لاشك أن التقدم الذى أحرزته الصين فى مواجهة وباء الكورونا ومحاصرته أصبح أمرا لافتا، وهو مادفع الكثيرين إلى محاولة تفسيره، وقد ذهب البعض إلى أن هذا النجاح يرجع إلى نظام الدولة الشمولي ومركزية القرار وفرديته مما يستدعى إنجازه فى فترة وجيزة، بل إن الخيال قد ذهب بهم إلى أن النموذج الصينى الشمولى هو نموذج المستقبل وأن النظم الديمقراطية سوف تشهد انحسارا كبيرا فى المستقبل القريب.
الرئيس الصيني شي جين بينج
والحق أن هذا التفسير قد يكون مناسبا للتوظيف السياسي، ولكن يبدو أن الأمر لاعلاقة له بالسياسة بهذا المعنى المباشر، إذ ان السؤال الأهم هو لماذا بدا الأمر وكأن الصينيين – في غالبيتهم – أكثر تقبلا لخطط الحظر وتقييد الحرية الشخصية مقارنة بغيرهم من الشعوب خاصة في المجتمعات الغربية، ما اسهم في المساعدة على مواجهة الوباء.
لايرجع إذن إلى النظام السياسى، بل يعود أساسا إلى الثقافة الصينية المجتمعية التى تمثل الكونفوشية عمقها التاريخى منذ القرن الخامس قبل الميلاد إلى الآن، فعلى الرغم من انفتاح الصين – النسبى – على الغرب فقد ظلت الكونفوشية ممثلة لهويتها الحضارية التى تمسكت بها وحافظت عليها.
التقاليد الكونفوشيوسية
ماوتسى تونج وكونفوشيوس
ترسخت تعاليم الكونفوشية فى أعماق الشعب الصينى، لكن الزعيم الشيوعى ماوتسى تونج عمل على محو تراث كونفوشيوس واعتبره ممثلا للثورة المضادة ورغم ذلك لم تتأثر شعبية الفيلسوف العظيم وهناك الآن مايسمى بالكونفوشية المتجددة وتقوم السلطات الشيوعية بإعادة طبع تعاليمه وقانونه بملايين النسخ وكذلك افتتاح عدد كبير من الأكاديميات الكونفوشية فى مختلف أنحاء البلاد
إن ماسبق يعنى أن الكونفوشية لم تقف عاجزة عن ملاحقة التطورات الحديثة، ولايمكن فى هذه الحالة وصفها بالتخلف أو الانتماء إلى الماضي، ففي مواجهة التفوق الاقتصادي والعسكرى الغربى منذ القرن التاسع عشر أُجبر الكونفوشيون الجدد على إعادة النظر فى الكلاسيكيات الصينية لتستجيب للثقافات والأيديولوجيات الأجنبية، ويعتبر شعارهم المعاصر «الدراسات الصينية من أجل الماهية والدراسات الغربية من أجل الوظيفة» معبرا عن رغبة الصينيين فى التكيف مع الغرب والمحافظة – فى الوقت نفسه – على الآراء الكونفوشية حول الإنسان والمجتمع حيث تدل الماهية – فى هذا الشعار – على المبادىء الأخلاقية والنظم الاجتماعية كما أقرها كونفوشيوس بينما تشير الوظيفة إلى التكنولوجيا الغربية.
ماو تسى تونج، وكونفوشيوس
الكونفوشية فى مواجهة الكورونا
أول ما يلفت الانتباه فى سيرة كونفوشيوس أنه قد دعا منذ آلاف السنين إلى ضرورة وحدة الولايات الصينية وأنه قد جعل التعليم – إذا استعرنا مقولة طه حسين – متاحا للجميع كالماء والهواء دون تمييز بين الطبقات بعد أن كان محصورا فى طبقة النبلاء قبل ذلك وكأنه – بذلك – كان يسعى إلى تحقيق هدفين سيكون لهما دور عظيم فى بناء الصين وهما: الوحدة السياسية على مستوى الولايات، والوحدة الاجتماعية على مستوى الطبقات فضلا عن هدفه السابق فى تحقيق وحدة ماضى الثقافة الصينية وحاضرها، وقد وصل الأمر إلى إقرار عبادة أرواح الآباء والأجداد وبناء معبد لأرواح الأموات فى كل منزل والحقيقة أن مبدأ الطاعة مبدأ محورى فى منظومته الأخلاقية فهو يركز دائما على طاعة الوالد والخضوع له وطاعة الأخ الأصغر لأخيه الأكبر وطاعة الحاكم والانقياد له وإخلاص الصديق لأصدقائه ولاشك أن هذه الطاعة غير القسرية والتكتل الاجتماعي الطوعي يعد من أسباب نجاح الصين فى المواجهة الجمعية لوباء الكورونا وغيره من الأزمات.
الإرادة والإيثار
من العوامل التى ساعدت الصينيين – أيضا- فى أزمتهم الأخيرة تمثلهم لتعاليم كونفشيوس التى تدعو إلى تدعيم الإرادة الإنسانية وضرورة المقاومة وعدم اليأس ومن أقواله فى ذلك «ليست العظمة فى ألا تسقط أبدا ولكنها فى أن تنهض كلما سقطت» ودعوته إلى إيثار الآخرين على النفس وتأكيد البعد الإنسانى وأن الرجل لايكون فاضلا إلا بأخلاقه لا بنسبه ولا بالوساطة والمحاباة وأنه ينبغى على الإنسان – رغم مايحيط به من أخطار – ألاينسى إخوته فى الإنسانية الذين يقاسون الآلام فالإنسان كائن اجتماعى ينبغى أن يضع المعيشة فى سلام وانسجام مع الآخرين فوق أى اعتبار وعندما سئل كونفشيوس عن معنى «خدمة الأرواح» في الكونفوشية قال «إذا لم يستطع المرء خدمة البشر فكيف له أن يخدم الأرواح»، وهكذا يتحد فى حكمته معنى الذات والمجتمع حين ينصح بأن يكون الإنسان متحكما فى نفسه وأن يستهدى بأصول آداب السلوك الاجتماعى.
إن الكونفوشية تهتم بالحياة أكثر من اهتمامها بالموت. يقول كونفوشيوس: «إذا كنت لم تفهم الحياة بعد فكيف تستطيع أن تفهم الموت» ولهذا فهو لايفكر فى ماهيات الحكمة والفضيلة والسعادة بصورة مجردة بل يربطها بحياة الناس وسلوكهم حين يقول مثلا «إن الحكمة هى معرفة الناس والفضيلة هى حب الناس» و«إن الإنسانية يمكن أن تجد السعادة فقط فى صورة مجتمع تعاونى لأناس أحرار» وإن الرجل الفاضل حقا هو من يرغب فى تثبيت أقدام الناس كما يرغب فى تثبيت قدميه ويريد لنفسه النجاح ويكافح ليساعد الآخرين لينجحوا.
مثلت هذه المبادىء البنية الأخلاقية التى ساعدت الصينيين فى تجاوز أزماتهم بشكل عام طوال تاريخهم التاريخ، لكننا مع ذلك لانستطيع أن نقول إنها – وحدها – سبب النجاح الأخير فى مواجهة ازمة تفشي وباء كورونا، فلاشك أن التقدم العلمى والتفوق الاقتصادى كانا الأساس فى هذه المواجهة وغني عن القول أن تعاليم الكونفوشية – كما أوضحناها سابقا – كانت عاملا قويا مساعدا فى هذا النجاح.
المراجع:
رضوى الأسود، «أديان وطوائف مجهولة».
فراس السواح «موسوعة تاريخ الأديان – الكتاب الرابع»
هـ . ج كريل «الفكر الصينى من كنفوشيوس إلى ماوتسى تونج»