«سمعت جدي يقول: كنت في أول تجريدي أستاذن والدي وأطلع إلى وادي المستضعفين بالجبل الثاني من المقطم وآوي فيه، وأقيم في هذه السياحة ليلا ونهارا، ثم أعود إلى والدي لأجل بره ومراعاة قلبه.. وكان والدي يؤمئذ من أكابر أهل العلم والعمل، فيجد سرورا برجوعي إليه، ويلزمني بالجلوس معه في مجالس الحكم ومدارس العلم، ثم اشتاق إلى التجريد فأستاذنه وأعود إلى السياحة» هكذا وصف «علي» حفيد الإمام «عمر بن الفارض» المُلَقَب بلقب «إمام العاشقين» بداية رحلة جده مع عالم التصوف في كتابه «ديباجة الديوان».
الإمام «عمر بن الفارض»
احتل جبل المقطم بالقاهرة على مر الزمان مكانة خاصة تكاد تصل حد التقديس لدي المتصوفة والزهاد حيث دأبوا على سلك دروبه طلبا للعبادة والتأمل والإبتعاد عن مظاهر الحياة الدنيوية وصخبها، حتى أن بعضهم أوصوا بأن يدفنوا في رحابه بمقابر سفح الجبل. تُرى كيف أكتسب هذا الجبل تلك المكانة شبه المقدسة لدى المتصوفة والزهاد على وجه الخصوص؟
أساطير جبل المقطم
أفاض مؤرخو مصر في العصور الوسطى في وصف جبل المقطم ونسبوا إليه الكثير من الحكايات التي تصل في كثير من الأحيان حد الأساطير، وتروي الدكتورة «سعاد ماهر» في موسوعتها المكونة من خمسة أجزاء عن مساجد مصر وتحمل عنوان: «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون» الكثير من تلك الأساطير، ومنها تلك القصة التي رواها المقريزي عن سبب تسميته «بجبل المقطم»: «أراد مصرايم ملك مصر إستخراج معدن الذهب والزبرجد والفيروز وغير ذلك من المعادن الموجودة بمصر بطريقة الصنعة -أي بواسطة الكيمياء- فجعل أمرها إلى رجل يقال له مقيطام الحكيم، كان يعمل في الجبل الشرقي فسمى به، واختصر من اسمه وبقى ما يدل عليه فقيل له جبل المقطم».
تضيف دكتورة سعاد أن من الروايات التي يذكرها بعض مؤرخو العصور الوسطى عن سبب تقديس مسيحيي مصر لجبل المقطم ومحاولة «المقوقس» شراء الجبل من «عمرو بن العاص» للإحتفاظ به، ما ذكره المؤرخ «أبو عبد الله القضاعي» عن «أن سيدنا عيسى عليه السلام قد مر هو وأمه مريم على هذا الجبل، فقالت أمه: يابني مررنا بجبال كثيرة ما رأينا أكثر أنوارا من هذا الجبل، قال: يا أماه يدفن هنا أمة من أمة أحمد أخي، فهذا الجبل غراس الجنة ورياضها».
وربما تفسر تلك الرواية التي أوردتها دكتورة سعاد نقلا عن «القضاعي» سر وجود كنيسة دير سمعان الحراز المحفورة بحضن جبل المقطم والتي تعد من أكبر الكنائس المصرية التي يحتفي بها أقباط مصر وتعد مزارا سياحيا يزوره السائحون من مختلف أرجاء العالم، وما يشاع من أسطورة نقل الجبل التي يتداولها البعض بوصفها إحدى المعجزات التي قام بها القديسون المسيحيون خلال العصر الفاطمي.
كنيسة دير سمعان
أما المؤرخ «ابن الزيات» فيروي رواية مغايرة يشير فيها إلى أن جبل المقطم كان أكثر الجبال أنهارا وأشجارا ونباتا، فلما كانت الليلة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام، أوحى إلى الجبال، أني مكلم نبيا من أنبيائي على جبل منكم، فتطاول كل جبل وتشامخ إلا جبل طور سيناء فإنه تواضع وتصاغر، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه، لم فعلت ذلك وهو به أعلم، قال: إجلالا لك يارب، فأوحى الله تعالى إلى الجبال أن يجود كل جبل بشيء مما عليه، فجاد كل جبل بشيء مما عليه، إلا المقطم فإنه جاد بجميع ما كان عليه من الشجر والنبات والمياه، فصار كما ترون أقرع. قال: فلما علم الله سبحانه وتعالى ذلك منه، أوحى إليه لأعوضنك عما كان على ظهرك ولأجعلن في سفحك غراس الجنة. لذا يقال أن كثيرا من المتصوفة والعباد يحرصون على الدفن بمقابر سفح الجبل على أمل أن يصيروا من «غراس الجنة».
جبل طور سيناء
أودية ومساجد جبل المقطم
لجأ الزهاد والمتصوفة على مر العصور إلى جبل المقطم، ولعل وادي المستضعفين الذي كان يسلكه إمام العاشقين «عمر بن الفارض» لهو أشهر أودية ذلك الجبل، يليه وادي الدجلة القرقوبي المطل على كهف السودان، ذلك الكهف الذي قيل عنه أن قوما من السودان نقروه وتعبدوا فيه، ويقال له أيضا كهف السادة، ومن الأودية التي ورد ذكرها في تراجم المتصوفة: «وادي الملك، وادي اللبلابة، وادي هس، ووادي الشيطان».
أما عن مساجد جبل المقطم فلعل أقدمها المسجد المعروف بـ«التنور» ويقال أنه عرف بهذا الاسم لأنه بنى مكان تنور فرعون الذي كانت توقد له فيه النار، فإذا رأى أهل مصر النار، عرفوا بقدومه فيجتمعون له. وقيل أن النار كانت توقد بالطرفا واللبان والصندروس ليرتفع الوباء عن أهل مصر.
ثاني المساجد الهامة بذلك الجبل، مسجد اللؤلؤة ويقال أن مكانه كان مشهورا بإجابة الدعاء، فلما أُخبر الحاكم بأمر الله بفضله بنى عليه مسجدا وسماه اللؤلؤة وكان بناؤه في سنة «406 هجريا».
مسجد اللؤلؤة
أما مسجد دكة القاضي فيروي عنه القضاعي أنه كانت هناك دكة مرتفعة عن المساجد في الجبل وكان القضاة بمصر يخرجون إليها لرؤية الأهلة وخاصة هلال شهر رمضان المعظم ثم بنى مكان تلك الدكة مسجد عرف باسمها.
ومن المشاهد الباقية بجبل المقطم مشهد الجيوشي الذي بناه الأمير الجيوشي بدر الجمالي وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وعلى ربوة منفصلة من جبل المقطم بنى صلاح الدين الأيوبي قلعته المعروفة بقلعة الجبل، وفي داخل القلعة أقام السلطان الناصر محمد بن قلاون مسجده الذي لم يزل باقيا حتى اليوم، ويعرف باسمه، وفي العصر العثماني شيد سليمان باشا والي مصر مسجده الذي يعرف باسم سارية الجبل، وفي القرن التاسع عشر بنى محمد علي مسجدا بالقلعة يعتبر أجمل ما شيد من مساجد ذلك الزمان.
قلعة الجبل
ومثلما كان جبل المقطم محراب تعبد للمتصوفة والعباد الزاهدين كان أيضا مقرا ومستقرا لهم بعد الممات حيث ضم الجبل الكثير من أضرحة الأولياء والمتصوفة مثل ضريح ابن عطاء الله السكندري، وضريح أبي السعود أبي العشائري، ويعد «عمر بن الفارض» أشهر من هام وتعبد بجبل المقطم حتى دفن بسفح الجبل بعد وفاته بالقاهرة سنة 632 هجريا الموافق لسنة 1235 ميلاديا، وأقيم ضريح ومسجد ابن الفارض، وأنشد فيه أبو الحسن الجزار قائلا:
«لم يبق صيب مزنة إلا وقد.. وجبت عليه زيارة ابن الفارض
لا غرو أن يسقى ثراه وقبره.. باق ليوم العرض تحت العارض»
ضريح ومسجد ابن الفارض
معلومات كلها جديدة شكرا للدكتورة نفيسة ع المقال الدسم موفقة دايما صديقتي الجميلة
تسلمي يا نعمات .. سعيدة أن المقال عجبك