رغم الاعتراضات الحادة من رجال الدين ومن المؤسسات الدينية في العالم كله على تجسيد شخصيات الأنبياء على شاشة السينما العالمية، إلا أن صناع السينما في كثير من دول العالم، وخاصة في هوليود، لم يأبهوا لتلك الإعتراضات، وقاموا بإنتاج أعمال كثيرة جسدت الأنبياء على الشاشة. كان النصيب الأكبر من تلك الأعمال يدور حول شخصية السيد المسيح عيسى بن مريم، حيث قدمت السينما العالمية ما يزيد عن 300 عملا فنيا يتناول حياته بأكملها أو مراحل من حياته ربما لأن فى سيرته مادة غنية لكل صناع الدراما.
بدايات مبكرة
اختلف التناول السينمائي لشخصية المسيح باختلاف الفترات التاريخية التي تم تناولها وكذلك تبعا للرؤية الفنية لصناع الأفلام التي تناولت شخصيته ففى الفترة من 1897حتي 1907 أي في بدايات السينما المبكرة تم إنتاج نحو 17 فيلما أمريكيا وفرنسيا وإنجليزيا وإيطالياً حول حياة السيد المسيح، ومن أشهر أفلام تلك الفترة فيلم «حياة وعذاب المسيح» عام 1897 من إخراج الأخوين «لوميير» وفيلم «المسيح علي الصلب» من إخراج «لوي فيواد» والذي كان صحفيا في جريدة «الصليب» المسيحية الفرنسية، وفيلم «المسيح يمشي علي الماء» من إخراج المخرج الفرنسي «جورج ميليه» عام 1900، والذي استخدم فيه لأول مرة في السينما أسلوب الخدع السينمائية الذي اشتهر به والمعروف باسم الطباعة المزدوجة حيث يتم طبع صورتين من الفيلم فوق بعضهما البعض في المعمل، وفيلم «حياة وموت السيد المسيح» الذي قدم فى عام 1904من إخراج الفرنسي «فرانك زاكا».
الإخوة لوميير
وفى عام 1912 أخرج الأمريكي سيدني أولكرت فيلم «من المهد حتي الصليب» ويعد هذا الفيلم من أوائل الأفلام الكبرى التي تناولت حياة عيسى عليه السلام وقام بدور السيد المسيح الممثل«روبرت هندرسون». وتم تصوير أحداثه في كل من مصر وفلسطين، حيث تم تصوير المشاهد التي استلهمت من الصور الشعبية السائدة عن قصص الإنجيل ولوحات مايكل أنجلو وعصر النهضة الايطالي وقام مدير التصوير الفرنسي الشهير «تيسو» بتنفيذ تلك اللوحات السينمائية بالأبيض والأسود.
بوستر فيلم «من المهد حتي الصليب»
جدل مستمر.. وأزمات متواصلة
ومع زيادة الأعمال الفنية التى قدمت عن حياة المسيح وما أثير حولها من جدل وانتقادات شهدت الأوساط الكنسية حوارا ممتدا وساخنا حول إمكانية وجدوى أن تتدخل الكنيسة وتمنع ظهور المسيح على الشاشة أم لا، وهل تقوم بمراجعة الأعمال التي تتناول سيرته قبل عرضها أم بعد العرض؟
هذا الجدل المتواصل حسمه البابا «بولس السادس» «1897- 1978» حين وافق على تصوير فيلم «يسوع الناصري» للمخرج فرانكو زيفيريللي وأعلن مباركته لهذا الفيلم، لكن موافقته لم تمثل إجازة أو صك مرور لكل ما يقدم عن حياة المسيح على شاشات السينما، فقد شهدت العلاقة بين رجال الدين والسينما حالة من الشد والجزر معظم الوقت وكان يسودها التوتر والصدام أحيانا. عرض الفيلم فى مصر في سينما واحدة لمدة أيام قليلة قبل رفعه بعدها بسبب اعتراض الكنيسة القبطية وعدد كبير من المسيحيين المصريين.
مقطع من فيلم «يسوع الناصري»
اعترضت الكنيسة أيضا على فيلم «ملك الملوك الناطق» الذي أخرجه «نيكولاس راي» عام 1961 وكانت أبرز الانتقادات التي تم توجيهها لهذا الفيلم هي أنه قدم المسيح على أنه أشقر أزرق العينين على عكس المعروف عن ملامح «عيسى بن مريم»، وقد تم عرض الفيلم بالقاهرة في منتصف الستينيات وأحدث جدلا هائلا أدى إلى سحبه من دور العرض بعد أقل من أسبوعين بسبب الحملة التى تعرض.
اعلان فيلم «ملك الملوك الناطق»
وفى عام 1975 أثار فيلم «المسيح» للمخرج «روبيرتو روسولينى» جدلا واسعا وكان مصدر الرفض أن المخرج «يهودى» الديانة مما أثار غضب المتدينين المسحيين واليهود فى نفس الوقت.
مقطع من فيلم «المسيح»
وفى عام 1988 كنا مع موعد مع أكثر الافلام اثارة للجدل وأكثرها تعرضا للهجوم والمنع وهو فيلم «الإغواء الأخير للمسيح» للمخرج «مارتن سكورسيزي» عن رواية لكزانتزاكس والذى تناول السيد المسيح بشكل اعتبره كل رجال الدين مسيئا حين صوره كشخص ضعيف أمام شهواته، وقد تعرضت دور العرض السينمائى حينها للإعتداء كما شهدت المحاكم الغربية دعوات قضائية تطالب بمنع عرض الفيلم ومصادرة نسخه وبالفعل تم منع عرضه فى عدد كبير من الدول فى حين أجازته بريطانيا بعد مدة طويلة من انتاجه بدعوى «نوايا صاحبه الطيبة والمخلصة».
اعلان فيلم «الإغواء الأخير للمسيح»
آلام المسيح وهجوم اليهود
لم تكن الأزمات التى صنعتها أفلام تناولت حياة السيد المسيح مثارة من جانب الكنيسة فقط بل امتد هذا الصدام إلى أصحاب الديانة اليهودية أيضا وربما صنعت أفلام عديدة هذا النوع من الصدام بين اليهود والسينما ويمكن اعتبار فيلم «آلام المسيح» الذي أخرجه ميل جيبسون عام 2004 أحد أشهر الأفلام التى خلقت توترا، ولقى الفيلم هجوما عنيفا من مسلمين ويهود وبالطبع مسيحيين أيضا رغم أنه يعتبر واحدا من أكثرالأفلام التي قدمتها السينما الأمريكية نجاحا وتحقيقا للإيرادات، إذ بلغت ايراداته 611 مليون دولار تقريبا رغم الصعوبات التى واجهها.
كان الفيلم قد تعرض لهجوم يهودى عنيف بلغ حد التظاهر أمام «شركة نيوز» فى نيويورك للمطالبة بعدم عرضه، كما شن اليهود حملات تتهم الفيلم بمعاداة السامية والإساءة لليهود وحذر «دوف هيكيند» السياسي الأميركي اليهودي المتشدد شركات الافلام من توزيع الفيلم وقال إنه «مسيء لجميع اليهود حول العالم»، لكن الفيلم صمد أمام كل حملات منعه وحقق نجاحا جماهيريا غير مسبوق.
اعلان فيلم «آلام المسيح»
سيظل الجدل مستمرا لدرجة الصدام بين صناع السينما الذين يبحثون عن فضاءات رحبة بلا قيود وبين رجال الدين الذين يتعاملون مع تلك الأعمال الإبداعية باعتبارها خرقا للثوابت وتجديفا فى حق الدين والرسالات السماوية.