في أول أغسطس عام 1798، وقعت معركة أبي قير البحرية بين الأسطولين الفرنسي والإنجليزي، وأدت هذه المعركة إلى إبادة أسطول بونابرت، وبذلك انقطع طريق التواصل الوحيد بين الجيش الفرنسي في مصر والأراضي الفرنسية، فأصبح بونابرت حبيس الأراضي المصرية. وفي 2 يناير 1799، احتلت عساكر أحمد باشا الجزار «والي عكا» قلعة العريش، لم تكن العريش في يد القوات الفرنسية، لكنها كانت منذ قديم الأزل جزءا من الأراضي المصرية، فكان هذا الاحتلال بمثابة اعتداء على الحدود المصرية، ويعد مقدمة للزحف على مصر، لذلك بدأ نابليون بالإسراع في تنفيذ خطته ــ المعدة سلفًا ــ باحتلال الشام. فلم تكن مصر هي الهدف الأوحد للحملة الفرنسية.
نابليون بونابرت
أحلام بونابرت
في عام 1789، أي قبل ما يقرب من عشرة سنوات من قيام الحملة الفرنسية على مصر، اندلعت الثورة الفرنسية، وكان من تداعياتها، أن أثرت بشكل حاسم علي الجغرافية السياسية في القارة الأوروبية والعالم بشكل عام، فقد ناصبت معظم الممالك الأوروبية فرنسا العداء. لقد خشيت كل أوربا من أن يصيب ممالكها ما أصاب فرنسا من اضطرابات سياسية، وإقامة نظام حكم جمهوري على أنقاض النظام الملكي الإقطاعي، ونزع امتيازات طبقة النبلاء. وكان من نتيجة ذلك نشوب صراعات عالمية، وحروب على امتداد أوروبا والشرق الأوسط، وقيام العديد من التحالفات.
لوحة تجسد احداث الثورة الفرنسية
ولما اشتد الصراع على النفوذ بين حكومة الثورة الفرنسية والإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية، لم تكن فرنسا قادرةً على مجابهة هذا الحلف بشكلٍ مباشرٍ، فقررت السلطات الفرنسية توجيه ضربةٍ استباقية لبريطانيا وحليفها العثماني، من خلال السيطرة على مصر وبلاد الشام. فلم يكن هدف الحملة الفرنسية احتلال مصر فقط، بل إن الوثائق الفرنسية تؤكد أن هدف الحملة الفرنسية كان أبعد من هذا بكثير. ويذكر دكتور محمد عبد الحميد الحناوي في كتابه «وثائق الحملة الفرنسية مصدر لتاريخ مصر الحديث» ما ورد بهذه الوثائق، فيقول: «إن بعض المسودات الخطية عن أهداف حملة الشرق على مصر، يتضح من قراءتها أن هدف الحملة الفرنسية لم يكن مصر فقط، بل إنها خطوة هامة للوصول إلى أراضى الدولة العثمانية عبر بلاد الشام، بغية تحقيق أهداف فرنسا في القضاء على تجارة الهند البريطانية عبر الطريقين البرى والبحري، والوصول عبر الأراضي التركية إلى روسيا للضغط على حكومتها وإجبارها على التحالف مع حكومة الثورة الفرنسية، أو على الأقل ضمان حيادها وعدم انحيازها للدول الأوربية الملكية، وبخاصة إمبراطورية النمسا.»
لقد كانت أحلام بونابرت تتجاوز احتلال مصر ولا تقف عند هذا الحد، فقد كان يسعى لتكوين إمبراطورية شرقية عظيمة، يكون هو على رأسها، ثم يعود إلى باريس بعد أن يمتلك الشرق والغرب، ليُعيد ذكرى الإسكندر المقدوني ويتوج قيصرًا على كل تلك الممالك والأصقاع. يؤكد ذلك ما جاء في مذكرات «بوريين» «السكرتير الخاص لنابليون بونابرت» من أن نابليون التفت إليه وهما سائران بالقرب من الشاطئ أمام عكا وقال: «بوريين.. إذا نجحت في فتح هذه المدينة، كما أعتقد أنني سأنجح، فإنني سأجد فيها كنوز الجزار «يقصد أحمد الجزار باشا والي عكا»، وأجد أسلحة تكفي لثلاثمائة ألف جندي، وعند ذلك أهيج أهالي سورية الذين يبغضون الجزار لظلمه، ويسألون الله صباح مساء أن أنجح في دخول عكا، ثم أسلح منهم جيشًا عرمرمًا، وأقصد دمشق وحلب، فينضم إليَّ القوم كمخلّص لهم من المظالم، ثم أسير بجيوشي لفتح الآستانة، وأنشئ في الشرق إمبراطورية عظيمة الشأن، تنقش اسمي على أحجار الأبدية، وربما عدت إلى باريس من طريق أدرنة وفيينا بعد أن أمحي من صحيفة الوجود بيت هابسبورج «لقب الأسرة المالكة في النمسا والمجر»».
أحمد الجزار باشا والي عكا
في شهر يناير عام 1799م «شهر شعبان 1213ه» بدأت الاستعدادات للحملة على عجل، يقول الجبرتي: «وفيه كثر الاهتمام والحركة بسفر الفرنسيس إلى جهة الشام، وطلبوا وهيئوا جملة من الهجُن وأحضروا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط، ثم رسموا على الأهالي «أي فرضوا على الأهالي» عدة كبيرة من الحمير ،وكذلك عدة من البغال، فطُلب شيخ الحمارة وأُمر بجمع ذلك، وكذلك الركبدارية «أي بيت أو إسطبل الخيالة» أمرهم بجمع البغال، فاختفى غالب أصحاب الحمير، وخاف الناس على حميرهم فامتنع خروج السقايين الذين ينقلون الما «يقصد الماء، لكنها هكذا عند الجبرتي» بالقِرَب على الحمير، وسقايي الجمال، والبراسمية، فحصل للناس ضيق بسبب ذلك.»
الجبرتي
الطريق إلى يافا
وفي يوم الأحد 10 فبراير 1799 «5 رمضان 1213» توجه الجيش الفرنسي إلى العريش. كانت القوات العثمانية والمماليك الفارون من مصر يحتلون العريش، فزحف عليها الجيش الفرنسي وواجه الجيش العثماني بها، ودار قتال شديد بين الفريقين انتهى بهزيمة العثمانيين والمماليك ليلة 15 فبراير، فاحتموا داخل القلعة، واستمرت قلعة العريش تقاوم مقاومة شديدة إلى أن سلَّمت يوم 20 فبراير. وبعد السيطرة على العريش انطلقت القوات الفرنسية صوب يافا. يقول عبد الرحمن الرافعي: «ثم تابع الفرنسيون زحفهم على سورية، فاحتلوا خان يونس، وهي أول بلدة في فلسطين، وساروا منها قاصدين غزة واستولوا عليها دون مقاومة تذكر، واستراح الجيش الفرنسي بها عدة أيام ثم استأنف سيره يوم 28 فبراير، فاحتل الرملة ثم اللّد.»
عبد الرحمن الرافعي
واصل بونابرت وجيشه الزحف نحو يافا، التي كانت مدينةً عالية التحصين بأبراجٍ ضخمة وتدافع عنها حامية كبيرة، ويقودهم عبدالله بك، لذلك فرض نابليون حصارًا على المدينة، وبعد قتال ضار انفتحت أبواب المدينة، فدخل إليها الجنود الفرنسيون، ليندلع القتال داخل أسوار يافا لمدة يومين، تمكن على إثرها نابليون من السيطرة على يافا في 7 مارس. يصف عبد الرحمن الرافعي بشاعة ما قام به الجيش الفرنسي بعد دخول المدينة فقال: «قتل داخل أسوار يافا 2000 قتيل من الجنود العثمانية، ودخل الفرنسيون المدينة وأعملوا فيها السيف والنار. نهب الجنود الفرنسيون يافا، وارتكبوا فيها من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان باعتراف المؤرخين الفرنسيين، واستمر النهب والقتل يومين متواليين.»
أصبحت جثث القتلى من الجنود العثمانيين وأهالي يافا تملأ الطرقات، وبدأ يدب فيها العفن، فظهر الطاعون بالمدينة، وبدأ الوباء يتفشى بعد دخول الفرنسيين، وأحدث فزعًا بين الجنود. يقول الرافعي: «وبذل نابليون قصارى جهده لمحاربة الوباء، فذهب جهده سدى وعجز عن مقاومة تلك الآفة الرهيبة التي ألقت الرعب في جيشه، واضطر ليرد إلى الجنود شجاعتهم أن يزور المرضى الذين أصيبوا بالوباء، ويخالطهم ويواسيهم، ويعرِّض نفسه لخطر العدوى، ليشدد عزائمهم ويقنع الجنود أن لا خوف عليهم من سريان العدوى.»
لوحة «بونابرت يتفقد ضحايا الطاعون في يافا»
بعد انتهاء المعركة وهزيمة القوات العثمانية، ألقى حوالي 3000 مقاتل من العثمانيين سلاحهم وسلموا أنفسهم للفرنسيين كأسرى حرب، بشروط اتفقوا عليها مع اثنين من قادة الجيش الفرنسي، ومن هذه الشروط أن تُضمن لهم أرواحهم بعد التسليم. وعندما شاهد نابليون جنوده يحرسون هذا العدد من الأسرى، زعق قائلًا: ما كل هؤلاء الأسرى؟ ماذا يريدون مني أن أفعل بهؤلاء الرجال؟ هل عندي من الزاد ما يكفيهم؟ ألديّ من السفن ما يكفي لنقلهم إلى مصر أو فرنسا؟… لكنه أدرك أن أمامه الآن كل هؤلاء الرجال، وعليه البت في أمرهم. عقد نابليون عددًا من المجالس الحربية المتتالية، طال الجدل والأخذ والرد وانتهى الأمر بأن تقرر إعدامهم جميعًا رميًا بالرصاص، رغم أنهم عزل من السلاح. اخذوا الجنود الأسرى إلى شاطئ بحر يافا وأطلقوا النار عليهم، حتى قتلوهم جميعًا… أكثر من 3000 أسير قتلوا بدم بارد في ذلك اليوم.
على أسوار عكا
نحو عكا تحرك بونابرت وجيشه، وفي الطريق إليها احتل حيفا دون مقاومة. وفي يوم 19 مارس وصل إلى أسوار عكا، فأخذ يضرب أسوارها وأبراجها بالمدافع، ودارت معارك طاحنة، ارتد على إثرها الفرنسيون بعد تكبدهم خسائر فادحة، وكانت هذه أول هزيمة مني بها بونابرت خلال الحملة على الشام، لكن هيهات أن يستسلم للهزيمة، فالاستيلاء على عكا مفتاح تحقيق كل أحلامه لبناء إمبراطورية في الشرق. استمر حصار بونابرت لعكا أكثر من شهرين.
في 25 مارس 1799، بدأت القوات الفرنسية بحصار مدينة عكا وحاميتها البالغ عددها قرابة 5000 جندي، والتي كانت تتلقى مختلف أشكال الدعم من السفن الحربية التابعة للأسطول الملكي البريطاني، بقيادة الأدميرال وليام سيدني سميث. ففي البداية أمر نابليون قواته باستهداف أسوار المدينة بالمدفعية وشن هجماتٍ عديدةٍ لاقتحامها. استطاعت تحصينات عكا الصمود في وجهها، ونفذت القوات الفرنسية خمس هجمات في الفترة من أول مايو حتى العاشر من الشهر نفسه دون التمكن من اختراق دفاعات عكا. لقد لعب الدعم الذي قدمه السير وليم سميث لقوات الجزار باشا دورًا لا يمكن إنكاره في صمود عكا، ومن ثم هزيمة بونابرت عند أسوارها. فلم يتوقف دور الأسطول البريطاني في هذه المعركة عند دعم قوات احمد باشا الجزار، ومد المدينة بالمؤن والمعدات والأسلحة والعتاد اللازم لاستمرار صمود القوات المدافعة عن المدينة، بل تعداه إلى ابعد من ذلك بكثير.
السير وليم سميث في عكا
كان بونابرت أصدر تعليماته بان تُنقل المدافع التي سيستخدمها في حصار عكا بحرًا على متن السفن الفرنسية التي نجت من موقعة أبي قير البحرية إلى حيفا، أبحرت السفن من دمياط نحو حيفا، فما كادت أن تصل، حتى فاجأتها سفن الأسطول البريطاني، فأسرت منها سبع سفن بما عليها من مدافع وذخائر سلمتها إلى الجزار باشا، فحرمت بونابرت من أسلحة هو في أشد الحاجة إليها، ومنحت قوات الجزار، في الوقت نفسه، مددًا جديدًا أعانه على الصمود أمام هجمات الفرنسيين. يقول الرافعي إن بونابرت كتب في مذكراته: «إن فقد هذه السفن كانت له عواقب وخيمة.»…. «لقد حرمني هذا الرجل من حظي «يقصد السير وليم سميث».»……… «إن آمالي قد اتجهت إلي الشرق، واستهوتني فتوحاته العظيمة، وصرفتني عن التفكير في أوروبا، ولكن هذه الأحلام والآمال قد دفنت تحت أسوار عكا.»
مع تفشي وباء الطاعون بين جنوده، ونقص المؤن والعتاد، يضاف إليها الفشل في إيقاف تدفق الدعم البريطاني لعكا، أدرك بونابرت أنها نهاية حلمه في إعلاء شأن فرنسا، ورفع علمها في سماء القسطنطينية. فأعطى أوامره، لمن تبقى من جنوده، بالانسحاب ليلًا إلى مدينة صور، ونقل المرضى والجرحى إليها لتلقي العلاج بها قبل العودة إلى مصر، مرسلًا خطابًا إلى أعضاء الديوان يزف إلى أهل مصر أخبار انتصاراته!!! فكبرياؤه لم يسمح له بإعلان هزيمته وفشل الحملة على بلاد الشام… وسقوط أحلامه على أسوار عكا.
المصادر:
أحمد حافظ عوض، نابوليون بونابارت في مصر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012.
عبد الرحمن الرافعي، تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر، الجزء 2، دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1958.
عبد الرحمن الجبرتي، عجايب الاثار في التراجم والأخبار، الجزء الرابع، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013.
أ.د. محمد عبد الحميد الحناوي، وثائق الحملة الفرنسية 1798-1801 مصدر لتاريخ مصر الحديثة، دار الوثائق القومية بالقاهرة.