منذ الحرب العالمية الثانية وتبعاتها لم تمر الإنسانية باختبار جماعي شديد القسوة كالذي تمر به الآن تحت وطأة وباء الكورونا، الذي صرح بعض خبراء علم النفس بأنه سيكون له تأثير نفسي مأساوي على البشرية أجمع، وأنه تسبب في صدمة اكتئابية جماعية لسكان الأرض قاطبة.
الخوف
الخوف سيد الموقف الآن. والخوف مبرر كاف لكل الحماقات الإنسانية.
النسخة المذعورة من الإنسانية هي النسخة الأسوأ على الإطلاق، لكنها أيضا النسخة المثيرة للشفقة حتى الدموع.
الخائف لا يتمتع بوعي كامل، لا يتمتع بمنطق متماسك، لا يفهم، لا يسمع، لا يميز، لا يأبه، لا يألو على شيء، الفرائص المرتعدة تمنح قوة عضلية وصوتا عاليا، يكون الإنسان، تحت الخوف، أقوى عضليا، وأضعف نفسيا وذهنيا، يتحول لثور هائج.
تعريف الخوف يلخصه المثل المصري: يا روح ما بعدك روح.
الخائف متناقض في تصرفاته، فتارة يتصرف بقسوة حيال إنسان يرغب في مساعدته، كالغريق الذي يريد أن ينجو فيتسبب في غرق من يريد أن ينقذه، وتارة يتصرف بعاطفية وحنان مبالغ فيهما إلى درجة تتدفق معها الدموع، وتارة يخرج عن المنطق إلى درجة تبعث على القهقهات.
ومن منا ليس خائفا الآن؟
الأقل خوفا هم الأجهل. وذلك من فضل الله عليهم. إلا أنهم خائفون رغم جهلهم.
مصر
جرت أحداث كثيرة في مصر لا تعكس سوى الخوف، بدا بعضها شديد القسوة، ولا منطقي، كرفض أهالي إحدى القرى دفن طبيبة أصيبت بوباء الكورونا. كان المشهد يدمي القلب، وأوسع الناس أهل القرية سبابا وتبكيتا وتوبيخا لفداحة ما اقترفوه، ولم يذكر احد أن أهل القرية أناس خائفون ولا يعلمون. هذا كل ما في الأمر: هم خائفون من العدوى. لا يفهمون كنه المرض الذي تحول في بعض القرى إلى سبب للعار والمعايرة، وكأنه سبة. وهم ليسوا متفردين في الجهل: منظمة الصحة العالمية حتى الآن تقول بإنها لا تعلم الكثير عن المرض، العلماء يقولون أنهم مازالوا يتباحثون في خصائصه، الأطباء ليست لديهم إجابات على سيل التساؤلات التي تتدفق فوق رؤوسهم، فلا يملكون إلا إجابة واحدة: اغسلوا ايديكم كويس. حتى رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون قال: آسف لأنني لا أملك كل الإجابات.
طبيبة الدقهلية وتجمع أهالي قريتها لمنع دقنها
هذا الجهل بخصائص المرض وكيفية انتقاله أو التعامل معه أو علاجه، مع توفر معلومة واحدة مؤكدة: هذا المرض يقتل. كل ذلك أدى إلى سلوك أهالي هذه القرية الذين لو كانوا في كامل قواهم العقلية ما كانوا ليأتوا بمثل هذه الفعلة.
سائق تاكسي يجبر رجلا صينيا على النزول من سيارته خوفا من العدوى. الرجل يركض مذعورا في الطريق، والسيارات تتهرب من مساعدته. مشهد أليم، ليس له تفسير إلا الخوف. والخوف شيطان لا يرحم. روح سوداء تتلبس عقل الإنسان فتنزع منه الرحمة والمنطق.
السائح الأسيوي الذي تعرض للتنمر من سائق التاكسي
بالرغم من التحذيرات، الناس تتدفق إلى الطرقات في الساعات التي ليس فيها حظر تجول. أشخاص يكتبون صفحات وصفحات عن جهل الشعب المصري وانعدام وعيه! ولماذا على المصريين أن يكونوا أكثر وعيا من الفرنسيين والإيطاليين والإنجليز والألمان؟
الناس تتكالب على السلع، والأدوية، والأغذية، لتخزنها. الناس تشعر بالقلق من المرض فتخزن السلع، ثم تشعر بالقلق من أزمة اقتصادية، فتذهب إلى العمل بإصرار. وأصحاب الأعمال يصرون على الاستمرار في العمل لإنهم خائفون، ولم يخفوا خوفهم، حتى نطقت أفواهم بأبشع و أغلظ ما يمكن أن يقال: ما يموتوا… أمال نخسر؟
ماذا عن العالم؟
ليس دفاعا عن الناس في مصر، ولست من أنصار الشوفينية، كما أنني لا أتبنى عادة العبارة التي يتبناها البعض تبريرا لفشل ما أو تقصير ما: ده مش بس عندنا ده في العالم كله.
إلا أنه، وإحقاقا للحق: ده مش بس عندنا ده في العالم كله.
لقد تسببت دول العالم الأول، أو العالم المتحضر، أو العالم الغربي، أو سمه ما شئت، في صدمة اكتئابية إضافية للإنسانية، من جراء تصرفات الجموع التي بدت مرتبكة برغم نظام التعليم الممتاز، والنظام الصحي الممتاز، والفن الممتاز، والعلم الممتاز، والتحضر الممتاز، والطعام الممتاز، والخدمة العامة الممتازة، وكل شيء ممتاز في ممتاز حداهم في البلد، حتى الفاكهة تبدو أنضر، حتى الخضروات تبدو صحية أكثر، بل إن فئرانهم تبدو أنظف، كل شيء كان يبدو تقفيل سوبر لوكس.
وفجأة: هؤلاء الناس خائفون.
ومع الخوف فقدوا كل شيء، كل الممتاز ذهب مع الريح، وتحت وطأة الخوف. انهالوا على المتاجر يشربون السلع شربا، ويتعاركون على ورق التواليت إلى درجة الحرب ثم يهرعون إلى الطرقات يرقصون ويحتفلون بالكرنفالات، وهي ردة فعل لأناس خائفين يرغبون في تحدي خوفهم، تماما كما أصر المصريون على النزول إلى صلاة الجمعة، أو التظاهر ضد الكورونا في الطرقات، أو التدفق إلى الشوارع دونما داع. كل هذه التصرفات التي يفسرها الناس بانعدام الوعي، ما هي إلا تصرفات خائفة، ورغبة عارمة في تحدي الخوف: «وأنا ولا يهمني الفيروس ولا اللي خلف الفيروس ده على فكرة».
المتاجر خاوية بسبب تهافت المشترين خوفا من كورونا
ثم يعودون للخوف، فينهال بعض المواطنين الألمان على بعض الفرنسيين الذين جاؤوا للعمل أو للسياحة، ويضربونهم بالبيض والطماطم، ويطردونهم من الصيدليات والمتاجر، ويضطر وزير الخارجية الألماني أن يعتذر عما بدر من المواطنين الألمان ضد الفرنسيين. فقد تم فصل بعض العاملين الفرنسيين الذين يعملون في شركات ألمانية من أعمالهم.
تنزل طبيبة إسبانية إلى الجراج لتركب سيارتها متجهة إلى المشفى الذي تخدم فيه مرضى الكورونا وتغامر بحياتها، لتجد الجيران وقد كتبوا على السيارة: فأرة معدية قذرة.
وعلى ذكر ماكرون في أول الحديث، فقد قال في آخر خطاب له للفرنسيين بما معناه أنه يقدر حجم التوتر والملل الذي يعانون منه، إلا أن ذلك لا يبرر العنف الأسري المتزايد ضد النساء والأطفال!
نساء العالم الأول الآن يشتكين من سوء المعاملة نظرا لمكوث الرجال في المنزل! وأين قوانين حماية المرأة التي كنا نرنو نحن هنا إلى عشر مقدارها؟
تخرج ممثلة خليجية على الناس لتطلب من الدولة أن تطرد كل الوافدين في بلادها. وتتعامل بعض الأنظمة بتنمر واضح مع الأغراب.
ثم يعاود هؤلاء الخائفون، من جميع الجنسيات، وبمختلف الثقافات، التصرف بعاطفية شديدة، وحنان مبالغ فيه، يثير البكاء والضحك معا.
فيقف الناس في الشرفات ليحيوا الأطباء وهم عائدون من المشافي، حدث ذلك في مصر، وحدث في إيطاليا، حتى بلغ الأمر بالإنجليز أن تجمهروا لتحية الأطباء، بينما كان الأطباء يطالبونهم في تلك الأثناء بالذهاب إلى بيوتهم وعدم التجمهر إن كانوا حقا يثمِّنون عملهم.
ثم يشعر الناس بالخجل من تصرفاتهم، ويريدون ان يثبتوا حسن طويتهم، فلا يقبلون بدفن ضحايا الكورونا في منطقتهم فحسب، بل يصرون على الخروج في الجنازات، والصلاة على ضحايا الكورونا.
مبالغات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن شدة القسوة إلى قمة الحنان، وكلها تصرفات خاطئة، وكلها تصرفات تنم عن هلع، وكلها تصرفات تشعر معها الإنسانية بالخجل.
الخجل
الخوف يدفعنا جميعا إلى الإتيان بأفعال غير محسوبة، ونحن سكارى بالرعب، ثم نعود لنخجل من أنفسنا. إلا أنني قلت في معرض الحديث أن العالم الأول تسبب في صدمة اكتئابية موازية لصدمة الكورونا.
نعم.
كان الإنسان يظن أنه تحت ظروف معينة، وبقدر معين من العلم، وبمستوى معين من الرفاهية، سيكون جيدا، وحسنا، وطيبا، ومتحضرا، وذكيا، وبدون علم منهم، كانت هذه المجتمعات قدوة للإنسانية: انظروا حين يحظى الإنسان بكامل حقوقه كيف يكون؟
لكنهم أخزونا جميعا، دون قصد منهم أيضا.
الإنسانية الآن تشعر بضآلتها أمام مخلوق لا يُرى بالعين المجردة. فلا علم نافع، ولا تحضر شافع.
وعدنا من حيث بدأنا.