رؤى

عن الأساسي والهامشي في ثقافتنا الشعبية (1-2)

عادة ما تتعرض المجتمعات لحالة من الارتباك وعدم الاتزان، في أعقاب الأحداث الكبرى مثل: الثورات العارمة أو الحروب أو الكوارث الطبيعية المدمرة، وغير ذلك من المشاهد المصيرية في تاريخ الأمم.

وتتسم حالة الارتباك تلك بعدد من الملامح الرئيسة، التي تُشكل في مجملها تفاصيل مرحلة انتقالية، وتلقى بظلالها على كافة مسارات الحياة، وتمثل “الثقافة الشعبية” لكل مجتمع طوقَ نجاةٍ للعبور من تلك المرحلة العصيبة، وتجليا واضحا لكل الانفعالات الجمعية للمجتمع.

تفسير الظواهر

ومؤخراً اقترب الكثير من المهتمين بواقع المجتمع المصري، وما طرأ عليه من تحولات ومظاهر غير معتادة –من وجهة نظرهم–  بما يسمى الثقافة الشعبية وهى تمثل واجهة كاشفة لكافة المتغيرات التي تصيب الشعوب.

وحاول بعض المنشغلين بالشأن العام، أن يفسروا ما تشهده الساحة المصرية من ظواهر ثقافية، والربط بينها وبين الأوضاع السياسية والاقتصادية من جهة، وبين الأوضاع العالمية والإقليمية من جهة أخرى.

لذلك وقبل أن نقترب من محاولة الفهم الدقيق للواقع المصري، علينا أن نقف أمام تأصيلٍ للمفاهيم التي نتعامل معها؛ حتى يمكننا أن نصل إلى مخرجات أكثر دقة.

وحتى يمكننا أن نحدد، مثلا إلى أي نوع تنتمي ألوانٌ من الموسيقى الجديدة، التي ظهرت في مجتمعنا، وإلى أي مدى يمكن أن تكون مؤثرة وجذابة.

كما يجب أن نفسر عددا من الظواهر الاجتماعية الأخرى، التي صارت تشكل ملمحا رئيسا في وعى المواطن مثل “هوس التريند” أو “عنف المجتمع وقسوته” أو “دخول ألفاظ جديدة على قاموس الحياة المعاصرة” ويعتبرها المحافظون “تجديفا” وتحريفا للغة.

أو نجاح بعض أنواع من الدراما سواء في قاعات السينما أو شاشات التلفزيون وتحقيقها نسب مشاهدة عالية، توصف من قبل بعض المتابعين من أصحاب الرؤى التقليدية المستقرة؛ بأنَّها خروجٌ عن الأعراف وتجاوزٌ للثوابت.

بالإضافة إلى تنامى ظاهرة التأثر بالآخر والانفتاح عليه. مع إهمال الثقافة المحلية لدرجة تصل أحيانا للازدراء، باعتبارها عائقا أمام التحضر أو شكلا من أشكال الرجعية والتخلف لدى الأجيال الجديدة.

ما هي الثقافة الشعبية؟

هذه بعض النماذج التي تُطل بقوة وتحتاج إلى قراءة دقيقة وهادئة؛ حتى نتمكن من الوقوف أمام تحليل علمي وواقعي للحالة الثقافية المصرية يمكن البناء عليها، وهذا بالطبع يحتاج على جهد كبير، ومشاركات متعددة. كما يمكن اعتباره مشروع اللحظة الراهنة، وبالقطع فلن نبدأ من عدمٍ؛ فقد سبقنا أستاذة عظام وسبحوا في هذا البحر المتلاطم الأمواج، وحملوا على أكتافهم أحجارا ثقيلة، سعيا لبناء أسس فكرية ونظرية؛ يمكننا الاستفادة منها. وربما ساهم مشروع التنوير المصري الأول في العصر الحديث الذى شاركت فيه عقول نابهة منها: “رفاعة الطهطاوي” و”محمد عبده” و”سلامة موسي” و “طه حسين” وغيرهم من الذين مهدوا التربة لوضع بذور لم تنبت جميعها، وتتحول إلى أشجار يانعات؛ لأسباب كثيرة موضوعية –في وضع المجتمع والعالم– وذاتية في بنية حركة التنوير ذاتها

وحتى لا نتشعب ونتوه في دروب مزدحمة بالقضايا المتداخلة؛ سوف نسير نحو واقع الثقافة الشعبية، ونبدأ بالتعريف الذى صكَّه المفكر البريطاني “جون ستوري” في كتابه “النظرية الثقافية والثقافة الشعبية” والذى ترجمه إلى العربية كل من د. “صالح خليل أبو إصبع” ود. “فاروق منصور” في عام 2014.

الإمام محمد عبده
الإمام محمد عبده

وفى هذا الكتاب وضع “ستورى” تعريفات عديدة لما يسمي ب “الثقافة الشعبية” من بينها أنَّها “تلك الثقافة المصنوعة فعلا من قبل الناس؛ لأنفسهم” أو أنَّها “هي الثقافة التي يرغب فيها أو يحبها كثير من الناس”. هذا إذن تعريف كمِّي للمصطلح الذى يثير الكثير من الجدل إزاء محاولات تفسيره، والتوقف عند محدداته، إلا أننا من خلال الجهد الذى بذله، والذى عاد ليقدم تعريفا آخر وهو أن الثقافة الشعبية هي “الثقافة المتبقية بعد أن قررنا ما هو ثقافة رفيعة”.

وبذلك فإنَّ مفهوم الثقافة الشعبية في دلالته المجردة، كان يرتبط بشكل كبير بغالبية أفراد المجتمع الذين يعيشون واقعا اجتماعيا مشتركا، في ظل ضعف مستوى التعليم وندرة الفرص في التعاطي مع ثقافة مغايرة هي “ثقافة النخبة”.

لذلك فإن الوعاء المجتمعي الذى يحتوى ثقافة شعبية ما؛ هو ذلك الإطار الطبقي “الاجتماعي– الاقتصادي” ومن ثم كانت الفجوة تتسم غالبا بصفات طبقية تتجلى في ملامح ثقافية وحضارية.

ربما كان هذا كافٍ مؤقتا لما نبحث عنه من تفسير للمصطلح الذي لا يكتمل دون التعرف على مكونات الثقافة الشعبية التي تتغير ولا تعرف الثبات وفقا لعدد كبير من المفكرين

فالثقافة الشعبية تتسع لتشمل كل التراث الفني والأدبي والمخزون القيمي وما تحمله الأمثال الشعبية، وما تتضمنه الحِكم والأقاصيص المتناقلة بين الأجيال والأساطير المتوارثة في مجتمع ما، وكل ما يجمع أفراده من عادات وتقاليد وأعراف، هي كل ذلك وهذا، ما يجعل العلاقة وثيقة للغاية بين مفهوم “الأيدولوجيا” وبين الثقافة الشعبية، فكلاهما يصنعان تفاعلا وتداخلا جدليا مستمرا ودائما.

شكسبير
شكسبير

بين النخبوي والشعبي

فقد كانت مسرحيات “وليم شكسبير جزء من المسرح الشعبي حتى القرن التاسع عشر بينما ينظر لها الآن باعتبارها أحد اشكال الثقافة الرفيعة “النخبوية” كذلك “بوتشينى ” وهو من عباقرة الموسيقى الأوبرا في القرن التاسع عشر وكانت موسيقاه تتسم بقدر عالي جدا من الرقى إلا أنها صارت أكثر شعبية وكذلك تم تقييم ” “بافاروتي ” ( 1935- 2007 )  كواحد من أهم صناع الموسيقى الأكثر شعبية رغم أنه من صناع الموسيقى الأوبرالية الأشهر في العالم.

هذه الأمثلة العالمية سوف نجد لها ما يعادلها من النماذج المصرية، فكثيرا ما تعاملنا مع فنونٍ وآداب باعتبارها ثقافة نخبوية ومع الوقت صارت جزءا أصيلا من الثقافة الشعبية.

كما حدث العكس حين استقبل الجمهور أعمالا فنية وأدبية بدرجة أقل لا لشيء سوى لأنهم اعتبروها لا ترقى لثقافة النخبة ثم سرعان ما صارت من كلاسيكيات الثقافة والفن المصري ولنا في عشرات النماذج والأمثلة في السينما والموسيقى والأدب وحتى السلوكيات والعادات الاجتماعية دليلا على ذلك فالواقع لا يعرف الثبات.. أما السكون فهو ضد الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock