نقلا عن: المصري اليوم
أتحدث اليوم عن تحفة فنية شاعرية اختلط فيها التاريخ بالحكى وأيضاً بالخيال، كتبه باللغة الفرنسية اللبنانى الفرنسى سليم نصيب بعنوان «ثومة»، وتُرجم إلى الإنجليزية والإيطالية بعنوان «أحببتك لأجل صوتك»، ثم أخيراً ترجمها إلى العربية الشاعر اللبنانى الراحل بسام حجار بعنوان «كان صرحاً من خيال»، ونشرته دار شرق/ غرب، وفى مصر دار العين فى نهاية 2019.
ومما لا شك فيه أن أم كلثوم هى أهم نجمة فنية فى التاريخ المصرى الحديث، وكُتِب عنها عدد كبير من المؤلفات بالعربية وبلغات أخرى. ربما كان أهمها كتاب نعمات أحمد فؤاد، الذى أرّخ لتاريخها «عصر كامل من الفن»، وكتاب رتيبة الحفنى «أم كلثوم معجزة الغناء العربى»، وكتاب إلياس وفكتور سحاب المكون من ثلاثة مجلدات، هذه الكتب تحدثت عن أم كلثوم من القرية حتى المجد وعلاقاتها الفنية وقربها من مراكز السلطة وزواجها وحياتها الشخصية. هناك كتابان مختلفان، الأول للكاتب اللبنانى حازم صاغية وعنوانه «الهوى دون أهله»، ونشر فى تسعينيات القرن الماضى، وهو يتحدث عن أم كلثوم الإنسانة بحلوها ومرها وعلاقتها بتاريخ مصر والفن فى هذه الفترة، بطريقة فنية رائعة مختلفة. المؤَلّف الثانى الذى أتحدث عنه اليوم مكتوب بلغة شاعرية رقيقة عذبة تجذب القارئ وتحلق به فى أجواء عاطفية فيها عبق التاريخ الذى يلعب دوراً كبيراً متخفياً بين جنبات النص. وهو ليس سيرة لتاريخ أم كلثوم، ولكنه يحكى خطوات حياتها عبر الغور فى أعماقها. أم كلثوم ليست بطلة الكتاب وإنما البطل هو أحمد رامى الذى يلعب دور الحكاء والراوى بجمال ورشاقة وخفة وشاعرية، فتشاهد حياة أم كلثوم من خلال أحاسيس وأفكار رامى. يلعب محمد عبد الوهاب دوراً كبيراً فى الكتاب، وبلطف شديد وبساطة نتعرف على تاريخ عبد الوهاب الفنى والشخصى، بداية من علاقته بأحمد شوقى ونهاية بتعاونه مع أم كلثوم والوصف الرائع للحفل الأول لأغنية إنت عمرى. وبرشاقة نعرف كيف نام عبد الوهاب على الأرض فى حجرة رامى فى باريس عند بدء المعرفة، وتعيش مع تقلبات العلاقة العاطفية الصوفية بين رامى وأم كلثوم. وتتداخل ألحان الشيخ أبو العلا مع أفكار طه حسين ومحاضراته المرتجلة فى مقهى الفيشاوى، مع ترجمات رامى للخيام من الفارسية مباشرة، ثم وهو يقرأ لأم كلثوم أشعاره وأشعار القدماء وهى تقول له: الشعراء مختلفون ففى أعماقهم شىء ما أنثوى، ليس فى أجسادهم، بل فى روحهم، إنى واثقة مما أقول. فبصحبتك مثلاً أشعر بالأمان. وفى الجلسات اليومية بين رامى وثومة لتحفيظها الشعر قال رامى: فتحت عينيها وداهمنى سوادهما حتى الأعماق. كانت شفتاها اللتان تتلوان أبياتى تفتران عن ابتسامة فانتابنى الإحساس فجأة بأننى عاشق وقع فى شرك العينين.
ونتعرف على سعدية وصيفتها التى حضرت معها من القرية. والأحداث اليومية البسيطة، ولكنها استثنائية، ومن أجملها وصف رامى وهو يعلمها آداب المائدة وكيف تأكل بالشوكة والسكين، ويتداخل ذلك مع القصبجى وعوده وألحانه وعواطفه وشجونه.
ثم ينتقل إلى عبد الوهاب الذى يقول لرامى: «لقد صنعتها وما عادت بحاجة إليك» بإمكانك أن تعود إلى صحبتى نرتاد المقاهى نتعرف إلى نساء ونسهر الليالى. ويحكى بلطف المعركة مع منيرة المهدية، والتى انتهت بالصلح والوئام.
وفى وسط كل ذلك ويوم افتتاح مسرحية كليوباترا لعبد الوهاب يموت سعد زغلول ويصف الجنازة الرهيبة بخيال خصب ممزوج بحقائق تاريخية. ويتجلى فى وصف حفل عيد ميلاد منيرة المهدية وفيه تغنى الطفلة أسمهان ومعها الملحن داود حسنى مكتشفها، بحضور ثومة وعبد الوهاب. ثم الخلاف بين أم كلثوم وعبد الوهاب وكيف غضبت أم كلثوم من رامى حتى أصيب باكتئاب ولم يغادر سريره لأسابيع حتى بدأ يكتب أغانى فيلم الوردة البيضاء لعبد الوهاب، وبين السطور يحكى ذهاب رامى إلى إمبابة حيث شاهد هناك الإخوان المسلمين وتجمعاتهم.
ودخلت ثومة المستشفى لإجراء جراحة فذهب إليها رامى قبل إجراء العملية، حيث جرى حديث شاعرى هامس رائع أعاد المياه لمجاريها وقالت له ثومة «لا أشعر بالاطمئنان إلا برفقتك».
ويحكى كيف صحبت ثومة رامى إلى أرض شارع أبو الفدا فى الزمالك التى اشترتها لبناء الفيلا فنعيش أحداث البناء والافتتاح. ثم سعادتها بالعلاقة مع القصر الملكى، وبعدها وفاة الملك فؤاد وكيف قالت أم كلثوم لرامى إنها تنوى الزواج. بعدها تزوج رامى وأنجب أولاده ثم تركت الزوجة البيت بعد سنوات بهدوء بسبب هيامه بأم كلثوم. وتطرق المؤلف بلطافة إلى ارتباطها بالملحن محمود الشريف وتدخل القصر لإفساد العلاقة، وكذا علاقتها بمصطفى أمين وزواجها من الدكتور الحفناوى.
وينتقل الكتاب إلى عام 1952 وصعود عبد الناصر وتدشين علاقة فنية من نوع جديد، ثم هزيمة 1967 وأثرها على مصر وعليها، ثم رحلتها فى المنطقة العربية التى تتداخل مع الأحداث السياسية وتليها وفاة عبد الناصر. لم يتطرق الكتاب لعلاقة ثومة بالسادات وزوجته، ولكنه يحكى بحزن الأيام الأخيرة لها ويصف جنازتها التى سار فيها رامى بجوار عبد الوهاب وكادت الجماهير أن تدهسهم.
https://youtu.be/RfjiFgJ6oAc
هذا كتاب فريد من نوعه يخلط التاريخ بالرواية ويمزج الحكى بالحقائق، هو ليس كتاباً عن أم كلثوم ولا رواية عنها، إنه قصيدة شعرية كتبها رامى عن أم كلثوم ولحنها المترجم الشاعر الذى أبدع فى ترجمته لكتاب جميل بلغة راقية بديعة.
قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك