منوعات

أذان الصلاة.. فن تألق ثم خبا (2)

ربما كنا محظوظين، فقد وصلتنا «حتى الآن» ثلاثة تسجيلات للأذان بصوت بلبل التلاوة والإنشاد الشيخ طه الفشني.. وتسجيلات الرجل تمثل ثروة فنية وروحية كبرى، ومنهلا يستقي منه عطاش هذا الفن الخالد.

لعل أشهر تسجيلات الفشني في الأذان تلك الصيغة البديعة والفريدة التي تركها لنا الشيخ من مقام الراست، وتتميز بقوة الاستهلال ووضوح النغم مع العبارة الأولى، كما تتميز برشاقة الجمل وتأنقها.. وكالمعتاد، كانت الحيعلتين ميدانا للإبداع واستعراض الطاقة الصوتية والخيال النغمي، يتبدى صوت الشيخ فيهما مليئا ثريا.. إنه أذان في غاية الجمال، غني بالعُرب والحليات والزخرفة الصوتية التي كان الفشني أحد أكبر فرسانها المقتدرين.

الأذان من مقام الراست بصوت الفشني

وترك الشيخ الفشني أذانا جميلا من مقام الحجاز، وإن كان ليس بثراء وقوة أذان الراست، لكنه يعد نموذجا تعليميا، للأذان السهل غير المجهد من هذا المقام، والحجاز من أكثر المقامات شيوعا في التأذين، إلى درجة أن الموسيقيين حينما يريدون عزف نغمات تذكر بالأذان لا يجدون طريقا أسهل وأوضح من استخدام هذا المقام.

أذان من مقام الحجاز بصوت الفشني

ومن التسجيلات التي ظهرت بعد عقود من رحيل الشيخ طه الفشني، تسجيل لأدائه أذان الفجر من مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، وتكمن أهميته في كونه أذانا للفجر تحديدا، حيث إضافة عبارة «الصلاة خير من النوم»، كما يكتسب أهمية كبيرة من كونه بمقام مغاير للتسجيلين المذكورين سلفا، إذ اختار الشيخ له مقام البياتي، وحمله بشحنة من الخشوع والشجن تليق بالأجواء الندية الروحانية لصلاة الفجر.

أذان الفجر من مقام البياتي بصوت الفشني

امتلك الشيخ الفشني صوتا عظيما وحنجرة نادرة، وكان قادرا على أداء أصعب القصائد وأعقد الألحان في سلاسة وجزالة وطرب، ويرى عدد من الباحثين الموسيقيين أن صوت الفشني يشغل مساحة ديوانين موسيقيين «أكتافين»، كما أنه امتلك القدرة على التطريب بكل درجات صوته، سواء في الدرجات الخفيضة «القرار» أو الوسطى أو العليا «الجواب». وكان الفشني مؤذنا بارعا، وعقب رحيل علي محمود، أصبح الشيخ طه كبير مؤذني مسجد الحسين.

تعامل الفشني مع عدد من كبار الملحنين، الذين رأوا فيه طاقة صوتية غير اعتيادية، ومقدرة على النهوض بأفكارهم الموسيقية، وعلى رأس هؤلاء الشيخ زكريا أحمد، ومرسي الحريري، وسيد شطا.. كما أدى الفشني بالطبع أعمالا من تلحين المشايخ علي محمود، ودرويش الحريري، ومحمود صبح، وإسماعيل سكر، وغيرهم من الأعلام.

النقشبندي

ومن أقوى ما وصلنا من هذا الفن بمقام الحجاز، أذان الشيخ سيد النقشبندي، ويتميز كما هو متوقع بقوة الصوت، وإحكام الجمل، وتضم عبارة «حي على الفلاح» الثانية تلوينا جميلا، حين لامس الشيخ مقام الحجاز كار، ليزيد من مسحة الشجن والطرب في أذانه، وهو تصرف ساهم في انتشار هذا الأذان وشعبيته، حتى غدا علامة من علامات شهر رمضان.

أذان الشيخ سيد النقشبندي

طوبار

ومن أصحاب الأصوات المؤثرة الخاشعة الشيخ نصر الدين طوبار، وكان يؤدي ابتهالات الفجر ثم يرفع الأذان كل يوم جمعة على الهواء مباشرة من مسجد الإمام الحسين، ويمكننا من خلال تعليقات الجمهور على «يوتيوب» أن نتأكد أن الخشوع والضراعة هي الأسباب الرئيسة لحب المستمعين لأذان الشيخ طوبار، الذي تتملكه روح الخشوع حد البكاء، ويتميز صوته ببحة مؤثرة.

الأذان بصوت الشيخ نصر الدين طوبار «بياتي»

ويبدو أن الشيخ طوبار كان يميل إلى اختيار الأذان من مقام البياتي، فله أكثر من تسجيل بهذا المقام، سواء من استوديوهات ماسبيرو أو أذان الفجر من مسجد الإمام الحسين.

أذان الفجر بصوت الشيخ طوبار – مقام بياتي

انتشر صوت طوبار في ربوع مصر، ومنها إلى أنحاء العالم الإسلامي، وتعددت زياراته للدول العربية والإسلامية، بل ودعي إلى عدد من الدول الغربية من أهما الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا حيث أنشد على مسرح قاعة ألبرت في لندن، وبلغ أثر صوت الشيخ على القلوب إلى درجة أن يسلم لسماعه من لا يفهم اللغة العربية… وكان فجر الجمعة من كل أسبوع، موعدا ينتظره محبو الشيخ في أرجاء مصر والعالم الإسلامي، كي تصافح آذانهم صوت طوبار في ابتهالات الفجر، التي جعلها الشيخ حية نابضة، تسمع فيها صيحات الاستحسان من آلاف المتوافدين على مسجد الحسين لأجل لقاء مباشر مع منشدهم الأثير.

 شعيشع

ترك لنا المقرئ الكبير الشيخ أبو العنين شعيشع أذانا فريدا، من مقام الراست، بثته الإذاعات المصرية والعربية عبر عقود، فصوت شعيشع من أغرب أصوات المشايخ وأندرها، فهو يعصر الحروف عصرا، ويضغط على مخارجها بقوة، لكن رغم ذلك يتميز صوته بلمعة وبريق في غاية الجمال.. وقد أدى الحيعلتين في أذانه أداء اتسم بالإطراب والثراء.

الأذان بصوت شعيشع

كان أبو العينين شعيشع صاحب أطول رحلة قرآنية عرفتها دولة التلاوة، فقد قرأ آيات القرآن الكريم باقتدار وتفرد على مدار 75 عاما، عاصر خلالها أساطين القراء، أمثال محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي، ومصطفى إسماعيل، وكامل يوسف البهتيمي، ليختم حياته شيخا للقراء بالديار المصرية، ونقيبا للقراء المصريين.

عبد الباسط عبد الصمد

ومن التسجيلات التي اشتهرت في العالم الإسلامي كله أذان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، بنفسه الطويل، وصوته شديد الرخامة، ويبدو أن الرجل سجل أذانه مبكرا قبل أن يطرأ الوهن على صوته بسبب المرض، فترك تسجيلا جميلا للأذان من مقام الراست.

أذان الشيخ عبد الباسط

والشيخ عبد الباسط هو الأوسع شهرة بين القراء في العالم، زار نحو مائة دولة، واتسمت استقابلاته بالحفاوة البالغة، وبحضور أعداد غفيرة،  كما حظي بتكريم عدد كبير من قادة وزعماء الدول العربية والإسلامية.

فيديو للشيخ عبد الباسط يرفع الأذان

وكان الشيخ يوسف البهتيمي صاحب صوت قوي صداح، وهو من تلك النخبة العظيمة من المشايخ الذين جمعوا باقتدار بين تلاوة القرآن وبين الإنشاد الديني.. وقد ترك لنا أكثر من تسجيل جميل للأذان، الأول، هو أذانه الشائع المشتهر من مقام الراست، ورغم جماله وجهوريته إلا أن كثيرين من عشاق الشيخ البهتيمي يرون أنه غير دال على مدى قوة صوت الشيخ وعظمة أدائه.

الأذان من مقام الراست بصوت البهتيمي

وأما صيغة البهتيمي الثانية للأذان فهي من مقام الحجاز، وهي تسجيل حي من أحد المساجد، وفيه يتبدى صوت الشيخ البهتيمي في عنفوان وقوة وطرب، لاسيما في الحيعلتين.

البهتيمي يؤذن من مقام الحجاز

ومن التسجيلات المتفردة للأذان، تسجيل المقرئ الكبير الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، وبالرغم من كونه من مقام الراست الشائع استخدامه جدا في التأذين، إلا أن الشعشاعي أداه بطريقة خاصة جدا، تتسم بالرصانة والجدية والهيبة، مما جعل هذا التسجيل عصيا على محاولات التقليد، أو ربما غير مرغوب في تقليده من الأصل.

أذان الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي- «راست»

وإذا كان الشعشاعي «الكبير» قد اختار مقام الراست لأذانه الإذاعي، فإن الشعشاعي الابن ترك لنا أذانا متميزا من مقام الحجاز، وبلون مختلف أيضا عن الصيغ التي ذكرناها من قبل، وفيها أيضا تلك التعريجة على «الحجاز كار» في عبارة حي على الصلاة الثانية.

أذان الشيخ إبراهيم الشعشاعي «حجاز»

وبتأمل تلك الأمثلة لصيغ الأذان التي توقفنا معها بأصوات كبار القراء والمنشدين المصريين، سنجدها يسيطر عليها أربعة مقامات، وهي «الراست» وكان له الحظ الوافر، ثم الحجاز، ثم البياتي، ثم السيكاة، وتحديدا بفرعها الشهير «الهزام».. فالمزاج المصري العام لا يستسيغ كثيرا الأذان بغير هذه المقامات الأربعة، كما يفعل بعض مشايخ الدول العربية، فتجد المستمع المصري غير حفي بأذان من الصبا أو النهاوند، وقد اشتهر قارئ مصري باستخداء مقام الكرد في تلاوته وأذانه، وهو الشيخ محمود محمد رمضان، الذي كان يقرأ بالكرد لفترات طويلة وليس مرورا سريعة كما يفعل غيره، ويشعر المستمع معه أن لديه قدرة كبيرة على تطويع هذا المقام، ليصبح مستساغا ومحببا.. لكن نموذج محمد رمضان في حقيقته هو مجرد استثناء يؤكد القاعدة، وأن المشايخ المصريين الكبار اقتصروا على الأذان من الراست والحجاز والسيكاة والبياتي.

أذان الشيخ محمود محمد رمضام من مقام الكرد

كما أن تتبع ما تركه كبار مشايخنا من صيغ الأذان يؤكد ندرة التأذين من مقام السيكاة، وتحديدا فرعها الذي يستخدمه القراء وهو «الهزام»، فبين الأسماء التي توقفنا معها لا يوجد تسجيل للأذان بمقام الهزام إلا للشيخ محمد رفعت، فإذا جئنا إلى الأجيال التالية، فربما كان الشيخ محمد عمران من أكثر من استخدموا مقام الهزام في أذان الفجر، وإن بدا على أذانه مسحة تأثر واضحة بأذان رفعت، كما إن له محاولة لتقليد الشيخ علي محمود في أذانه الشهير من مقام البياتي.

أذان الفجر للشيخ محمد عمران – مقام هزام

تُرى، أين ذهب كل هذا الجمال والجلال؟ ولم اختفت تلك البلابل المغردة من فوق مآذننا حتى وجدت الغربان الناعة فرصتها؟، فإذا شكونا من قبحها وإزعاجها اتهمونا بكراهية شعائر الدين، وبرفض سماع صيحة التكبير.. فلم نفتأ أن نقول: لا لغربان المآذن، ونعم لبلابلها.. لا لأذان المنفرين، ونعم لأذان علي محمود.

هيثم أبو زيد

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock