزاء نظام الرعاية الصحية. ولم تسلم أمراض أخرى محدودة مناطقيًّا من سرديات التآمر، كزيكا في البرازيل في عام 2015، حيث تشكك السكان -آنذاك- في أن وراءه تطعيمات صحية خاطئة أو مبيدات تغير من الهندسة الوراثية للبعوض الذي ينقل المرض.
في كل هذه الأوبئة، لم يُفرّق التفكير التآمري في انتشاره بين دول نامية ومتقدمة، ومجتمعات تقليدية وأخرى حداثية. الأهم أنه كلما تكررت موجة الأوبئة، وطرحت خطرًا على بقاء المجتمعات، انتعشت التفسيرات التآمرية حولها مجددًا، برغم التراكم العلمي في تشخيص أسباب الأوبئة والأمراض المختلفة التي مر بها العالم. ففي كتابه «الفيض.. أمراض الحيوانات المعدية وجائحة الوباء التالية بين البشر» الذي صدر في عام 2012، يشير «ديفيد كوامن» مثلًا إلى ملمحين أساسيين خلال تتبعه لمسارات انتشار الأوبئة في العالم، هما:
الأول: أن تدمير النظم الإيكولوجية يُعزز فرص انتشار الفيروسات من الحيوانات إلى البشر، خاصة أنها قد لا تجد عوائل في البيئة التي تظهر فيها. والثاني: أن استمرار ذلك التدمير البيئي قد يدفع إلى ظهور جوائح أشد شراسة بسبب فيض عدوى الجراثيم وانبثاقاتها.
لم تمنع تلك النتائج بعض المصابين بوباء الإيبولا القاتل في إفريقيا من اللجوء إلى السحر لمواجهته، كما يرصد “كوامن”، كجزء من ذهنيات تعامل بعض الأفراد والجماعات مع الأوبئة.
على جانب آخر، ارتبطت التفسيرات التآمرية للأوبئة المشار لها سلفًا بـ«التسييس»، كي تصبح السردية التي يتم ترويجها لأزمة الوباء أكثر قابلية ومنطقية، ولو بشكل ظاهري، حيث تختلق نوعًا من الخلط الاستدلالي بين حدث ما وسياقه، حتى لو لم تتوافر أدلة مثبتة على ذلك. فاتّهام الألمان -مثلًا- بتخليق الإنفلونزا الإسبانية، جاء في غمار صراع القوى الأوروبية في نهاية الحرب العالمية الأولى. كما ارتبط التفكير التآمري حول الإيدز بالصراع بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة إبان الحرب الباردة.
سرديات كورونا من البيولوجي للسكاني
لم يختلف الأمر في رواج سرديات المؤامرة حول وباء (كورونا المستجد) مقارنة بالأوبئة السابقة باستثناء أنها كانت أكثر انتشارًا بسبب حدة ذلك الوباء، فلم يفرق في الإصابات والوفيات بين دول متقدمة وأخرى نامية، أو مسؤولين ومواطنين، أو أثرياء وفقراء، أو شرائح عمرية، أو حتى تيارات سياسية ودينية وطائفية مختلفة. وأخذت تلك السرديات التآمرية أشكالًا متعددة، نرصد منها ثلاثة أشكال رئيسية، كأمثلة:
1- سرديات الحرب البيولوجية: زعم مناصرو تلك السرديات تارة أن وباء (كورونا المستجد) ليس إلا حربًا بيولوجية تقودها واشنطن لإضعاف الصعود الاقتصادي الصيني في النظام العالمي، وتارة أخرى بأن معملًا لإنتاج الفيروسات في الصين (ووهان) قد أصابه خلل، ما أدى إلى خروج الوباء عن السيطرة لينتشر في العالم. راجت السردية الأولى بسبب فرضية محتملة تبناها علنًا المتحدث باسم الخارجية الصينية في مارس الماضي بأن الجيش الأمريكي قد يكون وراء نشر الفيروس في بلاده. لكنها اعتمدت في مضمونها الاستدلالي على تعاقب الأحداث زمنيًّا، كسبب تفسيري لمنشأ الوباء دون دليل قاطع، إذ ربطت بين وجود عسكريين أمريكيين في محاكاة علمية بمدينة ووهان الصينية في أكتوبر 2019 وبدء ظهور الفيروس في ديسمبر من هذا العام، دون دليل دامغ، حول ما إذا كان أولئك العسكريون حاملين للمرض آنذاك من عدمه.
أما السردية الثانية فلاقت رواجًا على خلفية اتهام «توم كوتون»، النائب بالحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، للصين بالمسؤولية عن نشر الفيروس في فبراير الماضي، وأنه يتطلع لمحاسبتها. وبرغم عدم امتلاك النائب أدلةً على اتهامه، فقد ساعد على رواج ذلك التفسير ملابسات سياقية، مثل:
أ. وجود مختبرات للفيروسات في مدينة ووهان الصينية يتعاون معها خبراء أجانب.
ب. اتهامات لمنظمة الصحة العالمية بالتواطؤ مع الصين لإخفاء المرض، منذ ظهوره في ديسمبر 2019، مما أخّر تعامل الدول مع جائحة كورونا.
ج. السياق الصراعي بين الولايات المتحدة والصين، والذي يشهد حربًا تجارية منذ صعود «ترامب» إلى السلطة.
د. تهوين «ترامب» ذاته من الوباء في بدايته، ووصفه له بـ«الفيروس الصيني»، ما جعل البعض يتصور بأن واشنطن ربما تملك معرفة مسبقة بمنشأ ذلك المرض.
لكن سرديات الحرب البيولوجية تعرضت لتحديات تتعارض مع منطقها. فمن جهة، تغيّرت جغرافيا الإصابات والوفيات في العالم جراء وباء كورونا، فباتت الولايات المتحدة تتصدر حاليًّا القائمة العالمية للإصابات، لتفوق دولًا أوروبية كإيطاليا وإسبانيا والصين وإيران. ومن ثمّ فليس منطقيًّا أن تخلق دولة فيروسًا وبائيًّا لتؤذي شعبها، أو تهدد وضعيتها كقوة عالمية. ومن جهة أخرى، فإن إجراءات الإغلاق الحدودي بين الدول لمكافحة الوباء أدت لركود اقتصادي عالمي، وهو أمر لا يصب -عند النظر في تأثيراته المحتملة- لا في مصلحة الاقتصاد الصيني أو الأمريكي، برغم حدة التنافس بينهما، خاصة وأن نمو الاقتصاد الصيني ذاته يعتمد على الطلب الاقتصادي من أسواق الدول الغربية والنامية التي أصيبت بالصدمة.
2- سرديات الانتقام الإلهي: إذ يفسر مناصرو المؤامرة وباء (كورونا المستجد) بأنه انتقام إلهي ضد غير المؤمنين الذين اقترفوا انحرافات أخلاقية وقيمية (مثل المثلية الجنسية)، بما جعلهم يرون الفيروس ذاته يُمثل إصلاحًا لذلك الخلل. تَشَارَكَ في تلك السردية منتمون لكافة الديانات السماوية. فمثلًا، زعم القس الأمريكي «ريك وايلز» في ولاية فلوريدا أن الفيروس هو «ملك الموت» المرسل من الله ضد الفسق والإلحاد، بينما ذهب بعض رجال الدين المتشددين في الشرق الأوسط إلى اعتبار الوباء عقابًا على اضطهاد المسلمين في الصين.
ومع رواج تلك السرديات في بلدان عدة، كالعراق وإيران مثلًا، عارض بعض المتشددين غلق المساجد والمراقد، كجزء من سياسات الحكومات لاحتواء وباء كورونا، وزعم بعضهم أن الاستغفار له أولوية على حفظ النفس، برغم أن الأخير يُعد المقصد الرئيسي للشريعة الإسلامية، هذا بخلاف أن دار الإفتاء المصرية ذاتها أكدت في مارس الماضي أن الجزم بأن «الوباء عقاب من الله لا يصح، لأنه أمر غيبي»، وأن الإسلام يحض على عدم إهمال الأسباب والوقاية من الوباء.
بالمثل، عارض قساوسة إغلاق الكنائس في بداية الأزمة الوبائية في بعض الولايات الأمريكية تحت دعوى أن الفيروسات قد لا تمسها، وأن ذلك «قد يخدم الشيطان»، كما الحال مع ادعاءات الأب «آدم يونج» في ولاية رود آيلاند في مارس الماضي. وكذلك الأمر في الأحياء التي يقطنها يهود متشددون في إسرائيل، حيث خرقوا حظر الصلاة والتجمع. ولعل تقارير لصحف إسرائيلية كـ«هآرتس» قد ذكرت نقلًا عن معطيات لوزارة الصحة في نهاية مارس الماضي أن إصابات كورونا في مجتمعات اليهود المتشددين (الحريديم)، خاصة في القدس المحتلة وبني براك، أعلى من نظيرتها في المدن الأخرى، وبالتالي لم يفرق الوباء في إصاباته بين مؤمنين وغير مؤمنين، وفقًا لسردية الانتقام الإلهي.
3- سرديات تقليص السكان: وتزعم أن نشر وباء كورونا يرجع إلى مساعي أطراف في العالم إلى تخفيض عدد السكان لتخفيف حدة الصراع على الموارد، عبر التضحية بمن هم أكبر سنًّا أو حتى الأكثر فقرًا. وقد روّج لمضامين تلك السردية مشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي، أمثال الملاكم البريطاني «أمير خان»، الذي زعم أن هناك ارتباطًا بين انتشار الوباء وشبكات الجيل الخامس من المحمول في ووهان بالصين والدول المتقدمة، حيث تنتج تلك الشبكات موجات كهرومغناطيسية تسبب عدوى كورونا، مدعيًا أنه لذلك السبب لم ينتشر الوباء في القارة الإفريقية، وهو ما تسبب في مهاجمة بعض السكان في بريطانيا لأبراج هذه الشبكات.
اعتمدت تلك السردية على منطق التجاور الزمني والمكاني للوقائع أو الأحداث، دون ربط علمي أو إثباتات قاطعة، إذ نفت السلطات البريطانية هذا الارتباط، بخلاف أن الوباء ذاته طال دولًا إفريقية لا تملك بالأساس شبكات الجيل الخامس. وحتى إن بدت بعض تلك الدول أقل انتشارًا للوباء على الأقل حتى اللحظة الراهنة، مقارنة بدول الشمال المتقدم، فيعزو العلماء ذلك إلى عوامل لا تزال غير محسومة علميًّا من قبيل: المناخ، والهيكل العمري الشاب للسكان.
وعلى الرغم من أن دولًا أوروبية لم تهمل كبار السن أثناء العلاج من كورونا مثل ألمانيا، أي إنها لا تستهدف تخفيض أعداد سكانها؛ فقد راجت سردية تقليص السكان مفتقدة الأدلة لعدة اعتبارات سياقية، منها:
أ. تصاعد وفيات كبار السن لكونهم الأكثر عرضة لفيروس كورونا بسبب ضعف مناعتهم مقارنةً بالفئات الشبابية، لكن اتضح لاحقًا أن هذه الفئات الأخيرة قد يصيبها المرض أيضًا، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
ب. بروز استراتيجية مناعة القطيع في بريطانيا، في محاصرة وباء كورونا، لكن تم التراجع عنها نظرًا لتحور الفيروس، فضلًا عن افتقادها للبعد الإنساني والأخلاقي. ومفاد هذه الاستراتيجية أن يمارس المجتمع حياته بشكل طبيعي في ظل انتشار الوباء، بحيث يصاب معظمه، ويأخذ مناعة طبيعية جماعية ضد الفيروس، ولكن قد يسقط ضحايا أقل مناعة.
دفعت هذه الفكرة أنصار سرديات التآمر إلى ربطها تعسفيًّا بنظريتين جدليتين في الفكر الغربي تعرضتا لنقد شديد؛ إحداهما الانتخاب الطبيعي لداروين (البقاء للأصلح)، أي إن المجموعات الأضعف لن تستطيع البقاء إذا كانت قدرتهم على التكيف مع تغيرات البيئة أضعف. والأخرى لـ«مالتوس» حول أن الأوبئة والحروب تمثل تصحيحًا لخلل التناقضات بين التزايد السكاني ونقص الموارد.
دوافع متعددة وذهنيات الأوبئة
ثمة دوافع متعددة وراء رواج سرديات المؤامرة حول كورونا، وهي في مجملها ربما تشكل جانبًا من تشكيل ذهنيات الخوف التي تتشكل لدى بعض الأفراد والجماعات في وقت الأوبئة، ومنها:
1- الدفاع النفسي: إذ تصبح سرديات المؤامرة في سياقات الأوبئة نوعًا من «الدفاع النفسي»، سواء الفردي أو الجمعي، بغية مواجهة ضغوطات هجومية من وباء غامض وغير مسيطَر عليه. إذ تمنح تلك السرديات قدرًا من التحكم والانتظام بل الأمان النفسي، ولو كان زائفًا، في مواجهات سياقات عشوائية، أو حتى مؤقتًا بانتظار ظهور الدواء أو اللقاح. وإذا علمنا أنه إذا كان التفكير التآمري يفترض تحكم طرف بنشر الوباء، فبالتالي يُتوقع إنهاؤه الأزمة في وقت ما إذا حقق أهدافه. لذا، ارتبط رواج المؤامرة حول كورونا بمزاعم حول أن اللقاح قد يكون موجودًا، ولكن الشركات التي تتآمر على العالم قد تخفيه لأجل مصالحها، وأنها ستظهره في وقت ما، وتستدل تلك المزاعم بشكل فيه مغالطة منطقية مع مساعي إدارة «ترامب» لشراء حقوق لقاح ألماني ضد فيروس (كورونا المستجد).
2- تبرئة الذات: حيث تمثل فكرة المؤامرة نوعًا من تبرئة الذات عبر إلقاء المسؤولية على الآخرين، سواء أكانوا قوى غيبية أو حتى معلنة. وتلعب تلك التبرئة أو الإعفاء من المسؤولية دورًا نفسيًّا في تهيئة أنصار التفكير التآمري للعب دور الضحية في الأزمة، وتقبل كافة احتمالاتها بما فيها سيناريو الموت. ولعل أحد مخاطر سرديات الانتقام الإلهي المشار لها سلفًا حول الوباء أنها تشكل ذهنية «الاستسلام القدري» وليس «الحفز العقلاني» لمواجهة الأزمة، وذلك على خلاف ما تحث عليه الأديان السماوية الإنسانَ من سعي مهما كانت الظروف معقّدة.
3- غياب الكلفة: إذ يعتقد أنصار المؤامرة أنها غير مكلفة، فهم لن يخسروا شيئًا حال أثبتت الأحداثُ عكسَ ما يعتقدون من ادعاءات. فتبني المؤامرة هو اعتقاد مسبق أكثر منه نتيجة لفحص أدلة. وربما يكون ذلك صحيحًا في تفسيرات أزمات كبرى، لكن المعضلة أن انتشار سرديات المؤامرة حول وباء كورونا خلق مخاطر من قبيل إضعاف سياسات الدول وإجراءاتها الاحترازية لمواجهة الوباء، بل أسهم في إنكار بعض السياسيين والمجتمعات له في بداية الأزمة، كما برز في إيطاليا والولايات المتحدة، مما أدى إلى تأخر في إدارة الأزمة وتفاقم تداعياتها.
4- تسييس الأوبئة: فخلط مسببات الوباء بصراعات المصالح بين الدول يحفز على تبني سرديات التآمر، كما جرى في الاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، فكل دولة منهما ترغب في إلقاء المسؤولية على الأخرى، سعيًا لنزع الشرعية الأخلاقية عنها. لكن في المقابل، أدى ذلك التسييس إلى إضعاف التعاون الدولي لمكافحة الفيروس، وبروز بعض السلوكيات الأنانية بين الدول، بخلاف تعزيز خطابات الكراهية، كما جرى في الأحداث التي استهدفت الآسيويين في الدول الغربية، على خلفية اتهام الصين بأنها وراء الفيروس.
5- الإرث التخيلي: فثمة إرث إنساني تراكم جراء الروايات الأدبية والأفلام السينمائية حول الأوبئة، وشكّل محفزًا لرواج سرديات المؤامرة حول كورونا. حيث إن تلك الروايات تحوي تصورات افتراضية عن نشأة الأوبئة ومخاطرها يختلط فيها الواقع بالخيال الأدبي، كما الحال مع فيلم «العدوى» contagion. المعضلة هنا أن أنصار التفكير التآمري يقاربون تلك الروايات والأفلام بالواقع، بالرغم من أن الأخير قد يختلف عن الحبكة الدرامية التي قد تتضمن نوعًا من المبالغة بغية الجذب التسويقي. فبينما أدى فيروس فيلم «العدوى» -مثلًا- إلى وفاة الملايين، فإن ذلك لم يحدث على الأقل حتى اللحظة الراهنة مع وباء (كورونا المستجد). على جانب آخر، فإن ترويج أفلام أمريكية عديدة لفكرة يوم القيامة وفناء البشرية وإعادة إنتاجها من جديد بعد حروب أو أوبئة يُغذّي التفسيرات التآمرية، التي يتجه بعضها إلى اعتبار الأوبئة جزءًا من التطهير الجماعي للبشر على ما اقترفوه من أخطاء.
6- التفاوت واللا مساواة: ثمة علاقة ارتباطية بين انتشار سرديات المؤامرة حول الأوبئة وحالة التفاوت واللا مساواة في العالم. ولعله ليس مصادفة -مثلًا- أن تحوي تلك السرديات مزاعم من قبيل أن مجموعة سرية غامضة من الأثرياء والمشاهير ترغب عبر الأوبئة في السيطرة اقتصاديًّا على العالم واستغلال الفقراء. وتزداد القابلية لهكذا سرديات بسبب طبيعة الواقع العالمي الذي يشهد تفاوتًا ولا مساواة، سواء داخل أو بين الدول والمجتمعات، قد يُعزى في جانب منه إلى سلوكيات الرأسمالية الغربية وشركاتها العالمية التي تتربح من الأزمات، كما يشير «أنتوني لوينشاتين» في كتاب «رأسمالية الكوارث»، عندما يرصد أن نسبة الواحد بالمائة الأكثر ثراء بين سكان العالم تملك قرابة 46% من مجموعة الأصول العالمية.
7- انحيازات وادّعاء معرفي: تزداد الدوافع لتبني سرديات المؤامرة في ظل اتساع عمليات التضليل الإلكتروني على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يُبدي الناس أحيانًا إعجابهم بتلك السرديات دون فحص، أو بمنطق الانحياز لما في أذهانهم من تصورات مسبقة حول منشأ الأوبئة، فضلًا عن أن غموض الأوبئة وتعقيد فهمها إلا لشريحة متخصصة صغيرة من علماء الفيروسات قد يجعل بعض السلوكيات على وسائل الاتصال الاجتماعي تلجأ إلى الادعاء المعرفي الذي يغذي سرديات المؤامرة حول الأوبئة، حيث يزعم بعض الأفراد معرفتهم بأسرار لا يملكها الآخرون.
يظل في الأخير أن انتشار سرديات المؤامرة حول وباء (كورونا المستجد) هو جزء لا يتجزأ من حالة التفاعل الإنساني للمجتمعات مع خطر الوباء. ومع أنها حالة قد تظهر في بداية الأزمة، وتخبو نسبيًّا إذا توصل العالم للقاح لمواجهته؛ لكنها تظل فرصة لاكتشاف طريقة تفكير شرائح مجتمعية في أوقات الخوف من الأوبئة، ومدى انعكاس ذلك على سلوكياتها وإدارتها للأزمة.