رؤى

ما بعد الكورونيالية: أو ذلك العدم الذي يقف على الأبواب (1-2)

 تقديم 

   في سياق اهتمام «أصوات أونلاين» باستئناف النهضة والتنوير العربي، نلاحظ اعتياد باحثينا ومفكرينا الاعتماد على نقل المصطلحات الغربية واللهاث ورائها، وهى مصطلحات تعبر عادة عن رؤية للعالم وظواهره من منظور البيئة الثقافية التي نشأت فيها. وهو ما يعد أحد مظاهر الركود والكسل الفكري الذي يعاني منه الفكر العربي المعاصر، تهربا من المسؤولية والشجاعة الفكرية التي يتطلبها التأمل الفكري المستقل والمباشر في الظواهر التي تمر بنا وبالعالم من حولنا. ومن هنا يأتي حرصنا على تشجيع كل محاولة أصيلة لفهم الواقع وتحولاته المتسارعة من منظورنا الثقافي الخاص، بعد استيعاب اجتهادات الآخرين والتفاعل الإيجابي معها.

   ولعله مما يجدر تنبيه القارئ إليه أن مصطلح مابعد الكورونيالية Post-Coronalism ليس مصطلحًا غربيًا تمت ترجمته إلى العربية، وإنما هو مصطلح جديد من نحت وابتكار الدكتور شاكر عبد الحميد؛ وقديمًا ربط ابن جني بين القدرة على (نحت) المصطلح، وبين ما أطلق عليه «شجاعة العربية». ولا شك أن العربية قد ضَعُفت بإحجامنا عن نحت وتوليد مصطلحات جديدة حتى إن كانت أصولها غربية. كما يجدر تنبيه القارئ العزيز أيضا إلى أنه لم ترد من قبل هذا المقال إشارة- من قريب أو بعيد- إلى مثل هذا المصطلح في كتابات أو حوارات المفكرين الكبار الذين اهتموا  برصد الظواهر اللاحقة والمتوقعة عقب اجتياح فيروس كورونا العالم ومنهم- تمثيلا لا حصرا- إدجار موران، وسالفوي جيجيك، وألان تورين، وجوزيف ناي، وستيفن والت وغيرهم…

أصوات أونلاين 

 

«الشبح الذي يركض في الخارج

يرد البشرية إلى طفولتها

ويعيد الطبيعة إلى سيرتها الأولى»

الشاعر: إبراهيم عبد الفتاح

يعيش العالم الآن في ظل وباء أشبه بالكابوس المستمر المخيف، ربما لم يكن هو أكثر الأوبئة التي مرت على البشر قسوة ومرارة لكنه بالتأكيد أكثرها غموضًا، إنه وباء قد اجتاح العالم كطوفان كوني ولم تزل الدنيا تترنح تحت ضرباته وتئن، وقد يستمر هذا الأنين لوقت طويل. إن قراءة متعمقة في تاريخ الأوبئة والطواعين سوف تفضي بنا إلى معرفة خصائص الأوبئة السابقة التي مرت على البشر خصائص، والتي تنطبق أيضًا على هذا الوباء الأخير المسمى بالكورونا. فقد كانت تلك الأوبئة أيضًا في أغلب الأحوال ذات طبيعة عالمية، أي أنها معولمة الطابع، وكذلك قيل إن مصدر الكثير منها هو الشرق، وقد تكرر ذكر الصين فيما يتعلق بأكثر من وباء، كما ورد ذكر مصر أيضًا فيما يخص طاعون جستنيان الذي أصاب الإمبراطورية البيزنطية الشرقية ما بين عامي 541-542 ميلادية، ويقال كذلك إن مصدر الكثير من الأوبئة هو الحيوانات و الطيور والحشرات والفئران والبراغيث في الماضي، والخنازير والخفافيش في الحاضر، كما أن هذه الأوبئة هي في الغالب ذات طابع «كُموني» أي أنها تظهر ثم تكمن ثم تعود، إنها تعود وتتجلى على أنحاء شتى، لكنها أبدًا لا تختفي، إنها تعيش معنا، أحيانا في الظل وأحيانا في النور، لكنها في الغالب ظلية الطابع تنعم بالتخفي والغموض والسرية، كذلك كان يسبق الأوبئة أو يعقبها تدفق في الفكر والحياة، فقد كان وباء جستنيان تمهيدًا لقدوم العصور المظلمة بينما كان وباء الموت الأسود (1347-1352) تمهيدًا لظهور عصر النهضة وكان وباء الانفلونزا الإسبانية عام 1918 مقدمة لنهضة فنية وأدبية وعلمية هائلة لاحقة جاءت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى.

طاعون جستنيان

من ووهان وإليها

ووهان هي عاصمة مقاطعة هوبي في وسط الصين ناحية الشرق وهي سابع أكثر المدن الصينية اكتظاظًا بالسكان إذ يبلغ عدد سكانها حوالي 11 مليون نسمة، وهي تقع على نهر تشانج جيانج عند التقائه بنهر «هان»، وهي المركز السياسي والاقتصادي والمالي والتجاري والتعليمي لوسط الصين، حيث تمر بها عشرات السكك الحديدية والطرق السريعة ويوجد بها أكثر من 350 مركزًا للأبحاث و 1656 مؤسسة للتكنولوجيا الفائقة، واستثمارات لكثير من الشركات العالمية، وقد اختارتها منظمة اليونيسكو عام 2017 كمدينة عالمية في مجال فنون التصميم واحتلت جامعة ووهان كذلك المرتبة الثالثة على مستوى الصين، كما توصف المدينة أحيانًا بأنها «بيت العالم» وبها أكبر مطارات الصين؛ وفي ووهان، تقوم مجموعة شركات «واندا جروب» Wanda Group  (والتي يعني اسمها في اللغة الصينية: كل شيء قابل للإنجاز) التي تعمل في مجالات الانترنت والفنون والسينما والعقارات وغيرها بالتمويل لمشروعات كثيرة تتعلق بالصناعات الثقافية والإبداعية الخاصة بالسينما والمسرح والموسيقى وتضخ فيها مليارات الدولارات، وهناك كذلك استثمارات لأكثر من 230 شركة صينية وعالمية في ووهان، وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لهذه المدينة 224 مليار دولار.

في أواخر ديسمبر 2019 نشر الطبيب لي وينليانج، والذي توفي بسبب هذا الفيروس، رسالة على مواقع التواصل الاجتماعي مُحذِّرًا من ذلك السارس الموجود في سوق المأكولات البحرية في ووهان، وقد تم تحذيره وعوقب لاحقًا، حيث أدان بيان صادر عن شرطة ووهان في الأول من يناير ذلك الطبيب وتم تحذيره بشدة من كتابة ما يكتبه، ثم مات ذلك الطبيب وتم تكريمه بعد ذلك.. القصة المعروفة الآن.

الطبيب لي وينليانج

وفي أواخر يناير 2020 أغلقت المدينة وعزلت نتيجة لتفشي فيروس كورونا المستجد فيها، وبعد أن غادرها ما يتراوح بين خمسة وسبعة ملايين شخص قبل إغلاقها وفرض الحجر الصحي عليها، قيل إنهم قد نشروا هذا الوباء في العالم.

بعد شهرين تقريبًا من ذلك الإغلاق وفي الثامن والعشرين من مارس أعادت ووهان تشغيل بعض خدمات المترو وأعادت فتح الحدود وبدأ جمع شمل العائلات وظهرت أولى بوادر عودة الحياة الطبيعية إلى مجاريها وسمحت السلطات الصينية بدخول القطارات إليها وعودة العالقين خارجها إلى أهلهم وأعمالهم، لكن تلك الشرارة الفيروسية التي انطلقت من ووهان كانت قد اجتاحت العالم بسرعة البرق فأصابت أكثر من 200 دولة وتوالت موجات الإصابات التي لحقت بحوالي مليونين من البشر والوفيات التي تجاوزت المائة ألف مع حدوث نسب تعافي أيضًا قاربت الثلاثمائة ألفا أو يزيد حتى العاشر من أبريل الحالي.

وتدريجيا بدأت عودة الناس إلى أعمالهم مع فرض رقابة صحية وأمنية صارمة على تحركاتهم وسلوكياتهم وارتدائهم للأقنعة والقُفَّازات مع مراقبة للشوارع وغيرها عن طريق الدرونات أو الطائرات التي بلا طيار، أما العالم كله فلم يزل حتى هذه اللحظة واقعًا تحت تأثير تلك الصدمة وذلك الرعب، غير قادر على الاحتفال أو الغناء.

وفي ظل هذا الفزع العالمي وهذا الخوف المهيمن وهذا الانهمار الكوني الذي لا يتوقف عبر وسائل الإعلام للمعلومات والمشاهد الخاصة بالإصابات والوفيات وأعداد المتعافين وسلوك البشر والشوارع الخالية والغلق لمعظم أماكن العمل والترفيه والحياة؛ كان لا بد من التفكير في بعض الأطر النظرية التي تحاول أن تفسر ما يحدث في عالمنا الآن، أو على الأقل تحاول أن تفهمه، وهذه محاولة أولى على هذا الطريق.

مصطلح «ما بعد الكورونيالية»

كنت قد طرحتُ مصطلح ما بعد الكورونيالية Post-Coronialism بهذه الصيغة على نحو متهكم على صفحتي على موقع الفيس بوك مصحوبًا بدعوة إلى قيام الأدباء والنقاد وعلماء العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى الاهتمام بتصوير ودراسة ما أصبح عليه حال البشر بعد انطلاق هذه الجائحة، ولكن هذا المصطلح ما لبث أن تطور واكتسب جدية خاصة، بفعل ما جرى من مناقشات جادة أو متهكمة حوله بيني وبين الأصدقاء، بل إنه قد جرت الإشارة إليه أيضًا في بعض المقالات الحديثة على بعض المواقع ومن ذلك تمثيلاً إشارة الكاتب المبدع والمفكر السياسي والاجتماعي المرموق الدكتور عمار علي حسن إليه في مقال له بعنوان «العالم بعد كورونا» (نشر في جريدة الاتحاد الإماراتية في التاسع من أبريل الجاري)، كما أن الدكتور عمار أيضًا هو تحديدًا من شجعني من قبل على كتابة هذا المقال.

وفيما يلي بعض الخصائص المميزة التي أراها مُحدِّدة لهذا المصطلح:

أولا: لا يتعلق هذا المصطلح بما سيحدث بعد أن ينتهي هذا الوباء الذي نعيش في ظلاله القاتمة المخيفة الآن، بل يتعلق بكل ما حدث وسيحدث في العالم بعد أن ظهر هذا الوباء وبعد أن سمعنا الأخبار الأولى عن وجوده في مدينة ووهان الصينية ثم انتشاره وتأثيراته على حياة الناس كافة، في مجالات العمل والأسواق والسياحة والصحة والتعليم والثقافة والترفيه والسفر والمشروعات الاقتصادية والعبادة وغير ذلك من المجالات، وهي تأثيرات سوف تستمر وتنعكس في حياة البشر الاقتصادية والسياسية والتعليمية والاجتماعية والثقافية والفنية والدينية والصحية والإبداعية على أنحاء شتى لا نعرف الكثير منها الآن.

ثانيًا: يمكن النظر إلى هذا المصطلح المقترح على أنه مصطلح بينيّ Interdisciplinary، أي يوجد في منطقة مشتركة تقع بين علوم عدة كالبيولوجيا، وعلم النفس، والاقتصاد، والفلسفة، والدراسات الثقافية، والنقد الأدبي وغيرها؛ فهو يستفيد منها وقد يفيدها أيضًا، وهو أيضًا مصطلح يخضع للمراجعة والتعديل في ضوء ما قد يدور حوله من نقاش، كما يستفيد هذا المصطلح من تلك الاتجاهات الموجودة في النقد الأدبي والثقافي والمتعلقة بما يسمى بنظريات التلقي واستجابة القارئ لدى هولب وأيزر وفيش وغيرهم، وكذلك من دراسات تحليل الخطاب عند فوكو وغيره من المفكرين، كما ينتمي هذا المصطلح- في ظني- إلى عائلة المصطلحات الأخرى القريبة منه والتي ورد ذكرها في التراث الفكري الإنساني عبر السنوات والقرون الماضية ولعل من بين هذه المصطلحات، تمثيلا لا حصرًا، مصطلحات: الجليل Sublime، والغرابة The Uncanny، وما بعد الحداثة Post Modernism، والتفكيكية Deconstructionism ، والحداثة السائلة Liquid Modernism، وما بعد الحقبة الاستعماريةPost-Colonialism، وغيرها، وبالطبع سيصعب أن نحيط بكل تلك العلاقات الموجودة بين هذه المصطلحات.

ميشيل فوكو وكتابه «نظام الخطاب»

ثالثًا: يتعلق هذا المصطلح بتلك التأثيرات التي أحدثها ظهور هذا الفيروس، وما أعقب ظهوره، بداية من شهر يناير 2020 على جوانب الحياة الإنسانية كافة، وهي التأثيرات أو الآثار التي لم تزل تحدث وسوف تظل تحدث ربما على نحو غير مسبوق في تاريخ البشرية، كما يحاول أيضًا أن يصف تلك التأثيرات ويفسرها. باختصار يمثل هذا المصطلح إطارًا تفسيريًا لدراسة وفهم هذه التأثيرات الغريبة The Uncanny Effects لهذا الفيروس على حياة البشر. مع ضرورة أن نشير هنا إلى أن فكرة «دراسة الأثر» التي نتبناها هنا، فكرة تتجاوز مجرد الدراسة لعمليات التلقي البسيطة أو المركبة للعمل الأدبي أو الفني أو الثقافي؛ كما تفعل نظريات التلقي واستجابة القارئ أحيانا إلى دراسة الاستجابات الكلية الفردية والاجتماعية الموجودة في المجالات النفسية والاجتماعية والطبية والدينية والجمالية والابداعية والسياسية.. إلخ، وردًا على ما يحدثه هذا الوباء من تأثيرات.

رابعًا: يصف مصطلح ما بعد الكورونيالية كل ما هو لا مرئي غامض مخيف فيروسي الطابع في العلاقات الاجتماعية والممارسات السياسية والاقتصادية والسياسية، إنه لا مرئي ومخيف وغير متوقع أيضًا، له طابع سري خفي غامض ملغز متسلل منسل، يوجد بداخلنا دون أن نعرف، يعيش معنا ويقتات على مصادر حياتنا ومصائرنا، لا يتعلق أمره هنا فقط بالجهاز التنفسي أو بكرات الدم الحمراء ومادة الهيموجلوبين التي يهاجمها الكورونا الأصلي، النموذج الأصلي، النمط الأول في الحالة الكورونيالية المرضية، بل يمتد ليشمل جوانب الحياة كافة، أي أنه يتعلق بالفكرة الكلية الخاصة بالكورونا كفكرة جحيمية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة التدميرية للغامض الخفي المخيف غير المرئي.

خامسًا: يبدو لنا أن هذا المصطلح شديد القرب من مصطلح «الغرابة» لدى فرويد، لكن الغرابة لديه ولدى الكثير من أتباعه محض غرابة بصرية، أما الغرابة ما بعد الكورونيالية فهي تختلف عن ذلك؛ إنها غرابة اللامرئي، إنها ليست غرابة تتعلق بتلك التيمات الخاصة بمصاصي الدماء، والأشباح والقرين والموتى الأحياء والقصور والأديرة القوطية أو غرابة تتعلق بالخداع البصري أو الهلاوس، كما كان الحال لدى فرويد، ولا هي غرابة الجثث التي تحدث الاضطراب لدى من يواجهها وبوصفها احتمالاً للضعف والهشاشة والخوف والجروح التي تنزف الدم والصديد ومشاعر النفور والتقزز ورائحة العرق النفَّاذة المُقزِّزة الناتجة عن التحلل وجوانب الغرابة المادية المتجسدة في الموتى، كما كان الحال لدى جوليا كريستيفا، إنها غرابة الموت وغرابة سلوك الناس إزاء الموت، وكذلك غرابة التناقضات الموجودة بين أقوالهم الدينية التي تتحدث عن تكريم الموتى (وقولهم المأثور: أن إكرام الميت دفنه) وذكر محاسن الموتى وبين رفضهم الاقتراب منهم أو حتى دفنهم على نحو يتفق مع التكريم لهم كما حدث في الحادي عشر من أبريل الحالي (2020) في قرية شبرا البهو بمحافظة الدقهلية حين تجمهر الأهالي لمنع دفن جثة طبيبة، توفيت بمستشفى العزل في الإسماعيلية بعد إصابتها بفيروس كورونا، خوفًا من العدوى على الرغم مما قاله الأطباء من أن جثث الموتى لا تكون مُعدِية هكذا كما يظنون وإن العدوى تنتقل فقط من الرذاذ المتناثر من فم وأنف الأحياء فقط، هنا غرابة ترتبط بالموت والحياة، ليس بالمعنى البيولوجي فقط، بل بكافة جوانب حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية أيضًا، تلك التي تتحول من خلالها عاداتنا وعلاقاتنا المألوفة إلى عادات وعلاقات غير مألوفة، هنا يسري شيء غامض، سري لا مرئي، سيال ومخيف كي يسكن كلاً منا: في البيت والعائلة، الصداقة والحب، العمل ومراكز التسوق، مطاعم الوجبات السريعة ووسائل النقل العامة، المستشفيات والبنوك وغير ذلك من العلاقات والأماكن التي كانت مألوفة، هكذا تصبح فجأة وعلى غير انتظار غير مألوفة ومُحاطة بالخوف ومحفوفة بالموت ونذره في ظل هذا الدخيل الجديد( كائن أو تكوين غير مرئي) لا تدركه العين ولا ترصده كاميرات التصوير، ولا يتجسد من خلال الشاشات.

الغرابة ما بعد الكورونيالية

تتمثل الغرابة كما وصفها الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر في أن «يُترَك الإنسان العاجز، هكذا غريبًا في الفراغ والعدم»، وهي لديه أيضًا «ذلك الطابع الجوهري لوجودنا في العالم، وذلك لأننا لسنا في بيتنا أو عالمنا، بل في حالة دائمة من القلق، كذلك تحدَّث نيتشه في كتابه «إرادة القوة» عن العدم الأوروبي فقال: «إن العدم يقف على الأبواب، ومن ثم كانت تلك الغرابة من كل نوع»، وترتبط الغرابة لدى فرويد بحضور الموت في الحياة والحياة في الموت، بأن يكون الموت المُهيمن من خلال تكراره على الحياة، بأن يكون الموت في المركز وبعد أن كان في الهامش، وبأن يكون هكذا مُتكرِّرًا، دائم الحضور وإن بعد غياب، ففي غيابه حاضر وفي حضوره نتمنى أن يكون غائبًا. إن الغرابة هكذا ليست شيئًا جديدًا، لكنها شيء مألوف، شيء يتعلق بحياتنا وموتنا، شيء مألوف راسخ في العقل منذ القدم، شيء حاولنا أن نبعده عن تفكيرنا منذ وقت طويل، بفعل التربية والحضارة والفن والإبداع والحب والعلاقات الإنسانية وعمليات الامتلاك والكسب وكل ما قد يشعرنا بأننا نقف على أرض ما ثابتة تؤكِّد لنا أننا لسنا موتى، أو أننا لسنا في طريقنا للموت، هكذا نحاول أن نُبعِد عن عقولنا هذه المشاعر المُخيفة، لكنها دائمًا ما تعود إلينا بعد كمون، تعود وتُكرِّر نفسها، لقد حاولنا أن نبعدها عن أذهاننا ومشاعرنا بأن وضعناها في شكل أعمال إبداعية نخدع أنفسنا ونقول عنها إنها خالدة، أو علاقات اجتماعية نخدع أنفسنا ونقول عنها أنها قوية وراسخة، أو ممتلكات ومكاسب نظن أنها باقية ستحمينا. لكن العدم يظل أيضًا موجودًا هناك، ليس على أبواب أوروبا فقط كما كان نيتشه يقول بل على أبواب العالم كله، بل على أبواب بيوتنا وغرف معيشتنا ونومنا أيضًا.

من المهم أن ننتبه هنا على نحو خاص إلى ذلك الجانب الخاص بالآلية والتكرار التي تحول المألوف والعادي إلى غير مألوف، الموت الذي كان أمرًا عاديًا يحدث من حين إلى حين في حياتنا، ونعتبره مرتبطًا بالمرض أو الحوادث أو الحروب أو نهاية العمر..إلخ، يصبح الآن لا قانون له، فالقانون السائد الآن هو الفقد والغياب والموت، الفقد لكل شيء بما في ذلك اليقين، وحيث اليقين الوحيد كما أشار فيلسوف الحداثة السائلة زيجمونت باومان هو اللايقين، هنا كائن صغير جدًا، غير مرئي، يُحوِّل كل ما هو مرئي إلى لامرئي، هنا لم نعد نعيش في «عصر الصورة» بل في «عصر ما وراء الصورة»، وما وراء الصورة عصر غامض ومُوحِش ومخيف، لقد اخترع الإنسان آلات وآليات التصوير الفوتوغرافي (1839) والسينمائي (1895) والتليفزيوني (1920) والحاسوبي (1936) والرقمي (تسعينات القرن العشرين) كي يجعل كل شيء أمامه وحوله مرئيًا مُجسَّدًا مُدرَكًا مُمتِعًا، فإذا بكائن لا هو بالحي أو الميت، كائن غير مُحدَّد، أو مُدرَك بالعين المُجرَّدة أو غير المُجرَّدة، يأتي ويقلب كل ما اكتسبه الإنسان عبر القرنين الماضيين رأسًا على عقب، ويلهو بكل تصوراته عن الحاضر والمستقبل. هكذا صار يتحرك خفية بين الدول وعبر القارات، ليلاً ونهارًا، يصيب من لونه أبيض أو أسود أو غير ذلك من ألوان، من كان صغيرًا أو كبيرًا، من كان غنيًا أو فقيرًا، من كان متقدمًا أو لم يزل ينمو. لقد تجاوز في حركته وتأثيره كل الحدود والتوقعات، صار سيد العالم بلا منازع، وصارت سيدة العالم، الولايات المتحدة، جريحة مهزومة أمامه، ولم يعد للعالم الذي اعتقدنا أنه قوي اقتصاديًا وعسكريًا وعلميًا وصحيًا، وكان يتغنى دائمًا بإبداعه، سوى أن يلجأ إلى الأساليب والحيل القديمة التي لجأت إليها الحضارات السابقة حين داهمتها الأوبئة: الإغلاق والحظر، هكذا تم إغلاق المطارات والحدود، والمدارس والجامعات وأماكن العبادة والعمل والأسواق.. إلخ، وصار كل شيء تقريبًا افتراضيًا أو يتم عن بعد: التدريس، ومؤتمرات القمة الاقتصادية واجتماعات الحكومات، وشراء السلع وتشييع الجنازات ومراسم العزاء وانكشفت أنظمة ودول وحكومات وصار الإنفاق على العلم والتعليم والطب مطروحًا كبديل أفضل من الإنفاق على التسليح وصفقاته وعمولاته وغير ذلك من أوجه الإنفاق، وقد تراجعت العولمة حتى صارت محصورة في بيت أو مستشفى، وفي ظل العجز عن الوصول إلى لقاح أو مصل جديد، قال خبراء الطب والساسة إنه يمكن اللجوء إلى أدوية موجودة قديمة كانت تستخدم في علاج الملاريا أو الكوليرا، وتفاوتت مقترحات الناس ما بين مقترحات جادة تسعى جاهدة إلى الوصول إلى علاجات نافعة، واقتراحات مُضحِكة تدعو إلى الرثاء والسخرية كتلك التي قالت بقدرة الشاي على دفع الفيروس إلى أسفل ناحية المعدة فلا يدخل إلى القصبة الهوائية، وصار كل من هب ودب يفتي في الطب ويُقدِّم العلاج، وصارت الفتاوى الدينية لا تُقدِّم ولا تؤخر بل تدعو الناس إلى الصبر والصلاة، وهم ليسوا في حاجة بالفعل إلى من يدعونهم إلى ذلك في ظل هذا البلاء.

الأمر الغريب أيضًا أنه لا توجد حتى الآن حقيقة واحدة مُؤكَّدة حول هذا الوباء؛ من أين جاء؟ وما سبب ظهوره؟ وما خصائصه وأعراضه؟ وما سبل الوقاية منه؟ ومتى سيصل العالم إلى علاج مناسب له؟ لا أحد يعرف والكل يُدلِي بدلوه، والعالم في متاهة غير مسبوقة ولم يعد هناك من ملاذ للناس سوى الله وسوى بيوتهم.

إنه مجتمع المخاطر

نحن نعيش الآن في مجتمع أقرب ما يكون إلى ما سمَّاه عالم الاجتماع الإنجليزي أنتوني جيدنز مجتمع الخطر، ذلك المجتمع المشغول على نحو متزايد بالصحة والسلامة والأمن وما سيكون عليه مستقبله. وهو مجتمع قريب أيضًا ممَّا سمَّاه عالم الاجتماع الألماني أولريش بِك، مجتمع المخاطر وانعدام الأمن، وقد ظهر كتابه الأول بهذا العنوان عام 1986 والثاني بعنوان «مجتمع المخاطر العالمي» (ترجمة: علا عادل وهند إبراهيم وبسنت حسن، ونشر ضمن إصدارات المركز القومي للترجمة في مصر)، حيث أشار إلى أن المجتمعات كانت تواجه في الماضي تلك المخاطر الطبيعية فقط، أما الآن فهي تواجه مخاطر من صنع يد الإنسان إضافة إلى المخاطر الطبيعية وقد ذكر «بِك» خمسة من المبادئ الحاكمة لمجتمع المخاطر نعتقد أن أغلبها ينطبق على حالة عالمنا الآن في ظل هذه الهيمنة الطاغية لوباء الكورونا القاتل المخيف، هذه المبادئ هي:

أولريش بِك وكتابه «مجتمع المخاطر العالمي»

أولا أن المخاطر الآن تحدث على نحو ينجم نتيجة عمليات الإشعاع غير المرئية، إنها مخاطر تروغ من عمليات الإدراك المباشر لكنها قد يمكن رصدها ببعض الأجهزة العلمية المتقدمة.

أمَّا المبدأ الثاني للمخاطر لدى «بك» فهو يتعلق بالأثر الارتدادي، الذي يُشبِه حركة القوس المُرتدَّة بعد إطلاق السهم، الخاص بالمخاطر، فالمخاطر التي تنتجها سياسات اقتصادية أو علمية أو اجتماعية.. إلخ كي تستفيد منها في البداية، غالبًا ما ترتد إليها وتُلحِق الأضرار بها (الرأسمالية المتوحشة والسياسات النيوليبرالية وانهيار الأسواق والبورصات العالمية الآن) نتيجة للجشع غير المنضبط لأصحاب هذه السياسات، كذلك يشير هذا المبدأ إلى الطبيعة المعولمة للمخاطر المعاصرة، إلى اشتراك الجميع في الخوف وعدم الشعور بالأمن.

المبدأ الثالث: أن المخاطر المعاصرة مخاطر لا نهاية لها وتتطلب إجراءات مواجهة لا حصر لها، وإن إدارة الأزمات بحكمة أمر مهم في التعامل مع مثل هذه المخاطر والكوارث.

المبدأ الرابع: أن المخاطر طبقية الطابع، يتحكم في إدارتها فئة معينة هي من تمتلك المال والعلم، ولذلك فإن معرفة المخاطر معرفة قابلة للتسليع، إنها سلعة يمكن أن يحصل عليها من يمتلك ثمنها ويمثل خبراء المخاطر فئة متميزة هنا، إنهم يمثلون نوعًا من الاحتكار لسلعة قد تفوق في قيمتها النُّدرة الخاصة بالموارد الطبيعية.

المبدأ الخامس: أنه وعندما تسود المخاطر وتهيمن على المجال العام، يصبح الأمن العام مُقدَّمًا في أهميته على الأمن الخاص، ومن ثم يكون لسلطات الدولة الدور الغالب على غيره فتتراجع الحريات.

إن أفكار «بِك» عامة ذات طبيعة نيوليبرالية وضد ماركسية، كما أن مبادئه هذه قد انْتُقِدت كثيرًا من حيث كونها تتجاهل الواقع التاريخي للمجتمعات، فكل مبدأ منها يقوم بتمييز غير صادق (أو مُؤكَّد) بين الأنواع القديمة من المخاطر والجديدة منها، فالأوبئة القديمة وليست المعاصرة فقط ذات طبيعة مُعوْلَمة، وذلك لأن وباء الموت الأسود الذي حدث خلال القرن الرابع عشر وبعده، والذي أهلك معظم السكان في أوروبا، قد جاء من آسيا. كذلك لم يكن وباء بكتيريا الطاعون قابلاً للاكتشاف على نحو مباشر عندما ظهر في العصور القديمة والوسيطة، حتى عندما حدث ذلك لم يكن هناك إجماع عام أو نظرية حول السبب العلمي المُؤدِّي إلى المرض كما كان ذلك الطاعون ينشط على نحو مختلف، ووفقا للطبقات الاجتماعية، حيث كان الأكثر ثروة وقدرة على الحركة أكثر قدرة على الهروب منه مقارنة بالجماهير الفقيرة المُعدَمة.

(… وللحديث بقية في المقال القادم.)

د. شاكر عبد الحميد

أستاذ علم النفس - وزير الثقافة الأسبق في مصر

‫2 تعليقات

  1. اروع ما قرأت في فترة الحظر او العزل او الحجر الصحي
    استاذنا العالم الجليل المبدع د. شاكر
    رمز الإصالة والابداع

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock